بحوث ودراسات

مراجعات للبطريرك 5 من 12

محمد القدوسي

كاتب وصحفي مصري
عرض مقالات الكاتب

مراجعة تشريعية

3 ـ مغالطة ذائعة الصيت حول نص دستورى!

ناقشنا فى الفصلين السابقين ـ أو قل أشرنا إلى ـ الشق التاريخى من هذه المراجعة التشريعية، ويبقى لدينا ـ قبل أن نختم بنظرة على الواقع ـ  الشق القانونى، الذى نبدأ تناوله مصححين مغالطة، تواطأ على نشرها الفرقاء، وتركتها على حالها فيما نقلته سابقا عن بعضهم، مؤجلا  كشف الغطاء عنها إلى مكانه المناسب. هذه المغالطة تقول إن المادة الثانية من الدستور المصرى تنص على أن «الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع»، بينما نص المادة يقول: «الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، و(مبادئ) الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع».

  • وأنبه ـ أولا ـ إلى أن المادة تتحدث عن «الشريعة» لا عن «العقيدة» وبينهما فرق بديهى وأساسى وشاسع، هو فرق ما بين «القانون» و«الملة». وعلى الأصل فإن «الالتزام» بـ«الشريعة» لا يستوجب «الإيمان» بـ«العقيدة».
  • ثم إن المادة المشار إليها تتحدث عن «مبادئ» الشريعة، لا عن «الشريعة» كلها، ولفهم الفرق الواضح ـ لمن يصر على عدم الفهم ـ يمكن الرجوع إلى المادة الأولى من القانون المدنى، التى تقول: «إذا لم يوجد نص تشريعى يمكن تطبيقه حكم القاضى بمقتضى العرف، فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادىء الشريعة الاسلامية». وتفسيرا لهذه المادة فإن «د. عبد الرزاق السنهورى ـ 1895 : 1971م»   يقول فى صفحة 46 من كتابه «الوسيط فى شرح القانون المدنى»: «كل من الفقيه والقاضى أصبح الآن مطالباً أن يستكمل أحكام القانون المدنى، فيما لم يرد فيه نص ولم يقطع فيه عرف، بالرجوع إلى الفقه الاسلامى». وطبقا لمجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدنى، فإن المقصود بالفقه الإسلامى هو «المبادىء المشتركة بين مذاهب الفقه المختلفة». أى «أصول الفقه» لا «أحكامه».
  • وأول ما يقابلنا فى «أصول الفقه» هو «مقاصد الشريعة» التى تعرف أيضا بـ«الضرورات الخمس» التى ينبغى المحافظة عليها وهى: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال. هكذا وردت المقاصد مطلقة غير مقيدة لا بعرق ولا بجنس، ما يجعل حماية «الضرورات الخمس» حقا أصيلا لكل المواطنين، وقد سبق بيان ما تضمنه «دستور المدينة» من نصوص هى تطبيق تفصيلى لهذا الأصل العام. وعن معنى «الدين» يقول الشيخ «محمد رشيد رضا» فى «المنار»: «الشريعة أخص من الدين إن لم تكن مباينة له، وأنها الأحكام العملية التى تختلف باختلاف الرسل وينسخ لاحقها سابقها، وأن الدين هو الأصول الثابتة التى لا تختلف باختلاف الأنبياء، وهذا يوافق أو يقارب عرف الأمم حتى اليوم، لا يطلقون اسم الشريعة إلا على الأحكام العملية، بل يخصونها بما يتعلق بالقضاء وما يتخاصم فيه إلى الحكام»*
  • ثم نجد «مصادر الشريعة» وهى: القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع، والقياس، والاستحسان، والاستصحاب، والمصالح المرسلة، وسد الذرائع، والبراءة الأصلية، والعرف المستقر، و قول الصحابى حيث لم يخالف نصا شرعيا ولم يوجد ما يخالفه من قول صحابى آخر، وشرع من قبلنا إذا لم يرد فى شرعنا ما ينسخه. وهكذا نكون أمام 12 مصدرا، أعلاها مرتبة ـ والمهيمن عليها ـ هما القرآن والسنة (مصدرا النقل). وقد اختلف الفقهاء بشأن بعض المصادر العشر الأخرى (المصادر العقلية) ورودا ومرتبة، لكنه خلاف لا ينفى كون هذه المصادر من «المبادىء المشتركة بين مذاهب الفقه المختلفة». 12 مصدرا تمنح الشريعة الإسلامية مرونة نادرة، وقدرة لا نظير لها على استيعاب متغيرات الزمان والمكان، واستيعاب أبناء العقائد المختلفة أيضا، على النحو الذى أتاح لغير المسلمين أن ينظموا «أحوالهم الشخصية» طبقا لـ«شريعتهم»* وهو «امتياز» لم يأت على سبيل «التفضل» ولا «تحت ضغط»، بل تطبيقا مباشرا للشريعة الإسلامية والتزاما بها. وفى المقابل فإن المسلمين الذين يعيشون خارج العالم الإسلامى لا يمكنهم أن يطبقوا «شريعتهم»، بل إن أقباط مصر وأثناء الاحتلال البيزنطى «الرومانى /المسيحى» لمصر عاشوا معظم الوقت محرومين من «شريعتهم»، كما عاشوا محرومين من «حق» المجاهرة بالعقيدة الذى تكفله الشريعة الإسلامية.
  • والخلاصة أننا حين نقول «الشريعة الإسلامية» فإننا نشير ـ ضمنا ـ إلى 10 مصادر، تستوعب «العقل العام» ومصالح الناس التى تضمن تسيير حياتهم، وتؤمنهم فى أوطانهم، كما تستوعب الأعراف وتتسع للاجتهادات (مثلا: كان الأصل ألا يضمن الصناع ما فى أيديهم من أشياء الناس، فلما تغيرت الأحوال تغير الحكم وأصبح الصناع ضامنين لما فى أيديهم من أشياء وملتزمين بتعويض أصحابها عن تلفها أو فقدانها). 10 مصادر عقلية يضمنها ويحميها من تقلبات الأهواء مصدران هما القرآن والسنة.

هذه هى «الشريعة الإسلامية» التى نص الدستور على أن «مبادئها» هى «المصدر الرئيسى للتشريع»، وطالب الناطق الرسمى باسم الكنيسة الأرثوذكسية «الأنبا مرقص»، حسب نص تصريحه «بحذف الألف واللام من كلمتى المصدر الرئيسى ليصبح التعديل المأمول أن: الشريعة الإسلامية هى مصدر رئيسى للتشريع». مبررا مطلبه بأنه يأتى «لضمان وجود مصادر أخرى». فما هى هذه المصادر الأخرى؟ من أين تأتى؟ وهل هى جديدة، أم هى قديمة سبق للقبط أن ذاقوا الأمرين فى ظل تطبيقها؟

ـــــــــــــ

* تفسير المنار ـ محمد رشيد رضا ـ سلسلة التراث للجميع ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب 1975 ـ ص 342

* مصطلح «شريعتهم» هو الوارد فى نص القانون المصرى المطبق حاليا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى