بحوث ودراسات

المأساة السورية.. البدايات وجذور البلاء 2 من 6

معاذ السرّاج

باحث في تاريخ سورية المعاصر وشؤون الحركات الإسلامية
عرض مقالات الكاتب

حزب البعث من القومية العربية إلى العلوية الطائفية

يتفق عدد من الباحثين والمؤرخين, على أن “حزب البعث”, الذي رفع رايته انقلابيو 8 آذار عام 1963, وحكموا باسمه لعقود طويلة, كان قد خرج عن مضمونة قبل ذلك بسنوات,  وأصبح استخدامه نوعا من التجاوز والتغطية على سياسات لا علاقة لها بالحزب ولا مبادئه ولا قادته وزعمائه التاريخيين.

كان قد تبعثر بالفعل, قبل ذلك بسنوات، وتحول إلى شظايا منذ أيام الوحدة وما قبلها, حين التحق بعثيون كثيرون بالأحزاب الوحدوية والناصرية، وترك بعضهم العمل وارتأوا العزلة, وأبرز مثال على ذلك الاستاذ جلال السيد أحد مؤسسي الحزب ومنظريه، الذي غادر الحزب منذ عام 1955, وهاجم بعض قادته واتهمهم بالطائفية والمصلحية, وحذا حذوه كثيرون خلال السنوات التالية.

في عام 1956, ترددت أحاديث في أوساط المجلس النيابي السوري حول وجود تنظيم طائفي سري داخل حزب البعث, ونُسب إلى منير العامودي من قيادة فرع حمص مهام تشكيل هذا التنظيم, كما ذكر بشير زين العابدين في كتابه “الجيش والسياسة”, نقلا عن أكرم الحوراني, ومن غير المستبعد أن يكون لهذا الأمر ارتباط ما بفكرة “تأسيس اللجنة العسكرية”, التي أصبح اسمها علما في تاريخ سورية المعاصر, والتي شكلها عدد من الضباط من أبناء الأقليات, في وقت قريب جدا من التاريخ المذكور, وبحسب رأي البعض فربما كان الأمر وراء الانسحاب المبكر للأستاذ جلال السيد من حزب البعث.

لم يترتب على إثارة هذا الأمر في البرلمان السوري أي نتائج, واستمرت اللجنة في عملها إلى وقت متأخر من الستينات, وكانت ذات تأثير كبير خلال المراحل التالية, الأمر الذي يشجع على الاستنتاج بأن اللجنة العسكرية, وليس حزب البعث, هي من خططت ونفذت, انقلاب آذار 1963, حيث لم يكن للحزب وجود فعلي كما أكد الكثيرون.

حول هذه المسألة, كتب الاستاذ نشوان الأتاسي, عن غياب عنصر المفاجأة عن الانقلاب, وعن السهولة واليسر التي رافقت تنفيذه, وكان الجميع يرقب ويشاهد, وكأنه امام فلم سينمائي, وخاصة قادة الدولة ومسؤوليها, ورأى نشوان الأتاسي, أنه بهذا المعنى لا يحمل صفة الانقلاب, ورجح أن بعثا جديدا غير حزب البعث الأصلي, هو من تولى كبر الانقلاب, وتساءل: ” فما الذي جرى إذن صبيحة الثامن من آذار 1963، هل يعقل أن تتآمر “جماعة انقلابية” مع “الحاكم” الذي تنوي الانقلابَ عليه… للانقلابِ عليه؟ وهل يعقل أيضاً أن يتآمر “الحاكم” مع “جماعة انقلابية” تنوي الانقلابَ عليه… للانقلابِ عليه؟”.

ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار كانا في بيروت, ولم يكونا راضيين عما حدث, كما قال مقربون منهما, وأكد هؤلاء أنهما ترددا كثيرا في الاستجابة لدعوة قادة الانقلاب بالعودة إلى سورية, والاشتراك في الحكم.. ثم قبلا على مضض.

وعلى أية حال, فلم يطل الأمر بهما, فمع حركة 23 شباط 1966, والانقلاب الدموي على حكم أمين الحافظ, سينتهي كل شيء. في تلك الحركة قُتل أكثر من خمسين من العسكريين والمدنيين, واعتقل أمين الحافظ وكثير من رفقائه, بينهم ثلاثون من القيادة القومية للحزب, من أرفع القيادات مثل ميشيل عفلق وشبلي العيسمي وصلاح البيطار واختفى آخرون مثل منيف الرزاز. لتكون النهاية الرسمية  للزعامات التاريخية, السياسية والأيديولوجية للحزب.

ثمة عامل آخر مهم يجدر التطرق إليه, فقد شهدت الفترة التي سبقت الانقلاب, أحداثا مثيرة, وسرت خلالها شائعات كثيرة حول انقلاب وشيك محتمل, حتى أصبح الأمر متداولا في الشارع السوري العادي, وفي أوساط الجيش, فضلا عن الحكومة ورئاسة الجمهورية, كما ذكر العميد مطيع السمان, وكان مديرا للأمن الداخلي وقتها “أصبح كثير من المطلعين ينتظر أحداثا بين دقيقة وأخرى ويستيقظ صباحا ويده على مفتاح المذياع لسماع الخبر المنتظر ثم يسأل هل حصل شيء؟ ما سبب التأخير؟”.

أورد السمان في مذكراته تفاصيل مثيرة, حول الأيام والأسابيع التي سبقت الانقلاب, وتحدث عن اجتماع لمجلس الأمن السوري دعا إليه الرئيس الدكتور ناظم القدسي, في أواخر كانون ثاني وأوائل شباط 1963, وأكد فيه كل ما سبق ذكره, ونقل عن الاستاذ العظم قوله في ذلك الاجتماع: “إن كثيرا من الناس يتحدثون عن قرب وقوع انقلاب, ويسندون المصدر إلى بعض الضباط, ثم استأنف كلامه بأن الذي أخبره هو السفير التركي (السفارة التركية تحت دار سكنه), والكل يعرف علاقة الأتراك بالأمريكان, الذين لهم كثير من العملاء والمخبرين في هذا البلد”.

ومما أكده السمان, أن أعداد الضباط الانقلابيين لم يكن يتجاوز الخمسين, وأنهم لا يحظون بتأييد لدى غالبية القوات المسلحة, ولدى الشارع السوري على حد سواء, حتى إن كوادرهم الحزبية لم تكن تتجاوز بضع مئات, كما هو معلوم, لكن الغريب في الأمر أن الرئيس القدسي, ورئيس الحكومة, وقادة المؤسسة العسكرية ظلوا مترددين تجاه هذا الانقلاب الوشيك, واكتفى الرئيس ناظم القدسي بقوله: “… طيب, طيب, منشوف”, تعقيبا على اقتراح مدير الأمن الداخلي مطيع السمان الذي قال إن الحل هو: “اعتقالهم (أي الانقلابيين) بدون تأخير لأن الأمر خطير بل أخطر من كل تصور..”. وأكد للرئيس “أن الجيش معك وبيدك وليس معه أبدا, وليس له أدنى سيطرة عليه, وأن قادة الجيش وأولهم رئيس الأركان وقائد سلاح الطيران ينتظرون كلمة منك”

الطريف في الأمر, والمثير للسخرية المريرة, ما ذكره مطيع السمان من أن رئيس الوزراء قال له مرة: “إذا وقع انقلاب أخبرني فوراً دون تأخير, لأذهب إلى السفارة التشيكية, وكان رئيس جمهوريتها صديقه, والسفارة على بعد لا يتجاوز مائة متر من الجهة المقابلة لداره, ويوم حدوث المتوقع وبعد إخباره لم يستطع الوصول إليها لشدة مرضه وضعف قواه, لذا لجأ إلى السفارة التركية الموجودة أسفل عمارة بيته”.

بالمحصلة, وبعيدا عن التفكير بعقلية المؤامرة, أو محاكمة تلك الفترة ورموزها, فإن التفاصيل التي ذكرها السمان وغيره من أصحاب المذكرات, والمهتمون بتاريخ سورية المعاصر, ربما تعطي صورة عن الكيفية التي كانت تُدار شؤون الدولة, بما في ذلك القضايا الحساسة التي تتعلق بمصير الوطن ومستقبله, وتستحق بكل تأكيد, وقفات ومراجعات كثيرة لفهم ما حدث في تلك الفترة, واستخلاص النتائج والعبر, خاصة إذا ما ربطناها بفترة الانقلابات العسكرية التي سبقتها, والتي حظي أكثرها, بدءا من انقلاب حسني الزعيم بتأييد ودعم غالبية الساسة والزعماء الوطنيين والأحزاب, ولم يكن انقلاب البعث سوى مثال ونموذج شرِّعوا من خلاله لهذه المرحلة الخطيرة من حيث يعلمون أو لا يعلمون.

  1. من القومية العربية إلى العلوية الطائفية:

من المؤكد أن تغييرات كثيرة طرأت على حزب البعث منذ تأسيسه وحتى وقوعه بين براثن الطائفيين, سواء من النواحي الفكرية أو طبيعة القادة والمسؤولين الذين أداروا شؤونه في الفترات التالية. لكن المؤكد بعض الأفكار الجوهرية بقيت هي صاحبة التأثير الأساسي الموجه لسلوك قادته وسياساتهم, بحسب كل مرحلة وطبيعتها.

وعلى سبيل المثال, فقد ظهر جليا أن “فكرة الانقلابية”, كان لها تأثير مباشر على بعض القادة, حتى قبل انقلاب البعث نفسه, ووفق هذه الفكرة فإن الحزب: “لا يقول بالإصلاح والتطور كوسيلة لتصحيح الأوضاع الفاسدة في الباد العربية. وهو يقول بالنضال في سبيل الانقلاب” كما يقول محمد حرب فرزات في كتابه “الحياة الحزبية في سورية 1905 – 1955” وينقل فرزات عن ميشيل عفلق في المنشورات الحزبية قوله: “البعث العربي يتلخص في كلمة الانقلاب”, الأمر الذي خالف فيه قواعد العمل السياسي والبرلماني, وذهب عفلق أبعد من هذا فقال: “أما هذا الانقلاب فيجب أن نصعد إليه صعودا داميا شاقا فالنضال ليس أسلوبا فقط بل هو غاية في حد ذاته”, وهنا أضاف عفلق, ودون شك, أمرا آخر لا يقل خطورة.

بشير زين العابدين في كتابه “الجيش والسياسة”, يؤكد هذه الفكرة, ويضيف بأن فكرتي “الحزب الأقلية”, و”الاشتراكية الانقلابية”, اللتين جاء بهما ميشيل عفلق,  “هما نموذجان من نماذج تعزيز الانقسامية التي يحملها الحزب في أيديولوجيته”, ومن يتابع مسار الحزب في مراحله التالية, سيرى أثر اعتماد هذه المنهجية كأسلوب, ليس مع الخصوم وحسب, وإنما “لجأ إليها لحسم الخلافات الداخلية”, كما حسب رأي زين العابدين وحازم صاغية, وكان عفلق نفسه أحد ضحاياها.

فكرة “الحزب الأقلية” هنا, تثير مسألة أخرى وثيقة الصلة, وهي أن قادة حزب البعث كانوا يعولون على كسب أقلية فاعلة, يقع على عاتقها إحداث التغيير في واقع المجتمع, ومما كتبه ميشيل عفلق في هذا السياق أن: “من خصائص المرحلة الانقلابية إذن أن تكون بيد أقلية تترجم حاجات الشعب العميقة”.

والواقع أن البعث, ورغم كل هذا التنظير, لم يكن حزبا جماهيريا ولم يمتلك قاعدة شعبية حتى تاريخ استلامه للسلطة, بل إنه استلم الحكم: “دون أن يكون لحزب البعث نفسه وجودٌ في سورية” كما يقول نشوان الأتاسي, الذي يضيف: “فلقد كان عدد الأعضاء “العاملين” المدنيين في الحزب عشية الثامن من آذار لا يتعدى الـ (400) عضو”. ومن هذا المنطلق فإنه وفور استلامه للحكم بعد انقلاب 8 آذار, سارع إلى فتح أبوابه أمام المنضمين الجدد,  وقدم لهم الإغراءات الكثيرة, عندما فتح أمامهم أبواب الجيش ومؤسسات الدولة على مصاريعها.

وأيا كان مقصد عفلق من فكرة الأقلية, فإنها التقت في جوهرها مع طموحات فئة من الشباب والضباط المغامرين من أبناء الأقليات, وشجعتهم على امتطاء هذه الأفكار وتوظيفها لتحقيق أهدافهم, ولعلها التقت أيضا بسياسة الانتداب الفرنسي, من حيث يعلم عفلق أو لا يعلم, تلك السياسة التي اعتمدت فكرة “الأقليات” في مساعيها لإحداث التغييرات الجذرية في المجتمع السوري, وأسست دويلة مستقلة لكل أقلية أو طائفة. وهكذا يبدو وكأن النهج الذي سار عليه الحكام الجدد, كان النتيجة الحتمية لمسارات متتابعة, وأفكار متقاربة أو حتى متطابقة في أكثر الأحيان.

وهكذا, وبناء على هذه الأفكار, التي قسمت المجتمع إلى فئات وناصبت بعضها العداء باعتبارها العدو الذي يجب تصفيته والانقلاب عليه وتغييره, كانت فئات من قادة الحزب جاهزة لتطبيق ذلك فور توليها مقاليد السلطة, وحدث هذا الأمر في سلسلة متلاحقة من المحطات, بدأت بتصفية الناصريين, وتسريحات الضباط, والتغييرات الواسعة التي طالت مؤسسات الدولة ووزاراتها, والملاحقات والاعتقالات التي لم تتوقف طلية السنوات التالية.

وعندما جاء حافظ أسد لعب على الوتر ذاته, وذهب أبعد من ذلك بكثير, فحول هذه الأفكار إلى مواد دستورية ونصوص قانونية, رسخت تقسيم المجتمع وصنفته إلى بعثي قائد وآخر مقود, وحول الحزب والجيش إلى معقل للطائفية, ولم يكتف بذلك فتفنن هو ومساعدوه في تأسيس الميليشيات الطائفية وعسكرة المؤسسات المدنية بما في ذلك طلاب الجامعات والمدارس, والاتحادات النسائية, وسلك مسلكا شديد العنف والدموية, وكأنه يستعد لخوض حرب ساحقة ماحقة لا تبقي ولا تذر..

نجح الحكام الجدد في تفكيك سورية مجتمعا ودولة, وتحويلها إلى مستوى منظمة سياسية بأجهزتها الإدارية والحزبية والسلطوية, وأصبحت أجزاء كبيرة منها خارج الدولة – السلطة, ومن يتابع تاريخ سورية في عهد حافظ أسد والطائفة, ستتمثل له هذه الفكرة في كل جزئية من حياة سورية والسوريين, في السياسة والجيش والتعليم والقضاء والاقتصاد والفن وغيرها. وانتهت عمليا فكرة الأمة الواحدة, وإن بقيت تتردد في شعارات جوفاء, باتت مملة ومثيرة للغثيان, حتى إن المجتمعات المحلية في المدن والقرى, خسرت الكثير من تماسكها وتعاضدها, نتيجة تغلغل الفساد, وانتشار الجواسيس وكُتّاب التقارير في كل بيت تقريبا, حتى لم يعد الأخ يأمن أخاه, ولا الأب يأمن ابنه.

وكان من جراء ذلك كله أن هذه السياسة المقيتة, أخرجت فكرة التنوع الاجتماعي والتعدد الإثني عن مضمونها, وحولتها إلى سلاح قاتل فتاك, بعد أن كان التنوع والتعدد هو السمة الأبرز للمجتمع السوري ولسائر المجتمعات في الشرق الأوسط, التي كانت إلى سنوات قليلة, مثلا يحتذى في التسامح والألفة والمودة بين سائر أهلها على اختلاف معتقداتهم ومذاهبهم وطوائفهم ومشاربهم, يتوادون ويتزاورون ويتهادون, ويبرُّ بعضهم بعضا في الأعياد والمناسبات, وفي الأفراح والأتراح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى