بحوث ودراسات

ثورات الربيع العربي ومستقبل المنطقة 2 من 5

أحمد الهواس

رئيس التحرير

عرض مقالات الكاتب

ألقي هذا البحث في مدريد 26-6-2019

الواقع العربي بعد الثورات العربية:

كانت الثورة أو التغيير في ظل عالم عربي تحكمه أنظمة متشابهة في الظلم والاستبداد ضربًا من الخيال، ولم يكن أكثر المتفائلين بذلك يتخيل أن ثمة ثورات شعبية يمكن أن تغير البناء الرسمي العربي، فقد كانت الثورة قبل ذلك انقلابات عسكرية نحت لها الضباط الأحرار في مصر مصطلح ثورة، فسار على دربهم بقية العسكر في انقلابات سورية والعراق وليبيا واليمن، ولهذا كانت الثورات العربية في واقعها الثورة الأولى التي يمارسها الشعب بعيدًا عن قوة أدّعت يومًا أنّ انقلاباتها كانت ثورات لأجل الشعب فإذا بها أكثر استبدادًا وظلمًا من الأنظمة التي انقلبوا عليها، بل إن لغة الأرقام أثبتت أن الأنظمة التي كانت توسم بالرجعية والتخلف كانت أكثر تطورًا وعدلًا!

وقد غيّرت الثورات المضادة التي قامت على الثورات العربية الكثير من المفاهيم بل ربما أزالت حجبًا كانت تغطي أعين الشعوب، ومنها العلاقة مع الجيوش وهل هذه الجيوش لحماية الأوطان أم لتكريس الانقسام والحفاظ على أمن الصهاينة ومنع تطور البلاد؟ لا بل شكّلت الثورات المضادة ولا سيما ما حصل في 30 يونيو 2013 في مصر وما جرّته من ويلات على البلاد لعل أبسطها دكتاتورية بات نظام مبارك الذي قامت عليه ثورة 25 يناير بكل ما يحمل من فساد وتبعية قمةً في الحرية والكرامة!

ولما جاءت رياح التغيير للسودان[1]، ولم تنته بخلع البشير بانقلاب على شاكلة ما حصل في مصر وليس ببعيد عنه ما حصل في الجزائر، فقد تنبه المنتفضون إلى أنّ إعادة السيناريو المصري يعني الانتقال إلى وضعٍ أكثر سوءًا وتحت مسمى ثورة، أحداث الأيام الماضية في الجزائر والسودان تدل على أن شعوبنا العربية بالغة الذكاء، وعلى مستوى عالٍ من الوعي، فما حدث يؤكد على أن محاولات الالتفاف على مطالب الناس والاكتفاء بالتغيير الشكلي، لم تنجح ولن تنجح على الأغلب، كما أن الجديد في موجة عام 2019 هو أن «فوبيا سوريا» قد انقشعت عن الشارع العربي، إذ طوال السنوات الثماني الماضية كانت بعض الدول العربية، تمول الحرب في سوريا، وفور وقوع المجازر تنقل على الهواء مباشرة الصور والأحداث، ومن ثم تقول لشعوبها إما بشكل مباشر أو ضمني، بأن «هذا جزاء التغيير، وأن القبول بالأمر الواقع أفضل من الموت على الطريقة السورية[2] حيث ترى المراسلة بيل ترو في مقال رأيٍ نشرته صحيفة «الإندبندنت» البريطانية أنَّ السودان ربما يواجه مصيرًا مشابهًا لمصر، بحسب بيل، فقد خيَّم شبح التجربة المصرية الدامية على السودان أثناء موجة التهنئة المفاجئة التي اجتاحته، عندما تمكن المتظاهرون من إطاحة عمر البشير في أبريل الماضي. فلا يمكن لإطاحة رجلٍ واحد أن تقتلع الجذور الراسخة والمعقدة لهيكل الجيش وجهاز الأمن، ومن الصعب كبح جماح هذا الجهاز الأمني، في ضوء التدخل الشديد من جانب المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، اللتين لديهما مصالح راسخة في السودان.[3]

حين قامت ثورات الربيع العربي، كان كل شعب يظن أنّه ثار ضد نظام حكم محلي يمكن أن يغيره بوصف الشعب مصدرًا للسلطات، ولكنه اصطدم بحقيقة أخرى، أن الثورة كانت ضد نظامٍ رسمي عربي قد تمّ بناؤه بإحكام، ولعل جامعة الدول العربية تشكل كلمة السرّ في هذا البناء الذي كان في واقعه مشروعٌ بريطاني كرّس واقع التفرقة والتمزيق العربي، وسمح لكيانات لم تصل بعد لمفهوم الدولة الحديثة أن تصبح واقعًا سياسيًا داخل هذه المنظومة، لقد كانت ثورات الربيع العربي مؤشرًا صارخًا على وصول النموذج الاستبدادي إلى حده الأقصى، بمعنى أنه صار غير قابل للتجدد ولا للبقاء، وهو ما يفسر سقوط كل الأنظمة المشمولة برياح التغيير وتأزم وضع البقية الباقية، ودليل على وصول البناء السياسي الرسمي العربي إلى نهايته.[4]

الثورة السورية:

يقول باتريك سيل: إنّ من يحوز على سورية فقد بات يتحكم في المنطقة، من هذه الحقيقة يمكن أن نبدأ فهم أو مقاربة فهم الحالة السورية قبل الثورة، ومن ثم طول مدة الثورة، والدمار الحاصل، والصمت الدولي المطبق عن جرائم النظام، وتحويل مجرى الصراع من صراع شعب مظلوم ضد نظام مجرم إلى صراع نظام ديكتاتوري مع جماعات إرهابية!

فسورية التي سيطر عليها حافظ أسد بعد انقلاب 16-12-1970 كانت تحت حكم طائفي يتغلف بالشعارات القومية لحزب البعث، وقد ارتكب فيها النظام مجازر يندى لها الجبين،وعمل نظامحافظ أسد على فرز مجتمعي، أو ما يمكن تسميته بالموالاة، وهم المواطنون، ومن يخالف فهم خائنون لا وطنيون، لهم السجون والمنافي، والقبور.

أو كما يصف ذلك د. غازي التوبة:

ونستطيع أن نقرر بكل وضوح ودقة بأن سورية أصبحت قسمين:

الأول: قلة من الناس تملك كل شيء وهم آل الأسد ومن حولهم نهبوا كل خيرات ومقدرات سورية. والثاني: وهم معظم الشعب لا يملكون ولا يجدون قوتهم وهم في فقر مدقع، ما أدى إلى ضيق الشعب وانفجاره، وكان هذا العامل الاقتصادي هو أحد العوامل التي فجرت الثورة في 15\3\2011[5].

لقد أدى الظلم المتراكم الذي استهدف الشخصية السورية، ومحاولة مسخها إلى فعل عكسي تبدى ذلك واضحًا في الثورة السورية، وصراع السوري لعدم القبول بأنصاف الحلول، وأن التوقف في منتصف الطريق يعني العودة إلى الظلم الذي عانى منه عقودًا طويلة.

“إن أحساس الإنسان بقيمته الذاتية ومطالبته بالاعتراف به ظل إلى الآن يمثل مصدرًا للفضائل النبيلة، مثل الكرامة والشجاعة والشهامة، كأساس لمقاومة الطغيان وكسبب لاختيار الديمقراطية الحرة”.[6]

هذا الظلم الذي أدى إلى تدن بكل مستويات الحياة في سورية، والأرقام التي يمكن أن نعود إليها قبيل الثورة بقليل نجد أن سورية متراجعة في كل شيء، وكذلك تتبوأ المراكز الأخيرة في حقوق الإنسان وحرية الصحافة، كذلك تتصدر الدول الأكثر فسادًا، فقد أرجع التقرير الوطني الثاني عن الفقر وعدالة التوزيع إلى زيادة نسبة السكان الفقراء، فوفق تقديرات عام 2010 فإن حوالي 7 مليون نسمة (34,3) بالمئة من إجمالي السكان، أصبحوا تحت خط الفقر، في حين أن خبيرًا اقتصاديًا قدره بـ37 بالمئة في حال احتسبت عتبة الفقر بثلاثة دولارات في اليوم، وبـ52 بالمئة في حال انطلق الحساب من دولارين، وتوصل التقرير الوطني الثاني للسكان إلى أن معدل البطالة وصل إلى 16,5 بالمئة (3,7 مليون نسمة عام 2009)، وقدرت البطالة بصورة غير رسمية بـ32 بالمئة (7 مليون نسمة عام 2009) وقد انخفضت قدرة الناس الشرائية بحوالي 28 بالمئة خلال الأعوام العشرة الماضية،وتدنت نسبة استهلاك القوى العاملة (16 مليون سوري) إلى 24 بالمئة من الدخل الوطني.

“أحس المواطن السوري بأنه لا كرامة ولا قيمة له، فهو معرض للاعتقال دون أسباب تذكر، وإن اعتقل فلا يعرف أحد في أي فرع قد اعتقل، وقد يبقى السنين الطوال ولا يراه أهله، ولا توجه له أية تهمة خلال سنين الاعتقال التي قد تمتد إلى عقد أو عقدين، ولا يقدم إلى أية محاكمة، وقد يتوفاه الله في السجن دون أن يعرف أهله حقيقة ذلك، وهذا الأمر قد حدث مع عشرات الآلاف من المواطنين السوريين، إن إحساس المواطن بأنه لا كرامة له عند هذا النظام، لذلك كان هذا الإحساس بانعدام الكرامة عاملًا من العوامل التي دفعت المواطن إلى الثورة من أجل تثبيت حقه في الكرامة”. [7]

اندلعت الثورة السورية في 15\3\2011 حين فجر أطفال درعا طاقات الشعب السوري، بعد ذل طويل وحكم استبدادي وتحكم الطائفة الحاكمة والأسرة الفاسدة بموارده ورغباته عقودًا طويلة، وكانت ثورة سلمية قابلها النظام بالرصاص والقتل، وهو يعزف على وتر الطائفية تارة والمندسين والإرهابيين والسلفيين تارة أخرى، حتى تمّ له عسكرتها، ولا يخفى على أحد تقلبات الثورة والتداخلات الإقليمية والدولية فيها، ومازالت مستمرة رغم ما تعرض له الشعب السوري، فالأرقام تتحدث عن مليون قتيل وسبعة ملايين مهجر خارج البلاد، وتدمير طال البنية التحتية للدولة السورية، وتدمير مدن كاملة، “بحسب دراسة لمعهد الأمم المتحدة للتدريب والبحث «UNITAR»، أصدر دراسة مسحية للدمار الحاصل في 16 مدينة وبلدة في سورية، فإن أكثر المدن المتضررة من الحرب، هي حلب التي تعتبر ثاني أكبر المدن السورية حيث وصل عدد المباني المدمرة فيها إلى نحو 36 ألف مبنى، تلتها الغوطة الشرقية في ريف دمشق بـ 35 ألف مبنى مدمر.

وجاءت في المرتبة الثالثة مدينة حمص التي تدمر فيها 13778 بناء، ثم الرقة 12781 بناء مدمرًا، ومن ثم حماة 6405 أبنية، ودير الزور 6405 أبنية، إضافة لمخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين جنوب دمشق 5489 بناء”. [8]


[1] بدأ الحراك الشعبي في 19 – 12 – 2018، وتمّ خلع البشير في 11 – 4 – 2019

[2] محمد عايش، الثورات المضادة ستفشل هذه المرة، صحيفة القدس العربي 15 – 4 -2019

[3] ساسة بوست: ثورة مضادة من الخليج.. هل تقترب ثورة السودان من السيناريو المصري فعلًا؟  13 يونيو، 2019 مقال مترجم.

[4] د. محمد هنيد، حصار قطر ونهاية النظام الرسمي العربي، موقع الجزيرة نت.

[5] – د. غازي التوبة، الثورة السورية: الأسباب والتطورات، مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية، لندن.

[6] فرانسيس فوكوياما، نهاية التاريخ، ترجمة وتعليق د. حسين الشيخ، دار العلوم العربية للطباعة والنشر، بيروت، ص 206

[7] –  – د. غازي التوبة، الثورة السورية: الأسباب والتطورات، مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية، لندن.

[8] معهد الأمم المتحدة للتدريب والبحث «UNITAR»

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى