بحوث ودراسات

مراجعات للبطريرك 4 من 12

محمد القدوسي

كاتب وصحفي مصري
عرض مقالات الكاتب

مراجعة تشريعية
2 ـ المسلمون أعادوا البطريرك
ليتدارك مذهب الأقباط قبل الضياع والهلاك

لا تكتمل نظرتنا للتاريخ، ضمن هذه المراجعة، إن لم نلق نظرة ـ حسبنا أن تكون عابرة ـ على لحظة الفتح الإسلامى لمصر (639 م) ذلك الفتح الذى أؤكد ـ أولا ـ أن طرفيه كانا: المسلمين العرب من ناحية، والروم (حكام مصر منذ انتصارهم على كليوباترا البطلمية فى موقعة أكتيوم سنة 31 ق.م) بمذهبهم الملكانى من الناحية الأخرى. معادلة لم يكن «القبط» بمعنى أهل مصر عموما ـ من مسيحيين ووثنيين ـ أو بمعنى «اليعاقبة أتباع الكنيسة الأرثوذكسية»* طرفا فيها، وعلى هذا يستوى بالنسبة لهم ـ أى للقبط ـ أن يكون الفتح قد تم حربا كله، أم صلحا كله، أم صلحا فى معظمه وحربا فى ثلاثة مواقع حسب ما بين المؤرخين من خلاف. ذلك أن «القبط» ـ بأى من المعنيين المشار إليهما ـ لم يكونوا طرفا فى الحرب (التى كانت بين المحتل الرومانى وأعوانه من جهة، والمسلمين العرب من جهة أخرى) ولا فى الصلح ـ الذى هو بديل عن هذه الحرب ـ لكنهم، مع المسيحيين من أبناء المذهب الملكانى، أصبحوا الطرف الآخر فى «العهد» الذى عقده «عمرو بن العاص» بعد انتصاره على الرومان، وهو عهد لم ترد فيه أدنى إشارة للرومان ـ تأكيدا لأنهم كانوا مجرد جيش محتل جلا عن البلاد وأصبح «خارج تاريخ مصر» منذ الفتح ـ كما لم ترد فى العهد أية إشارة إلى تعويضات ولا عقوبات ولا إجراءات استثنائية ولا غير ذلك مما يفرضه ـ عادة ـ المنتصر على المهزوم، تأكيدا لأن «القبط» لم يكونوا ذلك الطرف المهزوم، بل لم يكونوا ـ من الأساس ـ طرفا فى تلك المواجهة التى انتهت بانتقال حكم مصر من الرومان إلى المسلمين.
يقول المؤرخ «د. ألفريد ج. بتلر»، فى كتابه «فتح العرب لمصر»: «لما مات البطريق الرومانى (قيرس)، ورحلت عن مصر جيوش الروم التى كان سلطانه يعتمد عليها، حدث تغير كبير فى حال الأحزاب الدينية، إذ انقضى بذلك أمد البلاء الأكبر، الذى حل طويلا بالناس من جراء الاضطهاد، وقد أقيم خلف لبطريق الرومان فى الإسكندرية ليقوم على ولاية أمر المذهب الملكانى، ولكن ولايته كانت لا تتعدى أسوار المدينة، وذهب عنه سلطانه وانفض عنه كثير من أتباعه. ولكن بطريق القبط (أى بنيامين، ولاحظ هنا أن بتلر يفرق بين بطريرك الإسكندرية الذى كان رومانيا ملكانيا وبطريرك المصريين الأرثوذكسى) كان لا يزال على اختفائه طريدا يضرب فى أنحاء الصعيد، ويهيم على وجهه فيه. فكان يخيل للناس أن مذهبه قد بات صريعا لا تكاد الحياة تدب فيه، مما أصابه من الوطء والعسف فى محنته التى تطاولت به مدتها نحو عشر سنوات على يد قيرس الذى كان لا يعرف الرحمة، ولا تخطر على قلبه هوادة. وقد أصبحت مصر بعد وليس دينها دين المسيح، إذ وضعت عليها حماية الإسلام تعلو أحزابها جميعا، وأصبح سيفه بينها فيصلا حائلا، فأدى ذلك إلى تنفس الناس فى عباداتهم واختيار ما يشاءونه فى تدينهم… وأصبح القبط فى مأمن من الخوف الذى كان يلجئهم إلى إنكار عقيدتهم أو إخفائها تقية ومداراة، فعادت الحياة إلى مذهب القبط فى هذا الجو الجديد للحرية الدينية».*
ويتوقف الراهب «أنطونيوس الأنطونى» عند عبارة رائقة لـ«بتلر» تقول: «كان لعودة بنيامين أثر عظيم فى حل عقدة مذهب القبط وتفريج كربته، إن لم تكن عودته قد تداركت تلك الملة قبل الضياع والهلاك». وهى عبارة يضيف «بتلر» بعد سطور منها: «ليس من العدل أن يقول قائل إن كل من أسلم منهم (من القبط) إنما كان يقصد الدنيا وزينتها، فإنه مما لا شك فيه أن كثيرا منهم أسلم لما كان يطمع فيه من مساواة بالمسلمين الفاتحين، حتى يكون له ما لهم، وينجو من دفع الجزية. ولكن هذه المطامع ما كانت لتدفع إلا من كانت عقيدتهم غير راسية، وأما الحقيقة المرة فهى أن كثيرين من أهل الرأى والحصافة قد كرهوا المسيحية لما كان منها من عصيان لصاحبها، إذ عصت ما أمر به المسيح من حب ورجاء فى الله، ونسيت ذلك فى ثوراتها وحروبها التى كانت تنشأ بين شيعها وأحزابها. ومنذ بدا ذلك لهؤلاء العقلاء لجأوا إلى الإسلام فاعتصموا بأمنه، واستظلوا بوداعته وطمأنينته وبساطته».
هكذا يصف بتلر دخول الأقباط «فى دين الله أفواجا»، وهو يراهم «عقلاء» اعتصموا بأمن الإسلام واستظلوا بوداعته وطمأنينته، إذ أتاح لهم وللمرة الأولى منذ نحو ألف سنة ـ أى منذ غزو «الاسكندر» مصر فى 332 ق. م ـ أن يحظوا بالمساواة؛ لهذا تمسكوا بالإسلام، على عكس هؤلاء الذين سبق أن اعتنقوا المذهب الملكانى (مذهب الدولة الرومانية) رغبا أو رهبا، فإنهم ـ حتى المطارنة منهم ـ سرعان ما عاد من لم يسلم منهم إلى ملته الأولى (الأرثوذكسية). يقول «بتلر» عمن دخل الإسلام من المصريين: «لم يكن من اليسير أن يعاد من خرج من المسيحية إلى حظيرتها بعد أن قطع أسبابها، فإن ذلك كان لا رجاء فيه». وعلى نقيض ذلك يصف «بتلر» سهولة وسرعة عودة «من اضطر إلى اتباع مذهب الملكانيين خوفا أو كرها». ويضيف أن بنيامين «اتجهت همته إلى إصلاح الأديرة، ولا سيما ما كان منها فى وادى النطرون، وقد لحقها من التخريب فى أوائل القرن السابع ما لم تعد معه إلى سابق عهدها». ويورد «بتلر» على لسان «بنيامين» عبارة يقول فيها إن القبط بعد الفتح «فرحوا كما يفرح الأسخال (صغار الضأن) إذا ما حلت قيودهم وأطلقوا ليرتشفوا من ألبان أمهاتهم». ثم يضيف: «وقد كتب (يوحنا النقيوسى) بعد الفتح بخمسين عاما، وهو لا يتورع عن أن يصف الإسلام بأشنع الأوصاف، ويتهم من دخلوا فيه بأشد التهم، ولكنه يقول فى عمرو (بن العاص) إنه: قد تشدد فى جباية الضرائب التى وقع الاتفاق عليها، ولكنه لم يضع يده على شئ من ملك الكنائس، ولم يرتكب شيئا من النهب أو الغصب، بل إنه حفظ الكنائس وحماها إلى آخر مدة حياته».
وفى كتابه «تاريخ الكنيسة القبطية» يقول القس«منسى يوحنا»: «بينما كان الفاتح العربى يشتغل فى تدبير مصالحه بالإسكندرية، سمع رهبان وادى النطرون وبرية شيهات، أن أمة جديدة ملكت البلاد، فسار منهم إلى عمرو سبعون ألفاً حفاة الأقدام، بثياب ممزقة، يحمل كل واحد منهم عكازا… وطلبوا منه أن يمنحهم حريتهم الدينية، ويأمر برجوع بطريركهم من منفاه، أجاب عمرو طلبهم، وأظهر ميله نحوهم فازداد هؤلاء ثقة به ومالوا إليه.. خصوصاً لما رأوه يفتح لهم الصدور، ويبيح لهم إقامة الكنائس والمعابد، فى وسط الفسطاط التى جعلها عاصمة الديار المصرية ومركز الإمارة، على حين أنه لم يكن للمسلمين معبد، فكانوا يصلون ويخطبون فى الخلاء»*.
ويذكر الراهب القمص «أنطونيوس الأنطونى» أن البروفسير «جروهمان» اكتشف وثيقتين، عبارة عن برديتين مكتوبتين باليونانية، يرجع تاريخهما إلى 22 هـ ـ 642 م، وملحق بهما نص بالعربية:

  • الأولى: إيصال على أحد أمراء جند المسلمين، ويدعى «عبد الله» يقر فيه بأنه استلم 65 نعجة لإطعام جنوده، وقد حرره الشماس يوحنا مسجل العقود، فى 30 من شهر برمودة، وعلى ظهر البردية كتب: «شهادة بتسليم النعاج للمحاربين ولغيرهم ممن قدموا البلاد وهذا خصماً عن جزية التوقيت الأول».
  • الأخرى: رسالة جاء فيها: «باسم الله، أنا الأمير عبد الله أكتب إليكم يا أمناء تجار مدينة بسوفتس، وأرجو أن تبيعوا إلى عمر بن أصلع، لفرقة القوطة، علفاً بثلاثة دراهم .. وإلى كل جندى غذاء من ثلاثة أصناف» ويورد «أنطونيوس الأنطونى» تعليق الأستاذ «جروهمان» الذى قال فيه: «إن هذه المعاملة إزاء شعب مغلوب، قلما نراها من شعب منتصر». وتزايل العبارة دهشتها، كما تنحل عقدة هذه الـ«قلما» حين نفهم أننا ـ ومنذ اللحظة الأولى للفتح ـ لم نكن بصدد غالب ومغلوب، ببساطة لأن الطرف «المغلوب» كان الرومان ـ وليس القبط ـ والرومان لم يكونوا إلا جيشا محتلا ، غصب حكم مصر نحو سبعة قرون، حتى انهزم، فجلا عن البلاد، عائدا إلى دياره. لم نكن بصدد غالب ومغلوب، بل جماعة متجانسة من البشر (سرعان ما أصبحت شعبا واحدا) فيها عرب يحفظون للقبط أن لهم «نسبا وصهرا»، وقبط فرحوا بالفتح فرحة رضيع أطلق ليشرب من لبن أمه. ثم إن هؤلاء وهؤلاء امتزجوا ـ بالنسب والصهر ـ والأهم أن الإسلام ساوى بين مواطنى دولته من مختلف الأعراق والأجناس والعقائد، ومنحهم من العدل ما يجعل «أمير الجند» يوقع ـ مدينا ـ على إيصال يحرره «شماس» لصالح راعى غنم. كما منحهم من حرية العقيدة ما جعلهم يجاهرون بشعائرهم، ويعيدون ترميم ما تهدم من معابدهم عبر عقود القهر. هذا ما أقر به حتى «يوحنا النقيوسى» أشد المؤرخين تحاملا على الإسلام والمسلمين، الذين هم ـ تاريخيا ـ أحفاد الأغلبية المصرية التى آمنت بالإسلام دينا قيما، وبات خروجها منه «أمرا لا رجاء فيه» كما يقول «بتلر»، وحسبك أنه الدين الذى أنقذت عدالة دولته ملة الأقباط الأرثوذكس من «الهلاك والضياع»، وأعادت لهم كنائسهم يصلون فيها، بينما أتباعه يصلون فى الخلاء، قبل أن يبنوا مسجدهم الأول على أرض مصر. فهل يفهم «إخواننا» مرددو أكذوبة «البدو الغزاة»، ويدرك هؤلاء الذين «ينامون مع العدو» أنهم لا يرتكبون المغالطة ولا يتورطون فى الخيانة فحسب، لكنهم ـ وهذا أسوأ ـ يجسدون «الغباء» فى أشد صوره عنادا وتخلفا؟
    ــــــــــــ
  • كما سماهم «ألفريد ج. بتلر» فى كتابه «الكنائس القبطية القديمة فى مصر» ـ جـ 1 ـ ص 16 ـ سلسلة الألف كتاب الثانى (130) ـ ط الهيئة المصرية العامة للكتاب 1993 ـ وهم لم يكونوا طرفا فى المواجهة التى أسفرت عن فتح مصر لأنهم كانوا مضطهدين مقموعين من الرومان، لامشاركة ـ ولا أمل ـ لهم فى حكم البلاد، مجبرين على الاستخفاء بطقوسهم وشعائرهم، وبطريركهم «بنيامين» هارب مطارد لا يجرؤ على الظهور، أو كما يقول «بتلر» فى كتابه «فتح العرب لمصر»: «علينا أن نبين هنا بيانا لا شك فيه، أنه لم يكن فى ذلك الوقت شئ اسمه القبط فى ميدان النضال، ولم تكن منهم طائفة لها يد فيه، بل كان القبط إذ ذاك بمنحاة عنه، قد أذلهم قيرس (المقوقس) وأرغم أنوفهم».
  • فتح العرب لمصر ـ تأليف د. ألفريد ج. بتلر ـ ترجمة محمد فريد أبو حديد ـ جـ 2 ـ ص 381 ـ سلسلة تاريخ المصريين (28) ـ ط الهيئة المصرية العامة للكتاب 1989م.
  • وطنية الكنيسة القبطية وتاريخها ـ تأليف الراهب القمص أنطونيوس الأنطونى ـ دار الطباعة القومية بالقاهرة 1996م. و المرجع السابق ـ ص 384.
  • فتح العرب لمصر ـ جـ 2 ـ ص 385 ـ ووصف «بتلر» لسبب كره المسيحية بأنه «حقيقة مرة» أراه تعبيرا فصيحا عن شهادة لا سبيل لدفع حقها مهما كان مؤلما للشاهد!
  • السابق ـ ص 385
  • السابق ـ ص 386
  • تاريخ الكنيسة القبطية ـ تأليف القس منسى يوحنا ـ ط مكتبة المحبة بالقاهرة 1983م ـ ص 307.
  • وطنية الكنيسة القبطية وتاريخها ـ تأليف الراهب القمص أنطونيوس الأنطونى ـ ط دار الطباعة القومية بالقاهرة 1996م ـ ص 62،63
  • تحامل «النقيوسى» وغيره على الفتح الإسلامى، جاء بعد سنوات طوال من الفتح نفسه، وأول أسباب هذا التحامل التى يشير إليها « ألفريد ج. بتلر» فى كتابه « فتح العرب لمصر» هو رفض العرب التجاوب مع الرغبة التى أبداها بعض القبط فى الثأر من الملكانيين. إذ إن كلا الفريقين ـ بالنسبة للمسلمين ـ من أهل الكتاب وأهل الذمة، وعدالة الإسلام تفرض على المسلمين أنه «لا تزر وازرة وزر أخرى»، لهذا رفضوا أن يحاسبوا أبناء وأحفاد الملكانيين بما فعله آباؤهم، وهو ما لم يعجب الأقباط المطالبين بالثأر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى