بحوث ودراسات

العثمانيون قادمون (معركة ديو البحرية ١٥٠٩م) 2 من 2

عامر الحموي

كاتب وأكاديمي سوري
عرض مقالات الكاتب


* معركة ديو البحرية ١٥٠٩م:

وهي النكسة اﻷولى للقوات الإسلامية البحرية وبداية السيطرة اﻷوروبية (ممثلة بالبرتغال أوﻻً لمدة ١٠٠ عام) على المحيط الهندي و السيطرة على بعض سواحل شبه الجزيرة العربية والهند وأفريقيا.
قامت المعركة بين البرتغاليين بقيادة “ألبوكرك فرنسيسكو” بسفنهم الحديثة المزودة بالمدافع، بمهاجمة الأسطول المملوكي الرابض في ميناء ديو بقيادة حسن الكردي في ساحل الملبار الهندي. هذا الهجوم الفجائي أدى إلى خسارة المماليك أسياد المحيط الهندي سابقا أسطولهم البحري أمام حداثة السفن البرتغالية المزودة بالمدافع الكبيرة رغم قلة عددها، ونجا حسن الكردي وقلة من جنده، هرب على إثرها إلى جدة ليدير شؤونها، وسيطر البرتغاليين على سواحل المحيط الهندي وعلى سواحل شبه الجزيرة العربية فاحتلوا ظفار ثم عدن على يد القائد البرتغالي ألفونسو دي ألبوكيرك؛ كما احتلت مسقط، من أجل بسط النفوذ البرتغالي بشكل كامل على التجارة التي تمر عبر الخليج العربي بين الهند وأوروبا، وعقد البوكيرك حلف مع إسماعيل الصفوي ضد المماليك وحلفائهم العثمانيون والبنادقة -وهو بداية الحلف التاريخي بين الطرفين.
لم يصطدم المماليك بالبرتغاليين في معركة بحرية أخرى تُنهي وجودهم، ففي ذلك العام ١٥١٦م هُزم السلطانُ قانصوه الغوري في معركة مرج دابق ولقي مصرعه، فقبض شريف مكة الشريف غالب أبو البركات على الأمير حسن الكردي وقتله لتجبّره وعسفه وكان في مكة حينذاك، وكان العثمانيون هم المحفّزون له، وبهذا انتهى الدور المملوكي للأبد، ولم يتمكنوا من مواجهة البرتغاليين، وأصبح عبء ذلك على العثمانيين فيما بعد.

ونزل البرتغاليون ميناء ينبع قرب المدينة وأرادوا هدم المسجد النبوي والكعبة الشريفة تحقيقا لحلم ملك البرتغال السابق هنري الملاح ولكن الله أنقذ العالم اﻹسلامي بدخول العثمانيين قلعة المسلمين الأخيرة بقيادة سليم اﻷول للتصدي للبرتغاليين بعد ما قضى على قوة الصفويين حلفاء البرتغاليين واحتل عاصمتهم تبريز بعد معركة جالد إيران ١٥١٤م، وقضى على قوات قانصوه الغوري في مرج دابق ١٥١٦م -الذي ساعد الصفوين في حربهم ضد العثمانيين، وفي أثناء وجود السلطان سليم في القدس جاءته مفاتيح الحرمين الشريفين مرسلة من قبل الشريف أبو البركات غالب حاثة له على حماية أراضي المسلمين من الصليبيين، فتوجه إلى مصر وقضى على دولة المماليك في الريدانية ١٥١٧م حيث تنازل له هناك الخليفة العباسي عن الخلافة لتنتقل لأول مرة للبيت العثماني إيذانا ببدأ قيادتهم للأمة وتحرير البلاد العربية وطرد الصليبيين منها، وهذا ما تم بعد توفيق الله عز وجل، فقد تم طرد البرتغاليين من البحر الأحمر عام ١٥١٧م، وتم تحرير الجزائر في نفس العام بعد أن ضم أسطول خير الدين بربروس للأسطول العثماني.
وجاء بعده ابنه سليمان القانوني الذي أنهى الوجود البرتغالي في منطقة خليج عدن و بحر العرب، بعد أن حرر عدن ١٥٣٨م بمساعدة الأحباش المسلمين (الصوماليين) ولم يسمح للتجار المسيحيين بتجاوز مدينة المخا نحو البحر الأحمر وحرم عليهم دخوله حفظاً على الحرمين الشريفين.
و قام السلطان سليمان ومن ثم ابنه سليم الثاني بالقضاء على الوجود الإسباني وحلفائه من الصليبين في شمال إفريقيا (والذين كانوا يحتلون كامل المغرب العربي -بعد طردهم للعرب والمولدين من اﻷندلس) فتم فتح طرابلس الغرب ١٥٥١م من فرسان مالطا وتونس ١٧٧٠م من الإسبان وبقيت المغرب مع السعدين، -في البداية كان هناك تعاون بين العثمانيين والسعديين في إنقاذ مسلمي الأندلس وتحرير الجزائر ولكن الوضع تغير بعض الشيء بعد استتباب الأمر للعثمانيين، حيث تعاون حاكم المغرب غالب السعدي مع فيليب الثاني ضد سليمان القانوني ولكن في زمن أحمد المنصور السعدي أرسل العثمانيون قوة ضخمة ساعدتهم على الانتصار في معركة وادي المخازن ضد الثالوث اللاتيني الإسبان والبرتغاليين والفرنسيين. وهكذا تمت إعادة بلاد شمال إفريقيا للمسلمين مرة أخرى عن طريق العثمانيين.

  • ولكن كان من أهم نتائج معركة ديو البحرية ١٥٠٩م:

١- تدمير الأسطول المملوكي الإسلامي المسيطر على الحيط الهندي وانتقال السيطرة البحرية عليه للأوربيين (البرتغاليين بداية).


٢- انتقال طرق التجارة الدولية والنظام الدولي البحري في المحيط الهندي من يد المسلمين إلى يد البرتغاليين، وهنا أصاب دول شمال إيطاليا منبع النهضة الأوروبية الكساد الاقتصادي فتوجه علماؤها وكبار رجال الدولة وتجارها إلى القوتين الناشئتين الأوروبيتين إسبانيا والبرتغال.


٣- حلول اللغة البرتغالية بداية محل اللغة العربية بعد سيطرتهم على طرق التجارة الدولية ثم الفرنسية فالإنجليزية حين استتب للأخيرة الأمر في السيطرة على طريق الشرق البحري عبر رأس الرجاء الصالح، وقد حاول سليم الأول جعل اللغة العربية اللغة الرسمية للخلافة العثمانية بعد دخوله البلاد العربية، ولكن قادة جنده اعترضوا خوفا من أن يستغل ذلك إسماعيل الصفوي ويقوم بما قام به تيمور لنك مع بيازيد الصوفي مستخدما النعرة القومية للقضاء على الخلافة الإسلامية. لكن ذلك لم يمنع سليم الأول بعد فتحه للبلاد العربية من إرسال طلاب العلم إلى الأزهر الشريف لتعلم اللغة العربية وجعلها أحد أركان تولي المناصب الإسلامية وجاء ابنه سليمان القانوني ليخط المصحف الشريف بيده ثماني مرات وهكذا فعل الكثير من الخلفاء العثمانيين بعده.


٤- التنصير بالحديد والنار ومحاكم التفتيش بدعم من الباباوية لكثير من الدول الإفريقية مثل كينيا ومدغشقر و تحول القارة الإفريقية إلى أغلبية مسيحية بعد أن كانت الأغلبية للمسلمين فيها وكذلك حدث في بعض الدول الآسيوية مثل الفليبين وتيمور الشرقية.
٥- بداية انتشار الثقافة الأوروبية التي رافقت التقدم الصناعي الأوربي والسيطرة الأوربية على تلك المنطقة ولم تستطع الثقافات المحلية غير الإسلامية مواجهة الثقافة الأوربية، لذلك صب الأوروبيون حقدهم الصليبي على المسلمين.


٦- انتشار تجارة الخمر والحشيش والمخدرات والتجارة السوداء وما رافق ذلك من انحلال خلقي وانتشار تجارة العبيد وخاصة الأفارقة، حيث كان يتم نقلهم لقارات العالم الجديد بعد رفض سكان تلك القارات الانصياع للأوربيين.


٧- كالكتا العاصمة الروحية للهندوس التي تعد منبع التسامح والعيش المشترك في الهند بين المسلمين والهندوس لأكثر من ثمانمائة عام قام ديجاما بعد سيطرته عليها وعلى سواحل الهند بقتل كل الرهبان الهندوس الذين عارضوه في حربه التطهيرية ضد المسلمين حتى تحولت كالكتا إلى مدينة التعصب الديني الهندوسي واتخذت من وقتها قاعدة ثانية بعد غوا عاصمة الهند البرتغالية (المنطقة التي انتصر قرب سواحلها البرتغاليون على المماليك)، وبقيت كالكتا كذلك حتى احتلال الإنجليز لبلاد البنغال بعد معركة بلاسى ١٧٥٧م وحين أعلنت بريطانيا سيطرتها على الهند رسميا عام ١٨٥٨م بعد قضائها على الإمبراطورية المغولية الإسلامية، حيث أصبحت كالكتا العاصمة الرسمية للهند البريطانية حتى عام ١٩١١م حين بنت بريطانيا نيودلهي قرب العاصمة المغولية الإسلامية دلهي (دهلي) ونقلت إليها مركز الحكم (وسيكون هذا مقالي القادم).


٨- نشوء التحالف الصليبي الشيعي اليهود في سواحل المحيط الهندي وبحر العرب -وخاصة بعد سيطرة بريطانيا على فارس- والذي استمر حتى عصرنا الحاضر.


٩- لعب البحارة اليهود دورا كبيرا في الأسطول البرتغالي وخاصة أن كثير منهم كان على معرفة بطريق رجاء الصالح حين دخلوا كجواسيس للعالم الإسلامي وخاصة المغرب ونقلوا ما استطاعوا السيطرة عليه من خرائط للبرتغال خاصة -التي احتضنتهم بعكس الإسبان-، وعندما احتلت إسبانيا البرتغال على يد ملكها فيليب الثاني عام ١٥٨٠م بعد مقتل ملكها سبيستيان في معركة وادي المخازن رفض اليهود المسيطرون على طريق الرجاء الصالح إعطاء أي سر عن الطريق للإسبان بل أعطوه لعدوتها هولندا حيث كانت هولندا تعتمد في تجارتها مع الشرق على البرتغال فانقطع باحتلال الإسبان للبرتغال حبل وريدها الاقتصادي هنا قامت بالقرصنة وقام كثير من اليهود البرتغاليين الذين كانوا يعملون في البحرية البرتغالية بإفشاء طريق رأس الرجاء الصالح لهولندا حيث سارع موريس ملكها باحتلال رأس الرجاء الصالح (بعد سقوط عرش البرتغال على يد الإسبان لمدة ٦٠ عاما) ووصل الهولنديون الهند واحتلوا اندونيسيا وكذلك قامت إليزابيت ملكة بريطانيا بإنشاء شركة الهند الشرقية البريطانية ١٦٠١م وكان أغلب أعضائها من القراصنة اليهود الذين فروا من محاكم التفتيش الإسبانية وأنشأ حليفها موريس بعد ثلاثة أشهر شركة الهند الشرقة الهولندية بمبلغ أكبر من البريطانية بخمسة أضعاف من تمويل المرابين اليهود وبدأ الحلف اليهودي الكالفيني الأنجليكاني بالظهور على مسرح التاريخ حتى سيطر الهولنديون على عرش بريطانيا بمساعدة شركة الهند الشرقية البريطانية ونصبوا وليم أوف أورانج الثالث ملكا على بريطانيا بما يسمى ثورة ١٦٨٨م المجيدة، ولَم يكن يتكلم لا هو ولا ابنه الذي خلفه على العرش اللغة الإنجليزية وحقق اليهود بذلك حلمهم حيث أعطاهم وليم حق تأسيس مصرف بريطانيا وسك العملة البريطاني عام ١٦٩٤م ليسيطروا بذلك على إقتصاد بريطانيا الامبراطورية التي أصبحت بواسطة شركة الهند الشرقية والغربية لا تغييب عنها الشمس وبالتالي سيطر اليهود بذلك على الاقتصاد العالمي.


١٠- نتج عن ذلك أيضا ضعف القوة المملوكية وتحول أنظار الأمة للعثمانيين بعد سقوط أغلب العالم العربي بيد الإسبان في الأندلس وشمال إفريقيا، وبيد البرتغاليين الذين سيطروا على سواحل شبه الجزيرة العربية و وصلوا ينبع، وقوي بهم قرن حليفهم الصفوي فاحتل أراض من شرق الدولة العثمانية وعزم على احتلال العراق والسيطرة على الجزيرة العربية واقتلاع الحجر الأسود مرة أخرى وربما تطبيق وصية هنري الملاح لولا دخول العثمانيين للمنطقة و تحولهم من اقتحام قلب أوروبا حتى الأندلس لإنقاذ المسلمين هناك، و الانتقال إلى حماية بيضة الإسلام ومهده وأرضه المقدسة فنالوا شرف ذلك وتحولت الخلافة من العرب إليهم -حيث تنازل لهم الخليفة العباسي المتوكل على الله الثالث عن الخلافة لسليم الأول- وتم على أيديهم تحرير كافة البلاد العربية وتصدروا حماية كل المسلمين في العالم والدفاع عن أرضهم ومساعدة الشرقيين منهم. ولكن رغم ذاك خرجت من أيدي المسلمين طرق التجارة العالمية الشريان الاقتصادي لهم و تراجعت عالمية اللغة العربية مقابل اللغات الأوروبية وخاصة الإنجليزية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى