دين ودنيا

السلطة الروحية ومجالات استعمالها

بشير بن حسن

مفكر إسلامي
عرض مقالات الكاتب

عندما يتحدث الناس عن السّلطة ، كثير منهم يحصرونها في المجال السياسي ، بأنواعه الثلاثة ، السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية ، ولكن الحق أن السلطة في معناها أشمل و أوسع من ذلك ، لتشمل مجالات كثيرة ، بالمجال الاقتصادي ، والمالي ، والعسكري ، والاجتماعي بل حتى المجال الديني ، وهذا هو المقصد من هذا المقال ، فالدين لم ولا يزال سلطانا على قلوب أكثر الناس ، وهو محل تقديس و تعظيم حتى عند غير العاملين به والمطبقين لأحكامه ، إلا من شذّ، والشاذ لا حكم له !!
و السلطة الروحية في معناها هي التي تنظم علاقة الإنسان بربه في عباداته ومعاملاته الظاهرة والباطنة، وتخضع ناموس المشاعر وقوانين القلوب لذلك السلطان القاهر الذي له الهيمنة على الإنسان في شتى مناحيه .
ومن ثمّ فقد أدرك الساعون من البشر ، الى الحكم والتحكم ، والسيطرة والهيمنة على الناس ، أن السلطة الروحية يمكن أن تكون وسيلة لذلك وأي وسيلة ؟!
ولذا باستقراء التاريخ ، والامعان في أحوال المجتمعات ، نجد أم السلطة الروحية قد استعملها أشخاص لبسط نفوذهم على المجتمعات أو الجماعات أو حتى الأفراد ، فهذا فرعون استعمل السحرة الذين كانوا يمثلون المؤسسة الدينية والروحية لإثبات ملكه ، و دوام مملكته ، ولذا بمجرد أن أرسل الله عز وجل موسى الى أهل مصر ، قام فرعون يستنجد بهؤلاء السحرة ، ويستنصرهم على كليم الله تعالى ، ( وقال فرعون اؤتوني بكل ساحر عليم ) ، و أطمعهم في مزيد من الامتيازات لما قالوا له برهف وشغف ( قالوا أئنّ لنا لأجرا إن كنا نحن الغاليين ** قال نعم وانكم لمن المقربين ) …ولكن الله تعالى هدى السحرة الى دينه الحق ، ( والقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون ) .
والتاريخ يعيد نفسه ….
مع كل الطغاة والعتاه ، حتى بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ، أدركت قريش أن سلطتها الروحية مهددة ،لانه عليه الصلاة والسلام ، جاء بأعلى أنواع هذه السلطة وهي النبوة والرسالة ، التي شعارها الاول ( اعبدوا الله ما لكم من اله غيره ) وشعارها الثاني ( فاتقوا الله وأطيعون ) بمعنى أن الطاعة ستسلب من هؤلاء الزعماء لتتحول إلى من هو أحق بها ، وهو سيد الأنبياء عليهم السلام .
وفي ذلك قصة ،

عليّ رضي الله عنه: “أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه: إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام :33). وروى ابن جرير الطبري عن السدي في قوله: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام:33) قال: لما كان يوم بدر قال الأخنس بن شريق لبني زهرة: يا بني زهرة! إن محمداً ابن أختكم، فأنتم أحق من كفَّ عنه، فإنه إنْ كان نبياً لم تقاتلوه اليوم، وإن كان كاذباً كنتم أحق من كف عن ابن أخته، قفوا ها هنا حتى ألقى أبا الحكم، فإن غُلب محمد رجعتم سالمين، وإن غَلب محمد فإن قومكم لم يصنعوا بكم شيئاً، فيومئذ سمي الأخنس، وكان اسمه “أُبي”، فالتقى الأخنس وأبو جهل، فخلا الأخنس بأبي جهل فقال: يا أبا الحكم! أخبرني عن محمد: أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ها هنا من قريش غيري وغيرك يسمع كلامنا، فقال أبو جهل: ويحك! والله إن محمداً لصادق، وما كذب محمدٌ قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والسقاية والحجاب والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ فذلك قوله: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}

اي والله لقد فهمها أبو جهل لعنه الله !!
أنه أدرك أن سلطته وقومه الروحية معرضة للزوال بسبب النبوة !!
إن السلطة الروحية ، أن يستغل الدين والعلم و قداستهما ، أو المكان المقدس ، كمكة والمدينة ، من أجل تمرير ما شاء السلطان من السياسات ، حكيمة كانت أم غير حكيمة، عادلة كانت أم جائرة !!
وهي غلاف براق لامع ، في وجوه الناس ، بل يمكن أن تتحول إلى سيف مسلط على رقابهم ، فيُظلمون وُيقهرون باسم الدين ، وباسم الله ، وتحت مبرّر إرضاء الرب !!
ولذا تفطن ملوك أوروبا لهذا النوع من السلطات ، فراحوا يسلبون من الكنيسة نفوذها الذي دام قرونا من الزمن ، و الذي استغله القساوسة والرهبان ورجال الاكليروس ، حتى انتصرت الملكية الإمبراطورية عليهم ، وحولتهم الى أداة بل سيف مسلول على كل من عارض سياستهم الجائرة ،وحكم الإقطاع الظالم …
وما أشبه اليوم بالأمس ، والبارحة بالليلة ، عشنا و رأينا اليوم ، ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من اتباع سَنن من كان قبلنا ، شبرا بشبر وذراعا بذراع ، وقد قصد اليهود والنصارى ، و هاهم معممون كثيرون قد تحولوا في هذا الزمان إلى أداة ووسيلة ، بل والله لن أبالغ ان قلت الى راحلة يركب عليها السلطان الجائر ، فقد تحولت أكثر المؤسسات الرسمية الدينية الى سلطة روحية مستعملة ، تستخدم الدين ولا تخدمه ، و تتكلم بلسانه ولا تدافع عنه ،وتاكل به ولا تنصره ، فما أقبح حالهم ، إلا من رحم ربي .
كما أن السلطة الروحية يمكن أن يستخدمها بعض الناس للوصول إلى سدة الحكم ، بأنواعه كلها ،الرئاسية أو البرلمانية أو البلدية ، ويكفي أن تقرأ أية وحديثا ، وأن تمجد الله في حديثك بأن تقول ( الله سبحااااانه وتعالى ) ،وكم ترفع شعارات في الحملات الانتخابية المختلفة، المُشبعة بعبارات دينية ، دون تحويلها إلى واقع منظور على أرض الواقع ، عقب الفوز في الانتخابات !!

وكل هؤلاء سائرون في نفس المسار ، مسار استعمال السلطة الروحية وقدسية الدين في نفوس الناس ….
كما أنك ترى هذا الأسلوب أيضا عند بعض الأفراد الذين يسعون إلى الوصول إلى جيوب الناس وأخذ أموالهم بطريقة سهلة ، فيتخذون الدين مطية لذلك ، فبين مدعيي الرقية الشرعية ، وبين مدعيي المشيخة والدعوة ، وبين مدعيي الحجامة ، و بين مدعيي إرشاد الحجيج والمعتمرين، ممن لا علم لهم ، إلا التطفل ، ظل الدين ضحية كل هؤلاء المستعملين له ، حاشى الصادقين و أهل الاختصاص !! حتى لا أعمم .

كما قد تستعمل السلطة الروحية في الحياة الزوجية ، فإذا ببعض الأزواج يريد فرض رأيه واختياره باسم الدين ،فهو مثلا يطالب الزوجة بأن تكون مثل فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكنه غير مستعد ان يكون لها مثل علي بن أبي طالب رضي الله عنه !!
والعكس بالعكس ، قد تستعمل المرأة السلطة الروحية في المطالبة بحقوقها غير منقوصة من زوجها ، ولكنها غير مستعدة للقيام بواجباتها !!

ولذا يجب ترك الدين والتدين الى الحريات الشخصية ،وام نتصف بالحيادية إن لزم الأمر حتى لا يستغل الدين ويتحول إلى ألعوبة في أيدينا

والله من وراء القصد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى