ألقي هذا البحث في مدريد 26-6-2019
رؤية مستقبلية، والتجديد المطلوب:
لقد أدّت الأحداث الدامية بُعيد الثورات العربية أو تحويل الربيع العربي إلى جحيم إلى بروز أنماط جديد من التفكير، تحتاج دراساتٍ معمقة مستقبلًا لفهم تلك الأفكار وإلى ماذا ستؤدي، فقد تمّ إبّان الثورات ظهور عدة مصطلحات ربما أنّها كانت خاصة بالنخب الفكرية لكنها تحوّلت لمصطلحات يتداولها الناس بفهم أو دون فهم، وربما أنّ كثيرًا منها قد تم قولبته وتنميطه بحيث ترتسم صورةٌ ما في ذهنية من يسمع به، ومن هذه المصطلحات الأسلمة والعلمنة، والدولة المدنية، والدولة الدينية، والإسلام السياسي.
وقد جاءت كما ذكرنا نتيجة الأحداث التي رافقت الثورات العربية، فقد قامت الثورات ضد الاستبداد والأنظمة الفاسدة، وكانت تنشد بناء دولة العدل والكرامة والحرية، ولكن تمّ تشتيت الرأي العام بشكل الدولة ونظامها وحقوق الأقليات وواقع المرأة، وكثير من القضايا التي كان يمكن أن تختزل بأمر واحد وهو: إسقاط الاستبداد أولًا. وهنا لن نخوض بتعريف تلك المصطلحات، وصوابية بعضها وضبابية بعضها الآخر، ولكن سنتحدث عن المستقبل الذي ننشده للمنطقة العربية.
قد يبدو المستقبل غير مبشرٍ قياسًا بحجم الدمار الذي حلّ بالمنطقة، والتنازع المجتمعي الذي حصل والذي شكّل بطريقة أو أخرى مجتمعات أو كانتونات مجتمعية داخل الدولة، مما أثّر على النسيج المجتمعي أو أدّى إلى تهتكه في وصف أدق، وهذا يعني ليس زوال الوطنية بل زوال المواطنة، وهي حلم سعت إليه بعض النخب العربية، وحاولت أن تطبقه على الأرض فاصطدمت بمواطنة من نوع آخر، هي مواطنة الدكتاتور حيث يحدد فيها المواطن الصالح من المواطن الفاسد “إن مقياس الولاء في معظم أرجاء الوطن العربي هو الولاء لشخص الحاكم بكل ما هو عليه، ولهذا كثر عندنا الانتهازيون والمتسلقون والمنافقون والإمعات، وتباعد أو أُبعِد أصحاب الرأي الذين يرفضون أن يكون دورهم في تسيير أمور أمتهم هو دور المصفق والمكبر والباصم، ومن المؤلم حقًا أنّ أصحاب الرأي هؤلاء هم دائمًا أول ضحايا معظم الانقلابات التي وقعت في الوطن العربي، ولا أظن أن سجونًا ضمّت هذا العدد الضخم من المفكرين والمخلصين لوطنهم مثل ما ضمته السجون العربية على مدى نصف القرن الماضي. فالانقلابيون يخافون دائمًا حرية الرأي، ويخافون الفكر، ولهذا أقفرت ديارنا من الكلمة الحرة الشجاعة إلا ما ندر”. [1]
وقد أدّى تراجع الربيع العربي أو لنقل القضاء على موجته الأولى لقناعة راسخة لدى غالبية المفكرين العرب أن ثمة موجة ثورية قادمة ستنهي الثورات المضادة، وقد تكون تلك الثورات في قلب الدول التي دعمت وموّلت الثورات المضادة.
بغية صرف الأنظار عن الواقع المزري الذي عاشه المواطن العربي، وتحطيم الذي المستقبل الذي كان يحلم به بعد موجة الثورات المضادة، فقد ترافق مع الانقلاب الذي حصل على أضخم الثورات، الثورة المصرية بروز مجموعة من الأفكار، التي جاءت تحت مسمى التجديد لم تكن طبيعية ولم يكن نتيجة ظروف قاهرة عاشها المواطن، بل كانت تخيف المواطن من أمور صنعها النظام الجديد أو لنقل كان الغرض منها تشتيت الرأي العام عن عودة الديكتاتورية، واستخدم التنظيم المشبوه “داعش” فزاعة للتخويف من الإسلام.
مصطلح التجديد، وقد استخدم هذا المصطلح تحديدًا في الدين
الإسلامي، وضرورة العمل على ذلك وقد جاء بعدة أسماء وصفات براقة كالتنوير،
والإصلاح، وتجديد الخطاب الديني، وقد فُهم المصطلح عند غالبية من تصدّى لهذه
القضية على أساس نسف الدين أو التغيير في الثوابت علمًا أنّ مصطلح التجديد هو
مصطلح إسلامي، ويعني إعادة النضارة للقديم، وليس نسف القديم، حين تتوقف أمام موجة
(التجديد) لا تقف أمام الظاهرة فحسب، بل أمام غالبية الشخوص المتصدين لهذه الدعوة
بتقديم أنفسهم حاملين لها، فهي (أي الدعوة إلى التجديد) صحية إن قامت على أسس
صحيحة، فلا بدّ من تطورات تحدث في حياة الناس، ولكن الملفت أن غالبية من يتصدى
لمشروع التجديد يعانون ضعفًا على مستوى العلم، وتذبذبًا في العقيدة، وخللًا على
مستوى المنهج، ويستخدمون الاستشهاد في غير موضعه سواء على مستوى النص الديني، أو
النص البشري، والأغرب في كثير من الحالات تجد عندهم سوء فهم للغة العربية من حيث
المفردة أو الجملة، وهنا يكون التوظيف أقرب إلى لي عنق النص، على المستويين اللذين
أشرنا إليهما، أما الكارثة التي تجمع كل هؤلاء فهي السعي الحثيث لإرضاء الآخر، ومحاولة
تقديم إسلام يتناسب مع القيم الغربية، دون أن يقتربوا من مشكلاتها أو حتى التعرض
للنصوص الدينية لدى الآخر التي تدعو لمحو كل مخالف، بل يقفزون عليها ويقدمون تجارب
البشر كأنموذج يحتذى في التجديد، متناسين أن كل هؤلاء يعملون مجتمعين للحفاظ على
هوية الغرب المسيحية، وقد تعالت أصوات تدعو إلى علمنة الإسلام أو لبلرته كما حصل
سابقًا عندما ظهرت دعوات لمركسة الإسلام، فسقطت الماركسية وبقي الإسلام “وحين
أفلس الماركسيون ادّعوا أنّ ثمة حلفًا وروابطًا بينهم وبين الإسلام، كما فعل خالد
محي الدين حين كتب مقالًا مطولًا في روزا اليوسف: ولماذا لا نضيف للماركسية بعدًا
روحيًا؟”. [2]
ومازالت الدعوات تتوسع في طلباتها حتى وصل الأمر إلى إنكار السنة والإبقاء على
القرآن الكريم، ومن ثمة تفسير القرآن وفق الأهواء تحت عنوان فهم عصري للقرآن! والمتتبع
لهذه القضية يجد أنّ ثمة جهاتٍ خارجية تدعم هذا التوجه وعلى رأسها مؤسسة “راند”
الأمريكية التي تسعى لصناعة إسلامٍ جديد بات يعرف بين كثير من المفكرين
الإسلاميين بالإسلام الأمريكاني[3]
“وأن تعتمد على الخبرات السابقة أثناء الحرب
الباردة في مواجهة المد الفكري الشيوعي، وأن تستفيد من تلك الخبرات في مواجهة
التيار الإسلامي المعاصر عن طريق دعم قيام شبكات وجماعات تمثل التيار العلماني
والليبرالي والعصراني في العالم الإسلامي؛ لكي تتصدى تلك الشبكات والجماعات لأفكار
وأطروحات التيارات الإسلامية التي يصنفها التقرير بالمجمل بأنّها (تيارات متطرفة)
كما يؤكد التقرير على الحاجة لأن يكون مفهوم الاعتدال ومواصفاته مفاهيم أمريكية
غربية، وليست مفاهيم إسلامية” [4]
وقد استعين بنموذج “داعش” لتخويف الناس من الإسلام وقد تم دمج مصطلحات
متنافرة من حيث المعنى كالفاشية الدينية والاستبداد الديني، وهذا مخالف لروح
الإسلام ومنهجه “ولأن الإسلام دينٌ يؤمن بالله، ولا يقرّ بالمذهبية المغلقة
ولا بسلطة “الإكليروس” رجال الدين، فإن الإسلام لا يمكن أن يتحول إلى
نظام دكتاتوري مستبد، ومن ثمة فلا مجال فيه لمحاكم التفتيش والاضطهاد أو الإرهاب
الروحي”. [5]
[1] د. أنيس قاسم، تأملات في الاحتلالين الصليبي والصهيوني – ص 16 , الدار العربية للكتاب – ليبيا تونس ط1، ١٩٧٥
[2] ينظر، د. مصطفى محمود، لماذا رفضت الماركسية
[3] أول من استخدم هذا المصطلح، كان سيد قطب في 1952 كتابه دراسات إسلامية وقد ورد هذا المصطلح في الصفحة 119 الأمريكان وحلفائهم إذن؛ يريدون للشرق الأوسط إسلامًا أمريكانيًا.
[4] سوسن الزعبي، مؤسسة راند وصناعة إسلام معاصر، موقع رسالة بوست، بحوث ودراسات 18- 6- 2019
[5] علي عزت بيجوفيتش، الإعلان الإسلامي، ترجمة محمد يوسف عدس، مكتبة البخاري للنشر والتوزيع القاهرة ط1 ص 108