بحوث ودراسات

الأسباب الحقيقية لنهاية الدولة العثمانية 1 من 2

د. عامر الحموي

كاتب وأكاديمي سوري

عرض مقالات الكاتب

لمحة تاريخية عن العصر العثماني الثاني (عصر الضعف) ١٥٦٦- ١٩٢٤م :

عد وفاة السلطان سليمان القانوني ١٥٢٠- ١٥٦٦م (الذي لقّب من قبل جنده بسليمان الكبير) نهاية عصر الذروة العثمانية، حيث وجد خصومه المتنفس والمنجى نتيجة عدة حوادث ألمت بالدولة العثمانية واضطرتها إلى الانتقال من مرحلة الهجوم إلى مرحلة الدفاع. فباستلام سليم الثاني ١٥٦٦- ١٥٧٤م الخلافة حدثت عدة تمردات منها تمرد اليمن عام ١٥٧٦م الذي حصر الدولة العثمانية في ساحل البحر الأحمر واستمر سنتين حتى استطاعت الدولة العثمانية إخماده.

كما شرعت الدولة بعدة مشاريع ضخمة أرهقت الدولة اقتصاديا منها فتح قناة بين نهري الدون والفولكا وتأمين المرور من البحر الأسود إلى بحر الخزر  عام ١٥٦٩م، حيث إن هذه القناة ستربط تركيا بحرا بمنطقة تركستان في أواسط أسيا وتحول دون تهديد الروس والإيرانيين لتركستان، وأنجزت الدولة العثمانية ثلثي ذلك المشروع الضخم، ولكن نظرا لوجود مصالح لحكام الأقاليم تتعارض مع شق مثل هذه القناة، وتأكيد خان القرم ذلك بقوله: “عندما تبدأ الجنود العثمانية القدوم إلى أراضي القبجاق وشيراوان (شمال أذربيجان حاليا) فسوف لا تبقى هناك قيمة للتتر ويحتمل أن تذهب القرم من أيدينا”، وقد أغرى بعضهم إيفان الرهيب حاكم دوقية موسكو باحتلال استرخان وأدى إلى قطع الاتصال البري بين الدولة العثمانية وبلاد الترك في أواسط آسيا فقام سليم الثاني بمساعدة تتار القرم باحتلال موسكو وفرض الجزية على إيفان الرهيب والذي قاد إلى قيام أول تحالف بين روسيا الأرثوذوكسية والبابوية وأوروبا الكاثوليكية ضد الدولة العثمانية.

كما همت الدولة في فتح قناة السويس (بين البحر الأبيض والبحر الأحمر) لإعادة حركة التجارة العالمية من رأس الرجاء الصالح الذي سيطر عليه البرتغال إلى طريق التجارة القديم

ورغم المشاريع الكبيرة التي أعلن عنها سليم الثاني لكنه أبدى عزمه على فتح جزيرة قبرص التي كانت تقع في قلب الدولة العثمانية المشرفة على قارات العالم القديم الثلاث وتمثل عقبة كبيرة في طريق التجارة بين مصر واسانبول والتي يسيطر عليها البنادقة ويمارسون من خلالها بعض أعمال القرصنة البحرية، ولذا قام  العثمانيون بفتح الجيرة رغم إدراكهم أن فتح هذه الجزيرة سوف يؤدي إلى قيام تحالف مسيحي قوي ضدهم، والسيطرة على أجزاء كبيرة من بولونيا ومولدافيا وأوكرانيا وتحرير تونس… والذي نتج عنه قيام تحالف باسم الرابطة المقدسة في عام ١٥٧١م، حيث تعرضت  الدولة العثمانية لأول خسارة فادحة خسرت فيها أسطولها الحربي في معركة ليبانتو البحرية على الساحل الغربي لليونان، والتي شاركت فيها كل الدول الأوربية بمباركة البابا بيوس الخامس ودعم ملك إسبانيا فيليب الثاني. ورغم ذلك ما لبثت الدولة العثمانية أن برأت من تلك الفاجعة وبنت أسطولا جديدا وأعادته إلى سابق عهده، وأنقذت الكثير من مسلمي الأندلس وحافظت على وجودها أمام العالم الغربي وصدت الصفويين عدة مرات وانتصرت عليهم في أعظم معركة إسلامية وهي ملحمة بغداد بقيادة مراد الرابع الذي حرر العراق من حكم الصفويين عام ١٦٣٨م، ولكن بوفاة السلطان مراد الرابع ١٦٢٢-١٦٣٩م آخر السلاطين العثمانيين العظام بدأ عصر الانحدار،  وفي عهد السلطان محمد الرابع قامت معركة فيينا الفاصلة في تاريخ الدولة العثمانية عام ١٦٨٣م وكادت أن تسقط فيينا لولا خيانة حاكم القرم مراد كيراي، وتشكل جيش من الدول الأوربية تحت قيادة ملك بولندا يوحنا الثالث سوبياسكي  لنجدة فيينا في ١١ أيلول من نفس العام، والذي أدرك أن سقوط فيينا ليس أمامه إلا أيام قليلة، لذلك أقدم على عبور جسر نهر الطونة (الدانوب) والذي يسيطر عليه العثمانيون بالقوة مهما كلفهم من خسائر، حيث لم يكن بالإمكان إيصال الإمدادات إلى فيينا دون عبور هذا الجسر. وكان الصدر الأعظم قائد الجيش العثمانية مصطفى باشا قد كلف “مراد كيراي” حاكم القرم في الجيش بمهمة حراسة الجسر، ونسفه عند الضرورة وعدم السماح للأوروبيين بعبوره مهما كانت الأمور، وقد كان مصطفى باشا يكره مراد كيراي، ويعامله معاملة سيئة، أما مراد فكان يعتقد أن فشل مصطفى باشا في فيينا سيسقطه من السلطة ومن منصب الصدارة، ولم يخطر ببال هذا القائد الخائن أن خسارة العثمانيين أمام فيينا ستغير مجرى التاريخ العالمي وستقلب الكفة لصالح الأوربيين وستكون آخر حصار لخط الدفاع الأول وقلب أوربا ألا وهي فينا، لذلك قرر مراد أن يظل متفرجا على عبور القوات الأوروبية جسر الطونة، ليفكوا الحصار المفروض على فيينا، دون أن يحرك ساكنا، يضاف إلى ذلك أن هناك وزراء وبكوات في الجيش العثماني كانوا لا يرغبون في أن يكون قرة مصطفى باشا هو فاتح فيينا التي فشل أمامها السلطان سليمان القانوني. ومثلت معركة فيينا بداية النهاية لسيطرة الدولة العثمانية وتوسعاتها في جنوب الشرق الأوروبي. حيث خسرتها أمام القوات البولندية – الألمانية – النمساوية، وأعقب ذلك إعدام كل من مصفى باشا ومراد كيراي.

تلى ذلك توقيع معاهدة قارلوفجة 1699م مع الأوربيين والتي كانت نقطة فارقة في التاريخ العثماني، فبمقتضى هذه الاتفاقية خسرت الدولة العثمانية ولأول مرة جزءا كبيرا من أراضيها لصالح الدول الأوروبية، حيث أصبحت المجر وأردل تحت حكم النمسا، وقلعة قمانيجة للبولونيين، كما أصبحت المورة تحت حكم البنادقة، وبالرغم من أن الدولة العثمانية قد حققت بعض النجاحات والانتصارات بعد ذلك إلا أن هذه المعاهدة كانت بداية النهاية حيث أضحت الدولة العثمانية تفقد أراضيها الواحدة تلو الاخرى حتى انهيارها تماما في الربع الأول من القرن العشرين، رغم ما تخلل ذلك من انتصارات حافظت على جسم الدولة الإسلامية من قبل الجنود الانكشارية، و من قبل جنود السباهية الفرسان.

ولكن الإنكشارية تسلطوا على الحكم، واستبدوا بالناس، وقتلوا من خالفهم من السلاطين- استفتحوها بقتل السلطان عثمان الثاني-، وحاول عدة سلاطين إبعادعم عن الحكم وإصلاح الجيش والدولة بدأ من السلطان إبراهيم بن أحمد ١٦٣٩- ١٦٤٨م الذي خلف السلطان مراد الرابع إلى سليم الثالث ١٧٨٨- ١٨٠٧م وكان مصيرهم إما القتل أو العزل، إلى أن قضى عليهم السلطان محمود الثاني (١٨٠٨-١٨٣٩م) عام ١٨٢٦م، حيث أبادهم و دمّر ثكناتهم بشكل مفاجئ على شواطئ غاليبولي و مرمرة وأنهى بذلك تسلطهم على الدولة. و لا ننكر أن هذا العمل دمّر شوكة الدولة العثمانية و أدّى لخسارة عظمتها أمام الغرب، لأنّها كانت الشعرة القاسمة التي أطمعت دول الغرب في أراضي الدولة العثمانية المترامية الأطراف، وأدت إلى تحالف تلك الدول (تحت مسمّى الرابطة المقدسة بزعامة بريطانية) وبدأت مكائدها تظهر للوجود تحت دعوى أولا مساعدة دول البلقان و ثورة اليونان خصوصاً. حيث انتصروا على الدولة العثمانية نصر حاسم في معركة نافارين عام ١٨٢٧ م.، حيث تقدمت أساطيل فرنسا وروسيا بقيادة بريطانيا إلى اليونان ليتابعوا مجريات أحداث ثورة اليونان ولكنهم دون سابق إنذار ولمكر أعد بليل فتحوا النار على الأساطيل العثمانية الرابضة في منطقة نافارين فدمّروا الأسطول العثماني و الأسطول الجزائري وهرب من نجى من الأسطول المصري (التابع لمحمد علي). تبع ذلك بلقنة لبنان والذي أدى إلى قيام متصرفية جبل لبنان عام ١٨٦١م. و تكالبت تلك الدول الصليبية للنهش في جسد الدولة العثمانية، وبرزت المسألة الشرقية (الرجل المريض) حيث وضعت خارطة الدولة العثمانية على مائدة دول الغرب الكبار لتقاسم أراضيها، وبدأًت تلك الدول تقضم من جسد الأمة قطعة قطعة من احتلال الجزائر عام ١٨٣٠ م من قبل فرنسا، فمصر عام ١٨٨١م من قبل بريطانيا، فتونس عام ١٨٨٢م، (بعد التفاهم الودّي بين فرنسا و بريطانيا (بأن تعطى بريطانيا مصر على أن تعطى فرنسا تونس، هذا التفاهم الذي أدّى للنظام العالمي الجديد) ، فالمغرب عام ١٩١٥م من قبل فرنسا، قبلها ليبيا عام ١٩١١م من قبل إيطاليا، و أخيراً بلاد الشام والعراق من قبل فرنسا وبريطانيا. وكاد ذلك أن يؤدي إلى نشوب الخلاف بين أطراف القوى المتصارعة على الرجل المريض (الدولة العثمانية) – و حلفائه (ألمانيا والنمسا) . و حُلّ الخلاف باتّفاق دولي بما يسمّى بـ “النظام العالمي الجديد” (و الذي أصبح يدير العالم بتقاسم وظيفي بين الدول المنتصرة (لعبة الأمم)، بدأ باتفاقية سان بطرس بورغ ١٩١٣ -١٩١٤م -قامت هذه الاتفاقية بناءً على اتفاقية سابقة بين بريطانيا وقيصر روسيا عام ١٩٠٧م (والتي أصبحت تسمى بانضمام فرنسا لتلكا الدولتين بدول الوفاق الثلاثي)-، و كانت تنص تلك الاتفاقية على تقاسم الدولة العثمانية بين الحلفاء، حيث كانت تركيا الحالية من نصيب روسيا القيصرية [التي تسعى لإعادة أمجاد بيزنطة المسيحية إلى القسطنطينية] و كانت سوريا و العراق من نصيب بريطانيا وفرنسا و قد جاءت مفصلة في اتفاقية سايكس بيكو)، و بعد انتصار دول الوفاق في الحرب العالمية الأولى على دول التحالف الثالثي (ألمانيا – إيطاليا – الدولة العثمانية) تحوّلت تلك الاتفاقية “سان بطرس بورغ” إلى ما سمي فيما بعد باتفاقية “سايك – بيكو” عام ١٩١٦ م (باسم موفودي فرنسا و بريطانيا اللذان وقّعاها) خصوصا بعد انسحاب روسيا من حلف الوفاق الثلاثي و توقيعها على اتفاقية سلام مع ألمانية إبان الحرب عام ١٩١٧م (بعد قيام الثورة البلشفية الشيوعية فيها). وظهرت عصبة الأمم عام ١٩١٩م ، لتكون مظلة لذلك النظام العالمي الجديد للدول المنتصرة (حيث تلاشت مبادئ الرئيس الأمريكي وولسن ومبادئه المشهورة باسمه -وهو الذي كان له الدور الأول في إنشاء دولة إسرائيل عن طريق مساهمته الأولى في إصدار وعد بلفور- تلك المبادئ الأربع عشر و أهمها حق الشعوب في تقرير مصيرها، و ظهر القانون الدولي (اللعبة الدولية) الجديد في استغلال الدول المهزومة في الحرب بمسمى جديد هو الانتداب). ثمّ تحوّلت اتفاقية “سايك – بيكو” بعد اكتشاف النفط في الموصل إلى اتفاقية “سان ريمو” عام ١٩٢٠م، حتى حلت الولايات المتحدة الأمريكة والاتحاد السوفييتي (روسيا الجديدة الآن) بعد الحرب العالمي الثانية ١٩٣٩- ١٩٤م محل بريطانيا وفرنسا في حكم العالم.

وقد لعب يهود الدونمة حجر الأساس في هدم الدولة العثمانية، وذلك بعد تحول أغلب اليهود داخل الدولة إلى الإسلام ظاهرا وحقيقة إلى منظمات سريّة  للقضاء على الدولة العثمانية (بعد القضاء على حركة سباتاي سيفي عام ١٦٦٦ م من قبل السلطان محمد الرابع )، وأنشؤوا الجمعيات الماسونية في الدولة العثمانية التي أفضت إلى جمعية الاتحاد والترقي (و لقد لعب اليهود بالتعاون مع الغرب الدور الأول في إنشاء تلك الجمعيات في جميع البلاد التي تخضع للدولة العثمانية، وكان أغلب أسماء تلك الجمعيات “الفتاة”. والحديث في هذا يطول).

فبقضاء السلطان محمود الثاني على العصب الشوكي للدولة العثمانية الانكشارية استأسد عليها العدو والخونة فبعد معركة نافارين ودمار اﻷسطول العثماني حيث دعمت تلك الدول محمد علي باشا والي مصر لإضعاف الخلافة العثمانية، ولما قويت شوكت محمد علي اجتمعت دول العالم الغربي وعلى رأسها بريطانيا لتطيل من عمر الدولة العثمانية أمام تهديدات محمد علي وانتصرت عليه وطردته من اﻷناضول ثم بلاد الشام وأصبحت بريطانيا صاحبة الفصل داخل الدولة العثمانية وخاصة أمام الخطرين الروسي والفرنسي قبل أن يوحدهم تقارب الدلة العثمانية مع ألمانيا والنمسا.

 وبريطانيا كانت تعتبر نفسها الراعي اﻷول لليهود في العالم ومنهم يهود الدولة العثمانية بعد أن رعت فرنسا الكاثوليك وروسيا الأرثوذوكس، لذلك أنشأت بريطانيا المحافل الماسونية داخل الدولة العثمانية التي يديرها يهود الدونمة للقضاء على الدولة من الداخل.

وتحول نظام الامتيازات الممنوحة من الدولة العثمانية للدول الغربية إلى نظام تدخل لتلك الدول في شؤون الدولة العثمانية الداخلية.

باﻹضافة لذلك كان لعصر التنظيمات في عهد السلطان محمود الثاني وابنه عبد المجيد الأول ومرسوم الكول خانة الذي أعطى الطوائف اﻷخرى في الدولة العثمانية امتيازات كثيرة وسمح لتلك الدول اﻷجنبية برعاية شؤونهم بل ومحاكمة رعاياها من الطوائف اﻷخرى في الدولة العثمانية ضمن محاكم مختلطة الحجر الضاغط على أنفاس الدولة العثمانية ومكبلا يديها من أي تصرف يتعارض مع رغبات تلك الدول.

وفي عام ١٨٥٣م زار قيصر روسيا نيقولا اﻷول السفير البريطاني في بطرسبورغ العاصمة الروسية ووصف الدولة العثمانية بالرجل المريض وطلب القضاء عليها قبل أن تتعافى، حيث كانت الدولة العثمانية في مراحلها المتأخرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى