بحوث ودراسات

مراجعات للبطريرك 7 من 12

محمد القدوسي

كاتب وصحفي مصري
عرض مقالات الكاتب

مراجعة تشريعية
5 ـ المرميون من شرفة الإيمان.. هل نرميهم من شرعية الوطن؟

فى الفصول الأربعة السابقة، ناقشنا الشق التاريخى، ثم الشق القانونى من هذه المراجعة التشريعية لما طالبت به «الكنيسة الأرثوذكسية» على لسان الناطق الرسمى باسمها «الأنبا مرقص» من تعديل المادة الثانية من الدستور المصرى: «بحذف الألف واللام من كلمتى المصدر الرئيسى ليصبح التعديل المأمول أن: الشريعة الإسلامية هى مصدر رئيسى للتشريع»؛ وذلك «لضمان وجود مصادر أخرى». كما جاء فى التصريح نفسه.
وهو مطلب قلنا أن لا سبب له إلا الطائفية فى أسوأ صورها مماحكة وتعصبا، وعدا ذلك لا يمكن إرجاعه إلى أى من عوامل التاريخ، ولا القانون، ولا الواقع* ثم بدأنا هذه العناوين الثلاثة على الترتيب، لنصل فى هذا الفصل إلى الواقع، الذى يجعل ما يبدو متماسكا صلبا، من النظريات والأفكار المجردة، «يذوب» فى مواجهته الأولى معه، كما تذوب قطعة الثلج بمجرد وضعها على الطاولة فى درجة حرارة الغرفة. الواقع ـ إذا ـ محك مهم لاختبار صحة الفكرة وجدواها، خاصة لو كانت هذه «الفكرة» قانونا، وظيفته «تنظيم علاقات الأفراد داخل المجتمع، وحماية حرياتهم من الاستغلال أو الانتقاص» أى تنظيم هذا الواقع، الذى يؤكد ـ مع ما سبقت مناقشته من عوامل التاريخ والقانون ـ أهمية التمسك بالمادة الثانية من الدستور، والتى تنص على أن «الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع».
وما دمنا نتحدث عن «الواقع» فلنتذكر أن النص لا علاقة له بالتفتيش فى الضمائر ولا العقائد، وأنه لم يحل دون وجود «أديان» أخرى، وعقائد وأفكار شتى. لم يطرد المسلمون من لا يعتنق دينهم، ولا كان لدينا فى مصر ـ فى أى يوم من الأيام ـ «محاكم تفتيش» تراقب الناس فى سلوكهم اليومى: طعامهم وزيهم، زواجهم وموتهم، حديثهم وصمتهم، وتلزمهم بفتح الأبواب يومى الأحد والجمعة، ثم تحرقهم بتهمة قراءة كتب الإسلام. لم يكن لدينا فى يوم من الأيام تلك المحاكم التى قامت فى «الأندلس» بعد سقوطها فى يد كاثوليك قشتالة وأراجون، ومنها انتقلت إلى مناطق أخرى فى أوروبا، و فى أمريكا الشمالية، ومازالت مستمرة حتى اليوم تحت مسمى «محكمة الإيمان» التابعة للفاتيكان. وعلى ذكر «الأندلس» فإن ممن سمى نهاية دولة الإسلام فيها سقوطا الشاعر «فريدريكو جارسيا لوركا»، أبرز شعراء القرن العشرين، الذى أدلى بحديث لمجلة «جالو» الأسبوعية ـ قبيل قتله على يد قوات «الفالانج»* ـ قال فيه «لقد كان سقوط غرناطة الإسلامية (1492م) لحظة مشؤومة وإن كانوا يقولون عكس ذلك، لقد فقدنا منذ تلك اللحظة حضارة جديرة بالإعجاب والبقاء. فقدنا شعراً، وعلم فلك، وعمارة، وفنّاً، ورهافة حس لا مثيل لها فى العالم. لكى تتحول ديارنا بعد ذلك إلى مدنية فقيرة، جبانة، وأرض جدباء تسودها أسوأ أنواع البورجوازية الأسبانية». كما أدلى بحديث لمجلة «السول» قال فيه: «أنتمى لغرناطة التسامح. غرناطة ما قبل السقوط فى يد الكاثوليك». وتكملة القصة أن «لوركا» الذى قبض عليه ليقتل فى العام 1936، لم يتمكن أحد من العثور على جثته حتى اليوم! ولا حتى بين بقايا زملائه، الذين يفترض أنه أعدم معهم بتهمة «الشيوعية». ذلك أنه ـ وحسب شاهد عيان تكلم مؤخرا ـ فإن كتيبة «الفالانج» التى ساقت هؤلاء التعساء إلى حتفهم تحت جنح الظلام، راحت تضرب «لوركا» بكعوب البنادق طوال الطريق، كما راحت تشتمه وتؤنبه بسبب رأيه فى حضارة الإسلام. كانت ضربات قاسية، قاتلة، تهاوى تحت وطأتها جسد «لوركا» ليسقط ويتركه «الفالانج» يلفظ أنفاسه على الطريق، قبل بلوغ «حفرة الإعدام»، ما يفسر لنا لماذا عثروا فيها على جثث رفاقه كلهم، لكنهم ـ أبدا ـ لم يعثروا على جثته، ليموت ـ بالضبط ـ على النحو الذى وصفه فى إحدى قصائده، تحت القمر الذى طالما غنى له، ومن دون جثة!
هذا ما رأيناه، ونراه، على الضفة الأخرى من المتوسط، أما فى مصر فإن «الإسلام» هو دين «الدولة»، بمعنى مرجعيتها القانونية، وهى دولة ذات شخصية اعتبارية مستقلة عن مواطنيها، الذين يحق لهم اعتناق ما يرتضون من دين، بالضبط كما يحق لهم ـ فى معاملاتهم اليومية والتعبدية وكثير من الممارسات العلمية والفكرية ـ استخدام لغة تختلف عن لغة المعاملات الرسمية «العربية». هذا ما تكفله المادة الثانية من الدستور، وما تتيحه «الشريعة الإسلامية» من واقع. لكن دعونا، لحسم المسألة، نفترض أننا ألغينا هذه المادة، فما هى المرجعية البديلة؟ السؤال مهم، وقد أشرت فى المقال السابق إلى استحالة تطبيق شريعة «التوراة»، التى تريد لمصر أن تغرق فى قيئها، حتى لا «نتمسخر»* أكثر مما مسخرنا العدو الصهيونى، وحتى نحمِّله ـ على الأقل ـ مشقة قتلنا وامتهاننا ولا نفعلها نحن بأيدينا. كما أن اتخاذ أى من المنظومتين اللاتينية أو الأنجلو أمريكية مرجعية، يعنى ـ عمليا وكما أشرت فى المقال السابق أيضا ـ أننا نعتمد قانون «جستنيان» الإمبراطور البيزنطى الذى تواصلت معاناة مسيحيى مصر فى عهده ضربا وقتلا وتشريدا. ولو افترضنا أننا سنذهب إلى المصادر المسيحية الأخرى، غير الإنجيل الذى يحيلنا إلى التوراة، فإننا لا يمكن أن نطبق تعاليم مختلف الملل والطوائف، التى يعتمد كل منها «قانون إيمان» غير قانون الآخر (هل تختلف العبارة السابقة كثيرا لو قلنا: «يكفِّر» كل منها الآخر؟). ولو تجاوزنا هذا الاختلاف، فقط لنمضى مع الفكرة إلى نهايتها، دعونا نفترض أننا سنتخذ التعاليم «الأرثوذكسية» مرجعية، فما النتيجة؟
على مستوى «الواقع» ستكون كارثة بكل المقاييس، أو هذا هو الوصف المناسب لخطوة ستكون أولى نتائجها هى إهدار نسب مئات المسيحيين، هذا ما قاله «الأنبا شنودة» فى عظته الأسبوعية يوم الأربعاء 10 من فبراير الماضى، وعلق عليه «فادى حبشى» فى جريدة «الفجر» قائلا: «خرج عدد كبير من الأقباط الذين حضروا عظة البابا شنودة الأربعاء الماضى وهم فى حالة ذهول شديد، فقد أطاح البابا بهم وبأبنائهم من شرفة الإيمان الأرثوذكسى، حين نفى أن يكون قد صرح بشرعية زواج الأرثوذكس من الكاثوليك، فهناك عدد كبير من المنتمين إلى الكنيسة المصرية قد تزوجوا بالفعل منذ عشرات السنوات من كاثوليك، لكنهم كانوا يلجأون لإتمام زواجهم إلى الكنيسة الكاثوليكية التى اعترفت منذ عشرات السنوات بشرعية زواج الكاثوليك من أصحاب العقائد والديانات الأخرى. واعتبر عدد كبير من الأقباط المصريين أن أولادهم الذين تم تعميدهم فى الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية فى مأزق شديد بعد أن حولهم البابا بجملة واحدة إلى أبناء زنا» وحسب المقال نفسه فإن «الأنبا شنودة» قال: «إن الزواج يجب أن يكون بين شخصين متحدى الملة، وإذا اختلفا فإن القضاء المصرى يطبق عليهما الشريعة الإسلامية».
وقد تناولت جريدة «الشروق» الموضوع نفسه بخبر غطى مختلف جوانبه يقول ـ نصا ـ: «نفت مصادر كنسية بالمجلس الإكليريكى العام، ما نشرته إحدى الصحف بسماح البابا شنودة بزواج الكاثوليك من الأرثوذكس دون إعادة تعميدهم أو إعلانهم الانضمام للأرثوذكسية. وقال كاهن المجلس الأنبا بولا أسقف طنطا والمسئول عن الأحوال الشخصية: إنه «لم يصرح للقناة الرسمية للكنيسة بأن البابا وافق على الزواج من الكاثوليك، كما ذكرت الجريدة، بل كان يتحدث عن الزواج من السريان الأرثوذكس والأرمن الأرثوذكس، وهو أمر تقليدى كان يتم التأكيد عليه لا أكثر، ولا تغيير فى قواعد الزواج». وقال مصدر من كبار الأساقفة: إن الكاتدرائية الكبرى بالعباسية تلقت مئات الاتصالات بسبب الخبر، مضيفا أن «علاقات جيدة تربطنا مع الكاثوليك، لكن قرارا بالزواج المتبادل لم يتخذ، بل ولم يطرح أصلا للنقاش». وأضاف: «هناك اتفاقية تبادل اعتراف بالزواج والتناول مع الروم الأرثوذكس عمرها أكثر من ثمانى سنوات، ونحن (الأقباط الأرثوذكس) تقليديا فى وحدة كاملة مع السريان والأرمن، ولا توجد أى تعديلات على قواعد الزواج فى الكنيسة، وطرح قضية الزواج من الكاثوليك مسألة معقدة ولا يمكن التعامل بها بهذه السهولة». من جانبه قال الأنبا بطرس فهيم، نائب بطريرك الأقباط الكاثوليك: «لم نتفق مع الكنيسة الأرثوذكسية على أى شىء فيما يتعلق بالزواج والطلاق، فالوضع كما هو عليه إما أن يتحول الرجل أو المرأة الطالب للزواج للطائفة الأرثوذكسية، أو أن يتحول للطائفة الكاثوليكية ليكون عقد الزواج صحيحا». وأضاف: «لو كان الزوجان مختلفين فى الملة والمذهب، فسوف يتم تطبيق الشريعة الإسلامية عليهما لو طلب أيهما الانفصال، وهو أمر مرفوض».
المئات «حولهم البابا بجملة واحدة إلى أبناء زنا»، كما كتب «فادى حبشى» فى «الفجر»، ولا اعتراف بصحة بنوتهم إلا بأن يطبق القضاء المصرى عليهم الشريعة الإسلامية، حسبما أشار «الأنبا شنودة» فى عظته الأسبوعية، وهى إشارة تقر بالواقع، على الرغم من أن المقصود بها هو التحذير، الذى جاء صريحا واضحا فى قول «الأنبا بطرس فهيم» نائب بطريرك الكاثوليك إن تطبيق الشريعة الإسلامية «أمر مرفوض»! عظيم يا نيافة الأنبا، ترمونهم من شرفة الإيمان، وترفضون الشريعة التى تعترف بهم أبناء شرعيين، فإلى أين يذهبون؟ أليسوا مواطنين مصريين؟ ألا يحق لهم أن يحظى وجودهم على الأرض ـ ابتداء ـ بالاحترام والمشروعية؟
إن هؤلاء ليسوا إلا «قمة جبل الجليد» فى الكارثة التى تستعصم مصر بشريعة الإسلام حتى لا تقع فيها.
ـــــــــــــ

  • راجع الفصل المعنون: «مراجعة تشريعية ـ 1 ـ باب الشر»
  • الفالانج هو الاسم الشائع فى الأدبيات العربية، والنطق الصحيح للاسم هو «الفالانخى» أى «الكتائب». وهو حزب فاشى أسسه الجنرال «فرانسيسكو فرانكو»، وبواسطته أشعل، وخاض، وانتصر فى الحرب الأهلية الإسبانية، التى أسفرت عن مليون قتيل، و36 سنة من الحكم الديكتاتورى لفرانكو.
  • إشارة إلى «عيد المساخر» الذى انتهك احتفال اليهود به حرمة «المسجد الأقصى» فى الأسبوع نفسه الذى نشر فيه هذا الفصل من الكتاب فى صحيفة «الدستور».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى