دين ودنيا

تصحيح لمعنى ( وقرن في بيوتكن )

بشير بن حسن

مفكر إسلامي
عرض مقالات الكاتب

يبدو أننا فعلا نعيش ظاهرة ضحالة الثقافة الدينية ، و قلّة الزاد المعرفي لكثير من أحكام الشريعة ، كذلك ما هو أخطر منها ظاهرة الجهل المُركّب عند بعض الناس المتدينين خاصة ، الذين يحسبون أنهم يعلمون ويعرفون أكثر من الآخرين ولكن الحقيقة على خلاف ذلك مع الأسف !!
لأنه كلما طرحت سؤالا ، إلا وأفاجؤ بأجوبة غريبة وبعيدة كل البعد عن الصواب والإشكال أنه خطأ معزّز بأدلة شرعية في غير موضعها ، أو هو تحريف صريح للنصوص !!
ولذا أيها الإخوة الكرام ، أذكر نفسي وإياكم بخطورة القول على الله بغير علم ، فإن الله عز وجل قرن هذا الذنب بأكبر الكبائر فقال ( وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) ….

وهذه الآية الكريمة من سورة الأحزاب( وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى…) أولا هي خطاب لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه يجب النظر في سياق الآيات كلها ،والنظر فيما قبلها وبعدها ، ونساء رسول الله صلى الله عليه وسلم لهن الخصوصية في كثير من أحكام الشرع ،ولذا قال تعالى لهن في نفس الآيات ( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء….) وهذا يقتضي التخصيص ، ولا يدخل فيه جانب الاقتداء والتأسي كما يظنه الظانون ، لأنه كما أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم خصوصيات في بعض الأمور ( كالوصال في الصوم والزيادة على أربع زوجات والنكاح بالهبة بلا مهر ولا ولي و قضاء راتبة الظهر بعد العصر وغيرها …..) فكذلك للزوجات الطاهرات خصوصيات تخصهن ولا يقتدى بهن فيه ، كتحريم الزواج بهن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، و منعهن من الميراث منه ، وسؤالهن من وراء حجاب أي حائل ، و كذلك ترغيبهن في ملازمة البيوت، ملازمة غالبة ، وهو معنى الآية ههنا ، ولذا ، مع هذا الأمر لهن بالقرار في البيوت، خرجن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، وزيارة أهاليهن ، وفي المناسبات كالزواج ،كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة حين حضرت زفاف امرأة من الأنصار هل كان معهم لهو فإن الأنصار يحبون اللهو ” رواه أهل السنن .
وخرجن للتعزية ، و كان يقارع بينهن فأيتها خرج سهمها خرجت معه للسفر ، ولما حج حجة الوداع قال لهن ” هذه ثم ظهور الحُصْر ” أي الزمن بيوتكن ومع ذلك لم يفهمن هذا الأمر أنه سجن لهن في البيوت ، فقد كنّ يعتمرن بعده عليه الصلاة والسلام وهن في كفالة عبد الرحمان بن عوف رضي الله عنه، و خرجت عائشة يوم الجمل وقادت جيش المسلمين ، وأما قول عائشة رضي الله عنها : لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عليه النساء اليوم لمنعهن من الخروج حتى الى المساجد ” فهذا خرج مخرج المبالغة فقط ، كما قال المحققون …
وكانت المرأة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم تخرج ،من بيتها لقضاء شؤونها ، ومن ذلك العمل ، فقد خرجت خالة جابر بن عبد الله رضي الله عنهما لتجني ثمار نخلها فزجرها رجل من الأنصار فذهبت تشتكي لرسول الله صلى الله عليه وسلم منه فقال لها ( جُذّي نخلك عسى أن تصدقي أو أن تصنعي معروفا ) رواه مسلم .

و هذه سبيعة الأسلمية وضعت ولدها أي ولدت بعد وفاة زوجها بليال ” تزينت للخُطاب ” ( أي بالكحل والحلي ولبس الزينة بلا تكشف طبعا )، فزجرها رجل اسمه أبو السنابل بن بعكك رضي الله عنه وقال لها ( تزنيت للخطاب !! لا حتى تتم أربعة أشهر وعشرا ) وظن أن عِدّتها لم تنقض فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشتكي فقال ( كذب أبو السنابل ) أي أخطأ بلغة أهل الحجاز ، و أقرّ المرأة على ما فعلت ) والحديث في صحيح البخاري ومسلم ( لمن هو مريض بداء الشك والتشكيك ) .

وهكذا كانت المرأة في عهده وبعد عهده تدخل السوق ، فتبيع وتشتري ، و تخالط المجتمع في تحشم وحياء وأدب ، و تخرج في الحروب لتمريض المرضى ومداواة الجرحى كما جاء ذلك صريحا صحيحا في البخاري، و المداواة والتمريض يقتضيان لمس المريض!! ولم يأمرهن بلبس القفازات !! أو أن يضعن حائلا !!
هذا في زمانه ، وبعد زمانه ، كانت المرأة شريكة في بناء المجتمع ، فتعلّمت وعلّمت ، وتولت القضاء ، والفتوى ، و إدارة السوق كما في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي ولى الشفاء بنت عبد الرحمان إدارة سوق المدينة.

الى أن ابتلانا الله عز وجل ، بعادات وتقاليد طغت عليها العقلية الذكورية ، وذلك في فترة ما قبل الاستعمار الغربي للعالم العربي والإسلامي ، فحُرمت المرأة فيها من المدرسة ،ومن كل أنواع التعليم ، و حُبست بين المطبخ و غرفة النوم ، وسادت ثقافة الأربع جدران حتى قال القائل: لا تخرج المرأة من بيت أبويها الا الى بيت زوجها أو ميتة محمولة الى المقبرة !!
وبعد خروج المستعمر خروجا عسكريا، بعد أن اطمأن على إبقاء وكلائه ، ابتلينا بدعاة التغريب وأدعياة التحرّر والمساواة ، فراحوا ينظّرون لإخراج المرأة إخراجا بلا قيد ولا حدّ ، لتقضي أكثر وقتها خارج بيتها ، بل حتى بالليل ، و قابلوا الإفراط بالتفريط ، و التعصّب بالتحلّل ، إلى أن ابتلينا مرة أخرى بدعوة و تنظير متلحّف بلحاف الدين ، متغلّف بغلاف الشرع ، ينادي بضرورة إعادة المرأة الى بيتها حيث كانت ، وأنها سبب كل فتنة في المجتمع، وأن وظيفتها الأساسية الإنجاب وتربية الأولاد ، وحصروها مرة أخرى بين المطبخ و غرفة النوم !!
وانطلقوا يتمحّلون في الاستشهاد بالأدلة، فما لم يوافق اهواءهم ضعّفوه و ردّوه ، وما وافق صحّحوه و أذاعوه ،واعتبروه الدين الصحيح ، والتدين الكامل !!
فراجت من جديد ثقافة الأربع جدران كما سماها الغزالي رحمه الله في أوساط المتدينين خاصة ، فأفرز لنا جيلا من النساء جاهلات متخلّفات ، ليس لهن أدنى مستوى فكري ولا علمي ولا معرفي ، إلا من رحم الله ، ولا أعني ههنا أنهن أُمّيات لا يحسنّ القراءة والكتابة ، لا ،لأن هذا تجاوزناه ،وإنما المقصود التفوق في العلوم كلها ، التجريبية والطبيعية والإنسانية !!
بل اعتبروا قيادتها للسيارة ضربا من ضروب التبرج والسفور والانحطاط الأخلاقي، وإثارة الفتنة !! أما أن تخلو بالسائق في السيارة فلا حرج عليها !!
و هاهم الآن اضطروا لفرض الحضور النسائي في كل المؤسسات الخاصة والعامة ، بنسبة 30 بالمائة أعني في السعودية بالتحديد منذ ما يزيد عن 6 سنوات ، أصدر الديوان الملكي فرمانه ، بذلك ، بعد التعرض لضغوطات البيت الأبيض !! وهنا تغيرت الفتاوى من التحريم إلى التحليل ، ومن التعسير الى التيسير ، ومن الانغلاق الى الانفتاح !! و صارت المسائل خلافية بعد أن ادُّعي الإجماع فيها كالعادة !!
والمؤلم في الموضوع ، أن فتاوى هؤلاء تتغير تحت الطلب ،و بدافع الضغط الأجنبي ، و الذي يحزّ في النفس أيضا أن خرفان السلفية لا زالوا يثقون بهم و بعلمهم وفتاويهم التي تتغير وتتلون باللون الأمريكي !!

ولهذا أقولها وبكل شجاعة وثقة ، أن المرأة شريكة للرجل في قضايا المجتمع كلها بلا استثناء ، وأنها مطالبة بالتعلم والتعليم وبذل المنافع سواء بسواء ،
فالمجتمع يحتاج إلى المعلمة ، والأستاذة، والطبيبة ، والمهندسة ، والنائبة في البرلمان، والقاضية ، و الوزيرة ،والمديرة ، وغير ذلك من الوظائف ، أما عن شبهة الاختلاط التي تعلقوا بها فهي واهية ، لأنه لا بد من التفريق بين حالة الاختيار وحالة الاضطرار ، ونحن نعيش زمانا عمّت فيه البلوى كما يقول الفقهاء، و معنى عموم البلوى أي تفشي الشيء الذي لا يمكن تفاديه ( ككثرة الصور ، والتصوير ،و اختلاط الرجال بالنساء في الفضاءات العامة وغيرها …) و اذاعمّت البلوى خفّت الفتوى !
وعلى هذا فالمطلوب هو حسن التربية والتوجيه ، وتحصين النفوس تحصينا إيجابيا من الداخل ، أي تربية القلوب وتزكية النفوس ، و تحقيق الإحسان الذي هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، وقضية القرار في البيوت واعتبارها المانعة مطلقا من وقوع المرأة في الفتنة أظن أننا لم نحسن فهمها ، وأننا مرة اخرى تجاوزنا الزمن فيها ، فالمرأة يمكن أن يغلق الرجل عليها الباب بإحكام ،ويضرب الأقفال تلو الأقفال عليها ، يكفي أن يكون لها هاتف ذكي ، وبروفيل فيسبوك !! لتتمكن من الإبحار في عالم النت !! و أن تتحدث مع من شاءت في غيابه !! ولو كان بينهما مسافة قارات !!! أم أنه سيمنعها من اقتناء هاتف ايفون أو سامسونغ أيضا ؟؟؟
كفانا بلاهة وحماقة ، وتجاوز الزمن لنا ، و ها أنا تذكرت الكمّ الهائل من الفتاوى والمحاضرات والرسائل والمطويات التي ملأها المشايخ في ما مضى ، بتحريم اقتناء ” الدش ” أي جهاز التقاط القنوات الفضائية ،وأن الذي يفعل ذلك ديوث ومنافق !! حتى تجاوزهم الزمن ، وصارت ” الدشوش” في الجيوب ، وهم أول من يقتني الهواتف آخر صيحة !!

والله المستعان.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى