بحوث ودراسات

مكائد الاستشراق للطَّعن في الإسلام وتبرير محاربته: برنارد لويس نموذجًا 3 من 5

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

“جذور الغضب الإسلامي” من منظور برنارد لويس

نُشر مقال The Roots of Muslim Rage-جذور الغضب الإسلامي في سبتمبر 1990 ميلاديًّا، عبر مجلة ذا أتلانتيك الأمريكيَّة، المعنيَّة بالنشر في مجالات الأدب والثقافة والتعليم. يطرح المقال سؤالًا هامًّا، هو بمثابة عنوان فرعي للمقال: ما سرُّ الكره العميق لدى الكثير من المسلمين تجاه الغرب؟ ولماذا لن يهدأ سخطهم بسهولة؟ يعترف لويس في بداية مقاله أنَّ الإسلام من أعظم الديانات التي يعتنقها المؤمنون في العالم، وأنَّه جاء بالراحة والطمأنينة للعديد من الناس، وأنَّه منح المكانة والقيمة للكثير من المهمَّشين من المسلمين الأوائل، وأنَّه شجَّع معتنقيه على التآخي والتكاتف، مما أثمر عن حضارة عظيمة سادت العالم لقرون. مع ذلك، فقد بثَّ الإسلام في نفوس معتنقيه، وفق تعبيره، بعض الكراهية والنزوع إلى العنف. ومن سوء حظ الحضارة الغربيَّة أنَّ مشاعر الكراهية التي نشأت لدى المسلمين موجَّهة في معظمها، وليس كلِّها، تجاه الغرب (ص48).

يدعو لويس إلى عدم المبالغة في وصف مشاعر الكراهية لدى المسلمين تجاه الغرب، ملفتًا إلى أنَّ تلك الكراهية ليست عامَّة، وأنَّ العدائيَّة لا تمثِّل شعورًا عامًّا بين المسلمين في العالم الثالث. يعترف لويس بأنَّ أمريكا حتَّى ذلك الحين لم تلاقِ أبدًا المتاعب والمشكلات التي واجهتها في أماكن أخرى من العالم، مثل جنوب شرق آسيا أو أمريكا الوسطى؛ مع ذلك، فلهجة التعبير عن الكراهية المعلن عنها في ليبيا وإيران ولبنان تنذر بمواجهات غير مُحبَّبة. ومن نماذج تلك اللهجة وصْف الغرب بأنَّهم “أعداء الله”، على اعتبار أنَّ المسلمين يحاربون في سبيل إعلاء كلمة الله، وبالتالي يكون عدوُّهم “عدو الله”. ولا يعتبر لويس فكرة “أعداء الله” غريبة؛ حيث وردت في الكتاب المقدَّس، وفي القرآن الكريم، وإن كانت تتجلَّى أكثر شيء في الزرادشتيَّة، التي تعتبر أنَّ هناك قوَّة شرِّ يجسِّدها إله مستقل، لا يخضع لسلطان إله الخير والعدل، بل يعمل ضدَّه.

يعلِّق لويس على الجانب السياسي في حياة النبي مُحمَّد (ﷺ) مدَّعيًا أنَّ الصراع بين الخير والشرِّ، الذي تدور حوله عقيدة الدين، اتَّخذ جانبًا سياسيًّا. يعتقد لويس أنَّ القرآن الكريم يدور حول صراع بين إطاعة الله واتِّباع إغواء الشيطان، وهو صراع وضعه الله تعالى ليختبر البشر، ونتيجة محسومة من قبل. وبما أنَّ الشيطان عدوٌّ لله، فمحاربته في سبيل الله؛ وبما أنَّ المحاربة في سبيل الله، فالخصم دائمًا هو عدوٌّ لله، ومهمَّة المسلم هي إرسال أعداء الله إلى حيث سيتلقَّون العقاب المناسب من الله على ما اقترفوه. ويعتبر لويس هذا النموذج لتقسيم البشر هو أساس معتقد الإسلام بأنَّ الناس إمَّا مؤمنين أو كافرين؛ وأنَّ ما يجمع المسلمين هو دار الإسلام، وما يجمع غيرهم من الناس هو دار الكفر، أو دار الحرب، الذي يُأمر المسلم-على حدِّ قول لويس-بضمِّه إلى دار الإسلام. وقد تبلور هذا الشعور بالسمو على الآخرين في أوج الحضارة الإسلاميَّة، حينما رأى المسلمون أنفسهم مركز العلوم والتنوير، المحاط بعالم من الوحشيَّة من المفترض تهذيبه وهدايته إلى الإسلام.

اشتعل الصراع بين الإسلام والمسيحيَّة، الديانة صاحبة العدد الأكبر من الأتباع على الإطلاق، منذ ظهور الإسلام قبل 14 قرنًا؛ لكنَّ الكرَّة انقلبت على المسلمين في القرون الأربعة الأخيرة، بعد سلسلة من الحروب والحملات الجهاديَّة/الصليبيَّة. ويرى لويس أنَّ مشروعيَّة الحروب الصليبيَّة في القرون الوسطى تنبع من رغبة المسيحيِّين في إعادة الشام وشمال إفريقيا إلى الحاضنة المسيحيَّة، لكنَّ المساعي أُحبطت على يد المسلمين، الذي أُحبطت مساعيهم هم الآخرين لنشر الإسلام في الغرب، التي عجز المسلمون عن الوصول فيه إلى ما بعد أسوار فيينا غربًا، وجبال البرانس في جنوب فرنسا شمالًا. ونتج عن هذا العجز، وفق اعتقاد لويس، حقد شديد على الغرب الذي لم يستعصَ على الفتح فحسب، إنَّما سلبهم كذلك السيطرة على مصائرهم في دار الإسلام بفرض هيمنة مُذلَّة.
برغم أنَّ اكتشاف أوروبا شارك فيه العديد من المنتمين إلى الأعراق غير الأوروبيَّة، فقد كان للأوروبيِّين السَّبق في فرض السيطرة، ونشر الثقافة واللغة، وفرض الديانات السائدة في بلادهم. ويشير لويس إلى أنَّ بعض المهاجرين الأوائل إلى الولايات المتَّحدة كانوا من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وإن كان غالبيَّتهم من المسيحيِّين، ومن بينهم قلَّة من اليهود. ومن المفترض أن يكون ذلك قد أعلى من مكانة الولايات المتَّحدة في أعين المسلمين، ولم يُقل من مكانتها. كان اتصال الشرق بأمريكا محدودًا في الماضي، لكنَّ الحرب العالميَّة الثانية والتطوُّرات اللاحقة لها، وكذلك الصناعات النفطيَّة، أجبرت الطرفين على الاجتماع، وخلقت سببًا مباشرًا للتواصل. كانت أمريكا بالنسبة إلى البعض تمثِّل “الحريَّة والعدالة والفرص”، بينما رآها البعض الآخر مصدر “الثروة والقوَّة والنجاح”؛ غير أنَّ هذه النظرة لأمريكا اختلفت حينما بدأ الصحوة الإسلاميَّة تصف أعداء المسلمين بأنَّهم “أعداء الله”. حينها، على حدِّ وصف لويس، أصبحت أمريكا “ألد الأعداء، وتجسيد للشر، والعدو الشرير لكلِّ ما هو خير، وبخاصَّة للإسلام والمسلمين”؛ وهنا يتساءل الكاتب “لماذا؟” (ص50-51).

يتساءل لويس عن أسباب كراهية الشرق المسلم للولايات المتَّحدة، برغم عدم وجود سياسات أو تصرفات فرديَّة لأي حكومة غربيَّة ربَّما أثارت استياء المسلمين. يتعجَّب لويس من سبب الكراهية، برغم خروج الاستعمار الأوروبي من دار الإسلام، وتوقُّف السيطرة على حقول النفط في إيران، واختفاء إمبراطورها الموالي للغرب والناشر لمفاهيمه. غير أنَّ الكاتب يجد سببًا وجيهًا لهذه الكراهية، وهي مساندة الولايات المتَّحدة لإسرائيل منذ نشأتها، وإلى اليوم. وبرغم أنَّ الاتحاد السوفييتي كان أسبق من الولايات المتَّحدة في الاعتراف بإسرائيل، ومن أوائل داعميها بالسلاح، فلم تتكوَّن ضدَّه مشاعر كراهية مثل التي يبديها المسلمون تجاه الولايات المتَّحدة. ويشير لويس إلى مواقف إيجابيَّة للولايات المتَّحدة تجاه العرب، من بينها إجبارها إسرائيل على الانسحاب من سيناء عام 1956 ميلاديًّا.

يضيف لويس أنَّ مشاعر الكراهية والعداء تجاه الولايات المتَّحدة لم تعد تقتصر على المسلمين، بل امتدَّت إلى أمم أخرى. وتتضمن قائمة الاتهامات الموجَّهة لأمريكا التفرقة على أساس النوع والعرق، والإمبرياليَّة، وإضفاء الطابع المؤسسي للأبويَّة والعبوديَّة، والغطرسة، والاستغلال. يرى لويس أنَّ هذه الاتهامات لا تختصُّ بها أمريكا دون غيرها من القوى الغربيَّة، بل يرى-على العكس من ذلك-أنَّ أمريكا كانت أقل إضرارًا للعالم الإسلامي من غيرها. ويجري المستشرق، الموصوف بأشدِّ المستشرقين عداوةً للإسلام، مقارنةً بين موقف القوتين الإمبرياليتين، الاتحاد السوفييتي والولايات المتَّحدة، من المسلمين، ساعيًا إلى إثبات أنَّ أمريكا كانت دائمًا أقل إثارةً لمشاعر المسلمين ضدَّها من غيرها، نافيًا أن تكون النشاطات الاستعماريَّة الأمريكيَّة في العالم الإسلامي سبب الكراهية.

لا يجد لويس سببًا للكراهية ضد بلاده أهم من شعور النقص والعجز أمام حضارة الولايات المتَّحدة، بعد اطِّلاع المسلمين عليها من خلال وسائل الإعلام المرئيَّة. بدأت مشاعر المسلمين تجاه الغرب بالإعجاب، لكن ما لبث أن تحوَّل الأمر إلى شعور بالحقد والكراهية، نتج عن إدراك حالة الرفاهية التي يعيشها الغرب، مقارنةً بالضعف، والفقر والتخلُّف في العالم الإسلامي (ص56-57).

وكان المفكِّرون المسلمون من دعاة الحداثة من أكثر من كَتَب عن الفرق المادِّي الشاسع بين الشرق والغرب، وعن مدى تفوُّق الغرب العلمي، وبخاصَّة في مجال التقنيات الحديثة. واعتقادًا أنَّ سرَّ التقدُّم الأمريكي والنهضة واسعة النطاق يكمنان في التقدُّم الاقتصادي-بخاصَّة في الصناعة-واتِّباع نظام المؤسسات السياسيَّة، مما ضمن نشر الحريَّات، سعى دعاة التحديث إلى اتِّباع النهج الغربي وتطبيق وسائل نهضته، ولكن عبثًا أُجريت المحاولات. فالنمو الاقتصادي الناتج عن استخدام آليَّات غربيَّة في الاستثمار وتشجيع الاستثمار الأجنبي في بلاد المسلمين لم يستفد منه سوى فئة محدودة من المنتفعين، بينما ظلَّ الباقون على حالهم. أمَّا تطبيق السياسات الغربيَّة وإتاحة الحريَّات، فقد أساءت السلطة استغلال ذلك بفرض مزيد من السياسات القمعيَّة. وفي وسط هذا المشهد، ظهرت أصوات تنادي بنبذ الطرق الغربيَّة الحداثيَّة، والعودة إلى صحيح الإسلام من خلال “التخلي عن ابتكارات الإصلاحيين الوثنيَّة والعودة إلى سبيل الله، الذي حدَّده لعباده” (ص57). من هنا، تركَّز صراع “الأصوليين” على خصمين أساسيين، هما “العلمانيَّة والمدنيَّة”.

يحارب أعداء التغريب العلمانيَّة علانيةً، باعتبارها نموذجًا جديدًا للوثنيَّة، وينسبون نشرها إلى الغرب، ويعتبرونها من تدابير اليهود ضد المسلمين. أمَّا الحرب على المدنيَّة، فلا تعد معلنة ولا تعتبر خفيَّة، وهي موجَّهة إلى عمليَّة التغيير التي جرت في العالم الإسلامي في القرنين الماضيين، وتغيَّرت العديد من المفاهيم والأسس، على المستويات السياسيَّة، والاقتصاديَّة، والاجتماعيَّة، بل والثقافيَّة. أشعل الإسلاميُّون الأصوليُّون حالة العداء ضدَّ الغرب الناشر للعلمانيَّة والمدنيَّة، باعتباره متَّهمًا بالإقلال من شأن قيم المسلمين وولاءاتهم، وبالنيل من معتقداتهم وتطلُّعاتهم، بل ومن أقواتهم إلى درجة ما. ومع هذه النظرة العدائيَّة تجاه الغرب، توجد تيَّارات إسلاميَّة أقل عداوةً، أسهمت في السابق في تحقيق إنجازات حضاريَّة.

يلفت لويس إلى ضرورة اتِّخاذ التدابير اللازمة لتجنُّب أيَّة مواجهات حربيَّة على أساس ديني، مما يستدعي إبداء الاحترام تجاه المعتقدات الدينيَّة والاتجاهات للأمم الأخرى، من خلال دراسة تاريخها، وأدبها، ومنجزاتها. ويضرب لويس المثل في الانفتاح الأمريكي على أصحاب الديانات الأخرى، وإتاحتها الحريَّة الدينيَّة بما ذكره الرئيس الأسبق جون تايلر في خطاب له ألقاه في 10 يوليو من عام 1843 ميلاديًّا، جاء فيه تأكيد الإدارة الأمريكيَّة على الفصل بين الدين والسياسة، وضمان حريَّة ممارسة الطقوس الدينيَّة لكلِّ فرد في الولايات المتَّحدة؛ ينعم “المحمِّداني” بحق ممارسة شعائره وفق ما جاء في القرآن؛ ومن حق الهندوسي أن يُبنى له معبدًا لعبادة إلهه براهمن، كما يحق للعبراني ممارسة طقوسه بحريَّة، بعيدًا عن الملاحقات والمخاوف. وكانت آخر رسائل تايلر في خطابه “ينبغي أن يتحرَّر العقل، مثل النور، أو الهواء” (ص60).

مقال ناري آخر: ترخيص بالقتل: إعلان بن لادن الجهاد (1998)

نشر برنارد لويس هذا المقال عبر مجلَّة الشؤون الخارجيَّة-Foreign Affairs، الصادرة عن مجلس العلاقات الخارجيَّة الأمريكي، في عددها 77، الصادر في نوفمبر/ديسمبر عام 1998 ميلاديًّا، تعليقًا على مقال نشرته جريدة القدس العربي، الصادرة بالعربيَّة من لندن، تناولت فيه فتوى أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، الصادرة بعنوان “الجبهة الإسلاميَّة العالمية للجهاد ضد اليهود والصليبيِّين”، في 23 فبراير من عام 1998 ميلاديًّا، والتي تضمن تحريض صريح بقتل الأمريكيِّين حيث وُجدوا بما فيهم المدنيِّين. يبرِّر بن لادن تحريضه على “قتل الاميركيِّين ونهب أموالهم” بأنَّ هؤلاء احتلُّوا ديار المسلمين بصورة غير مباشرة؛ ليخدموا مساعي “دويلة اليهود”.

يقول البيان التأسيسي للجبهة العالميَّة لمحاربة الأمريكيِّين، كما نشرته جريدة الحياة السعوديَّة، الصادرة من لندن، بتاريخ 10 مارس من عام 1998 “كل تلك الجرائم والبوائق هي من الأمريكان إعلان صريح للحرب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وقد أجمع العلماء سلفًا وخلفًا عبر جميع العصور على إنَّ الجهاد فرض عين إذا داهم العدو بلاد المسلمين … ونحن بناء على ذلك وامتثالًا لأمر الله تعالى نفتي جميع المسلمين بالحكم التالي: إنَّ حكم قتل الأمريكان وحلفائهم، مدنيِّين وعسكريِّين، فرض عين على كل مسلم أمكنه ذلك في كل بلد تيسَّر فيه ذلك حتى يتحرر المسجد الأقصى من قبضتهم وحتى تخرج جيوشهم من كل أرض الإسلام…إنَّنا باسم الله ندعو كل مسلم يؤمن بالله ويرغب في ثوابه الى امتثال أمر الله بقتل الأمريكان ونهب أموالهم في أي مكان وجدهم فيه وكل وقت أمكنه ذلك”. بمنتهى الوضوح، يدعو البيان إلى قتل “جنود إبليس من الأمريكان” حيثما وُجدوا في أراضي المسلمين، معتبرًا ذلك خطوة هامَّة في طريق “تحرير المسجد الأقصى”. يستند بن لادن في دعواه إلى قتال الأمريكان إلى: 1-نهب أموال النفط في الخليج العربي، وبخاصة المملكة العربيَّة السعوديَّة، حيث وُلد ونشأ؛ و2-حصار العراق ونهب نفطه من خلال تحالُف صليبي-صهيوني، تسبَّب في قتل مئات الآلاف؛ و3-تعمُّد إلهاء المسلمين بمشكلاتهم الداخليَّة للانشغال عن نُصرة قضيَّة فلسطين، ولتمزيق العالم الإسلامي وتفتيته إلى دويلات.

بالطبع، وبلا شكَّ،  فإنَّ فيما يحرِّض عليه البيان إشاعة للفوضى، وتهديد للأمن العام، وإفساح للمجال لمواجهات دوليَّة غير محسوبة العواقب، وكذلك تحريض ضمني على الاقتصاص من المسلمين، مدنيِّين وعسكريِّين، بإعمال القتل في رعايا البلدان الأجنبيَّة، وحتَّى لو صحَّ ادِّعاء بن لادن باستباحة هؤلاء أموال المسلمين؛ وحتَّى لو أنَّ هؤلاء تحرِّكهم عقائد دينيَّة متشدِّدة، تدعو إلى التوسُّع على حساب أراضي الغير وحقوقه، وتُعلي من قدر فئة بشريَّة على غيرها بما لم يحكم به الله، وتزدري الآخر في نفسها، وإن ادَّعت احترامها لتاريخه وإنسانيَّته، وإن كان هدفها الأساسي محو هويَّته الدينيَّة لكي يصبح تابعًا لها. لا يمكن الجدال في صحَّة اختيار برنارد لويس في عنوان مقاله عبارة “ترخيص بالقتل”؛ لمضمونها الهادف إلى التنديد بالقتل الجماعي لأبرياء على يد جماعات متطرِّفة، تستهدف إخضاع العالم لسلطانها، وتستند في ذلك إلى نبوءات دينيَّة، الله وحده يعلم مدى صحَّتها.

يبدأ لويس تحليله الإعلان المشار إليه بالتعليق على تصنيف بن لادن الأمريكان باعتبارهم “جنود إبليس”، و”أعداء الله”، مشيرًا إلى أنَّ هذا يعود في الأصل إلى اعتبار المسلمين أنَّ حربهم “في سبيل الله”، وبالتالي فإنَّ عدوهم عدو الله، كما فُصِّل في مقال “جذور الغضب الإسلامي”. يعتبر بن لادن، وفق رأي لويس، أنَّ “المؤمن” يظنُّ نفسه دائمًا المُصح، ويرى “الكافر” دائمًا المخطئ، كما يعتبر أنَّ حرب الخليج الأولى عام 1990 ميلاديَّا، عدوانًا أمريكيًّا على العراق، وهذا ما يشكِّك فيه لويس، ويراه رأيًا معيبًا يشكِّل الرأي العام المسلم تجاه الحرب. يتطرَّق لويس بعد ذلك إلى إشارة بن لادن إلى ثلاث بلدان عربيَّة طالتها أيادي التخريب والعبث الغربي-كما رأى بن لادن-وهي جزيرة العرب، والعراق، وفلسطين (يشير إليها لويس باسم أورشليم)؛ وبالطبع جزيرة العرب-أرض الحرمين ومهد الإسلام-هي الأهم بين البلدان الثلاث.

ويلفت لويس الانتباه إلى مسألة أمر النبي مُحمَّد بإخراج غير المسلمين من دار الإسلام في جزيرة العرب، في حديثه الذي أخرجه الإمام مالك في الموطَّأ “لا يجتمع في جزيرة العرب دينان”، ورواه البخاري (3168) ومسلم (1637)، ويتَّفق معه حديث رواه أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب-رضي الله عنه-وأخرجه مسلم (1767)، يقول فيه: قال رسول الله (ﷺ) “لأخرجنَّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلمًا”. وامتثالًا لأمر النبي، عمل الخليفة الثاني عمر على إخراج اليهود من خيبر-شمال جزيرة العرب-والنصارى من نجران-جنوب الجزيرة-بقرار أصدره عام 641 ميلاديًّا، ما يوافق عام 20 هجريًّا. يصف لويس اليهود والنصارى هؤلاء بأنَّهم شكَّلوا مجتمعات “عتيقة ومتأصِّلة، وعربيَّة اللسان والثقافة وأسلوب الحياة، ولا تختلف عن جيرانها في أسلوب الحياة”. ويرى لويس في إخراج عمر بن الخطَّاب غير المسلمين من جزيرة العرب “محدودًا ورحيمًا”، على عكس محاكم التفتيش في إسبانيا بعد سقوط دولة المسلمين، وما فعلته من إجبار لغير المسيحيِّين على التنصُّر، وإلَّا استباحت قتله. غير أنَّ قرار عمر بن الخطاب نهائي وغير قابل للرجعة، ومنذ ذلك الحين، أصبحت جزيرة العرب محرَّمة على غير المسلمين. وليس من المسموح لغير المسلمين في جزيرة العرب بممارسة طقوسهم الدينيَّة علنًا، أو إقامة دور عبادة لهم، وفق ما قاله لويس في المقال المنشور قبل 20 عامًا.

يستشهد لويس بحُسن معاملة صلاح الدين الأيُّوبي للأسرى بعد انتصاره في معركة حطِّين، بل ويعترف المستشرق الشهير بمبرِّر صلاح الدين القوي لشنِّ حربه على الصليبيِّين، وهو هجوم أمير الكرك، أرناط، أو رينالد من شاتيون، على قوافل الحجَّاج المسلمين، ونهبها، برغم عقده هدنةً مع صلاح الدين قبلها بعام، أي في 1186 ميلاديًّا. ويدَّعي لويس أنَّ المسلمين ربَّما فقدوا اهتمامهم بأورشليم/الأرض المقدَّسة بعد نجاح الحملة الجهاديَّة لصلاح الدين الأيُّوبي؛ فقد تنازل عنها السلطان الكامل الأيّوبي للإمبراطور الروماني فريدريك الثاني عام 1229 ميلاديًّا، خلال الحملة الصليبيَّة السادسة، فيما يُعرف بـ “اتفاقيَّة يافا”، التي نصَّت على أن يبقى المسجد الأقصى بكافَّة مصلياته في أيدي المسلمين، وأن يدير قرى بيت المقدس والٍ مسلم. غير أنَّ السيطرة الصليبيَّة انتهت عام 1244 ميلاديًّا، بعدما نُقضت الاتفاقيَّة.

أجبر اكتشاف النفط في جزيرة العرب، أوائل القرن العشرين، الغرب على تكرار زيارة تلك المنطقة، وكان ميناء جدَّة، الواقع على البحر الأحمر، منطقة محظورة على الوافدين الأجانب. وأصبحت الجانب الشرقي للجزيرة هو أكثر المناطق التي شهدًا توغُّلًا غربيًّا، ما اعتُبر شكلًا من “تدنيس الأماكن المقدَّسة”، وأشعل فتيل الامتعاض. ويسخر لويس من اعتبار تدخُّل الجيش الأمريكي لحماية السعوديَّة والكويت من غزو صدَّام حسين، خلال حرب الخليج الأولى، تدنيسًا لأرض الحرمين من قِبل “كفَّار”.

يختتم لويس مقاله باعتبار ما قاله بن لادن “تحريفًا” لصحيح دعوة الإسلام، وأنَّ في فتواه ضدَّ الأمريكان في جزيرة العرب فيها تعدٍّ على حالة السلم والأمن العام. يرى لويس أنَّ بعضًا من المسلمين قد يرضى عن بيان بن لادن، وقد تطبِّقه قلَّة منهم، وهو ما يستدعي اتِّخاذ الولايات المتَّحدة الوسائل الفعَّالة لحماية نفسها، “أيَّما كانت“، وإن كان الأهم من ذلك تحديد دوافع الإرهاب وفهم أسباب التطرُّف؛ لأنَّ في ذلك سبيل لمعالجة المشكلة من جذورها. يبيح لويس بذلك لبلاده اتِّباع النهج الذي تراه مناسبًا للقضاء على الإرهاب، مهما كلَّف…

أخيرًا، نودُّ التعليق بأنَّه لا يعني وجود عقيدة إسلاميَّة تنصُّ على الجهاد في سبيل الله تكدير السلم بارتكاب جريمة القتل في خارج إطار إعلان الحرب، والصحيح هو الاتفاق السلمي لاستعادة حقوق من اغتُصبت حقوقهم، وضمان سلامة المعتدي، بعد أخذ الحقوق منه، بما يرضي الله تعالى ويتَّفق مع شريعته. غير أنَّ الأهم هو شرعيَّة المطالبة بالحقوق المهضومة؛ فلا أحد فوَّض أسامة بن لادن ولا أيمن الظواهري للمطالبة بحقوق المسلمين، والمسلمون أولى بالتعبير عمَّا يُسخطهم.  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى