مقالات

العقل والسيف

مجدي شلش

أستاذ أصول الفقه المساعد بجامعة الأزهر الشريف
عرض مقالات الكاتب

التفكير والنظر في مآلات الوقائع والأحوال فريضة شرعية، وضرورة حياتية، وكلاهما من سمات العقل وخصائصه التي لا تشاركه فيهما ملكة أخرى من الملكات التي أودعها الله سبحانه وتعالى في طبيعة خلق الإنسان، إذ غرائزه متعددة، ومكنوناته متنوعه، لكن تبقى غريزة التعقل والفهم والتفقه سيدة الغرائز، وملكة الفطرة السوية الإدراك السليم.

قدرات العقل التي أودعها الله فيه غير محدودة، وطاقاته التي ميزه بها كبيرة واسعة، لا مستحيل أمام العقل البشري إلا الوقوف على كنه الخالق ومعرفة ماهية ذاته، وكذا الوصول إلى كيفيات الغيبيات التي أخبر الله بوجودها من أمور السمعيات التي لا يستطيع العقل أن يقف على مدى عظمتها.

المستحيل الذي لا ينتجه التفكير والإدراك هو المستحيل لذاته، وهو ما لا يستطيع العقل فهمه وإدراكه، وأقرب مثال له: الجمع بين النقيضين، فإنه من المستحيل الذي لا يتصوره العقل، كالجمع بين الحركة والسكون في وقت ومحل واحد، فالأشياء إما متحركة وإما ساكنة، والعقل لا يمكنه التفكير في الجمع بينهما.

ما عدا ذلك فللعقل مكانة ووظيفة في إدراك الأمور، وحسن النظر فيها، والإبداع بالجديد دائما في مختلف المجالات الشرعية والسياسة والاقتصادية والإدارية، فالتوقف عن التعقل والفهم والإدراك معناه الموت المحقق للدول والأمم والجماعات التي جعلت من التفكير والنظر والتقييم خروج عن المألوف، ومناهضة سنة الآباء والأجداد.

الدول والحكومات والتنظيمات التي ترفع شعار لا تفكر فإن الدولة أو التنظيم يفكر لك دول متخلفة، وتنظيمات بائدة، الاستمرار والبقاء قائم على مدى الاستفادة من طاقات وقدرات العقل التي لا يحدها سوى ما تقدم ذكره، والإنسان رغم نشاطه وإنتاجه إلا أنه بحسب الدراسات والأبحاث العلمية لم يستخدم إلا عشرة بالمائة من القوة التي أودعها الله في عقله.

من هنا تظهر طبيعة الجرم الذي يرتكبه الإنسان في حق نفسه، إذ الطاقة هائلة، والمنتفع منها قليل، والمستفاد نادر، هذا الجرم واقع على من استغل عشرة بالمائة، والتي نتج عنه كل هذه الحضارات المتسعة، والصناعات الجبارة، والأسلحة المتطورة، والإمكانات المادية الهائلة، فما بالنا بمن عطل الملكة تماما، واكتفى بالحوم حول عادات الآباء، وفخر الأجداد، وانتظر أن يفكر له ألد أعدائه، فيأخذ منهم فتات ما يرمونه له من قمامة العلم، وزبالة التفكير، فالحدأة لا ترمي بالكتاكيت.

الهزائم لا تأتي إلا على أيدي المقلدين، الذين هم عن الإبداع والتجديد والفكر بعيدين، وللنظر والتقييم كارهين، ولمستجدات الواقع ومتطلباته نافرين، الهزيمة: عقل توقف، وفهم تعطل، وإدراك لمقاصد النوازل والحوادث تبطل، وبصر بالحقائق عمي وأظلم، فأي جريمة أكبر من هذا السحق تحت أيدي وأرجل الأنجاس من أعداء الداخل والخارج؟ السبب الأول فيها هو الغباء في الفكر، والنزوع والركون إلى الموروث من بعض الأدبيات التي لا تناسب الزمن والحالة، فليس كل أبيض شحمة، ولا كل أسود فحمة، ولا كل أحمر لحمة.

النصر والتمكين قائم على العقل المدرك السليم، والفكر المبدع القويم، ولمتطلبات الواقع وتحدياته الصعبة فاهم ورشيد، ناظر في سنن الله في حركة الليل والنهار، والشمس والقمر، وتغير الوقت والمكان والأشخاص والأحوال، كل يوم هو في فكر، قارئ لأمجاد الماضي التليد، ومدرك لفقه الصراع في الحاضر الأليم، ومتطلع لمستقبل مشرق قريب غير بعيد.

المصيبة القائمة، والطامة الكبرى أن تعيش بلا عقل، وأن تقوم بلا فكر، وأن تتحول إلى أداة في أيدي صناع الهزائم، تردد كلامهم، وتحيا بأفكارهم، وتتسول لقمة العيش من فتات موائدهم، إنه الموت المعنوي، حيث الجسد أصبح خالي من روح الإدراك والعقل والفكر، حركة ميتة، وعمل بلا فائدة، أرض بور، وجعجعة لا طحن فيها.

دعوة الأنبياء والمرسلين حرب على التقليد، وسعي للتجديد، وإحياء لعقول اندثرت، ومواهب مع الجاهلية ماتت، سيد الأنبياء والمرسلين صنع من عبيد الأصنام عباد لله الواحد الديان، فأصبح جبار الجاهلية بكاء المدمع، ألمعي الفكر والفقه والملهم بين المسمع والمجمع، البدوي بالقرآن والفهم هزم القروي والمدني، أصبحت العقول والأذهان الصغيرة بآيات القرآن جليلة وكبيرة وعظيمة.

العقل الملكة الجبارة التي تغير الهزائم إلى نصر، والفوضى إلى علم وفكر، والضعف إلى قوة وتمكين، والخوف والفزع إلى راحة وأمن، والخلل والانحراف إلى طاعة واستقامة، لا بديل عن العقل إلا الجنون والعمى، ولا بديل عن الفقه والفهم إلا التنطع والهوى.

استقر في أذهان العقلاء أن لكل عصر رجاله، وأن لكل حادث حديث، ولكل نازلة مجتهد بالفقه رشيد، التربية من سماتها أن تناسب عقول وعصر أبنائها، ليست هناك وسائل وإجراءات تناسب كل العصور والأزمان، جدت حوادث في عهد الصحابة لم تكن في زمن سيد الأنبياء، فشمروا لها ساعد العقل، وحاد الذهن، وعبقرية الفهم، فأصبحوا بحق خير أمة أخرجت للناس، في الشرق والغرب كانوا أئمة يقتدى بهديهم، ويتأسي بسالف فكرهم ونبوغهم.

ومع حدة ذكائم إلا أن كل عصر بعدهم تجاوز بعض أقضيتهم، وحاد عن بعض وسائلهم، لأن كل عصر عقوله التي تفكر له، وتبدع من أجل سد حاجاته ومعايشه، كل ذلك نابع من ذات النص القرآني والنبوي بلا خروج عن ثابت، أو بعد عن ضروري إلى يوم القيامة قائم، إنها في الأصل رحمة الله بالعالمين بهذا الدين العظيم، الذي ناسب كل عصر، ولائم كل مصر، وأصلح كل زمان ومكان، بمشروعية فرض الاجتهاد.

الاجتهاد الشرعي أساسه قدرة العقل المنضبط بنصوص الشرع على الاستنباط والاستدلال لكل جديد، وتحدي كل أزمة بفكر واع رشيد، ومقدم لكل نازلة حكم مناسب لمصلحة الشرع قويم وسديد، ما ساد الإسلام إلا بالعقل الرشيد، الذي فهم النص المجيد، فجدد ما اندثر، وأحيا من العزة والكرامة ما مات وارتفع، النصوص الشرعية قائمة لكن أين العقول التي تفهم، والأذهان التي تبدع في المتاح وتفكر.

الأمة الآن تعيش سطحية في الفكر، وتراجع في الإبداع والفقه، تولى أمرها سفهاء العقول، صغار الأحلام، جبناء العزيمة والرشد، حال بعض مفكريها ليس أقل سوءا من غباء وتفاهة غالب حكامها، بعض المنسوبين إلى العلم والفكر معاركهم شخصية، غلبهم الهوى، وأعماهم المنصب، وغرتهم زينة الحياة الدنيا، فوقعوا أسري الدينار والدرهم، رأيت الكثير منهم يدعي الثورية والشورى والمؤسسية، وينتقد بكل حدة غيره، وهو غارق إلى أذنيه في العفن الاستبدادي، والعطن المالي، والتصدر الإعلامي، إذا لم يدع بصفة الزعيم القائد لا يلبي، وإذا لم يوضع على المنصة أزيد وأرغى.

ما الحل؟

أولا: كل هيئة أو تنظيم أو مؤتمر لا يطلق عنان عقول أبنائه ودعاته نحو الإبداع والتجديد لمستجدات الواقع منهدم وزائل، فلابد من وحدات مفكرة لكل جديد، ومنظمة لكل مستحدث، ومدركة لحال الماضي، وواعية للصراع الآني، ومستشرفة لآمال المستقبل، ما سبقنا الغرب بقيمة ولا بمبدأ، وإنما بحسن تفكير ومكر وخديعة، وشرعنا فيه من حسن التدبير وإدارة العقل ما لو أحسناه لتغير الحال من ضعف إلى قوة، ومن مهانة إلى عزة ومنعة.

الغرب هزمنا بباطله المزيف، فأبدع في قتلنا، وشرب من دمائنا، وتمتع بثرواتنا، كل ذلك أقامه بعقله، وأبدع فيه بفكره، حتى صرنا أيتام على موائد اللئام، الأمة الإسلامية الآن لا تملك مركزا بحثيا غير مسيس، ولا اتحاد علماء إلا في إطار مؤدلج، ولا هيئة إلا للداعم المالي تسبح وتمجد، عِصِّي مكسرة، لا تجد فيها راحلة، ولا لأهداف أمتنا قائمة.

السبيل الوحيد للخروج من الهوة الكبرى، هو التجديد في الفكر، والنظر في المآل، والعمق في الطرح، كل ذلك تحت إطار ما سمح به النص القاطع، والبينة الظاهرة، بلا تسيس أو مساومة، الأمة في أمس الحاجة إلى جيل جديد يعرف للرب حقه، وللقرآن أدبه ووحيه وتشريعه، وللسنة مكانتها، وللعقل إدراكه وفنه وإبداعه.

ثانيا: بعد إبداع العقول يأتي إبداع النفوس، الجيل المبدع لا يكتفي بمنتج العقل الرشيد، وإنما تسمو نفسه ورورحه نحو السماء بطلب التأييد، فلا قيمة للأسباب وهجر مسببها، النصر والفوز والفلاح من عند الله، وحكمته سبحانه أنه كلفنا بالفقه والفهم، وتعبدنا بالعلم والاجتهاد والتجديد.

السيف بلا عقل عنف، وبلا فكر تطرف، وبلا إدراك تهور، وبلا نظر للعواقب مفسدة، السيف لا يعمل بحق إلا في يد عاقل رشيد، وللحق فاهم وعالم، فكم ضاعت باسم الشجاعة طاقات غير عاقلة، ودفنت تحت تراب الغفلة والتهور أبدان قوية، الحق مقدم على السيف، والسيف خادم لسلطان الحق والعقل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى