بحوث ودراسات

مراجعات للبطريرك 1 من 12

محمد القدوسي

كاتب وصحفي مصري
عرض مقالات الكاتب

إهداء

إلى «مصر» كما ولدتنا وعرفتنا وعرفناها وعشناها أبناء لها:

إلى «عمرو بن العاص» وجيشه الذى حرر مصر من الاحتلال الرومانى.

وإلى البطريرك «بنيامين» الذى قال إن الأقباط فرحوا بالفتح العربى كما تفرح الأسخال (صغار الحيوانات) إذا ما حلت قيودها وأطلقت لترتشف من ألبان أمهاتها.

هذه المراجعات

فى الجامعة كنا، كالمعتاد، مزيجا جمعته الصداقة ولم يفرقه اختلاف المشارب والمذاهب. تكتسى مجالسه بخضرة العمر وبياض القلب، فيها تتحرك الكلمات ـ ونحن معها ـ من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، حرة وعفوية لدرجة يصعب معها أن «يتمترس» أحد فى مكانه، إذ لا بد من «الزحزحة» ولو قليلا.
كنا مسلمين وأقباطا، ملتزمين دينيا وعلمانيين، ليبراليين ويساريين، نختلف إلى عدد من الكليات ومعاهد العلم، وبديهى أن كل مجلس كان يبدأ بآراء تحمل صبغاتها المختلفة وتحيزاتها المتباينة، وبديهى أيضا أن الحوار لم ينته ـ أبدا ـ إلى اتفاق، وإن أدى ـ دائما ـ إلى ثراء يستحق أن نكون ممتنين لإحرازه، ولم أكن وحدى من يشعر بهذا الامتنان.
سنوات طوال مرت، على مجالسنا تلك، زادت أحداثها الجسام من الإحساس بوطأتها، وحسبك أن يقال عنها إنها تنتمى إلى القرن الماضى (النصف الأول من ثمانينياته) حتى وإن لم يكن القرن الجديد قد مر منه أكثر من عقد واحد. سنوات طوال مرت، لكن أيا من رفاق الصبا لم ينس تلك الأيام، لدرجة أن هاجس «الاتفاق» ظل حاضرا فى ذهن صديقى وهو يقوم بزيارته الأولى إلى «روسيا» منذ شهور، ثم وهو يعود ليحكى عما رآه هناك ملخصا الأمر بعبارة تقول: «عندما سقط الاتحاد السوفيتى أضير جميع مواطنيه، من دون فرق بين أبناء دين وآخر، ولا مذهب سياسى وآخر».


الآن، تطلع إلى ما تراه حولك وقل معى: إنها أجواء مصر ما قبل الاحتلال البريطانى. لعله التنمر لوراثة العرش، ولعلها ريح الفساد العاتية، التى أفسدت كل شئ وأسقطت كل شئ، حتى صرنا فى «أطلال دولة» يسب الدين داخل برلمانها، وتسير «الفضيلة» فى دروبها مستخفية على أطراف أصابعها، محاذرة أن تقلق راحة «الرذيلة» التى باتت تستأثر بحق المجاهرة، وتنفرد بالسلطة كلها. أو لعلها أجواء الخيانة:
وأعلن فيك حساب الجماهير
ماذا سيسقط من طبقات
تسمى احتلال البلاد ضيافة *
تلك الخيانة التى تمتد بطول ملل ونحل وعمق طبقات، ويتورط فيها ـ عن جهل ـ بعض من يخرج منها صفر الكفين، ولا يجنى من حصادها المر شيئا.
والخيانة ـ كما تعلمون ـ لا دين لها، لكن لها أسبابها، التى يأتى «الحقد الطائفى» فى دركها الأسفل، وهو حقد يسلخ أصحابه عن كل فضيلة، ويعميهم عن كل حقيقة، ويجردهم من أبسط مقومات الإنسانية. حقد يشير العلامة «محمود محمد شاكر» ـ رحمه الله ـ فى كتابه الفذ «أباطيل وأسمار» إلى واحد من أسوأ فصول الخيانة التى اتخذت منه وقودا، وهو فصل شاهِدُه زعيمنا الوطنى «أحمد عرابى» إذ جرده المحتل ـ بعد أسره ـ من ألقابه، فسجل فى مذكراته وخطاباته استهانته بهذا التجريد، وحرص على أن يوقع دائما باسم «أحمد عرابى المصرى»، تأكيدا على اعتزازه بمصرية عجزت حتى بوارج الاحتلال ومدفعيته عن تجريده منها. وفى «أباطيل وأسمار» يقتبس أستاذنا «محمود محمد شاكر» من مذكرات «عرابى» عبارة هى:
«يقول أحمد عرابى فى حديثه عما لقى فى سجنه بعد هزيمته: «وبعد ساعة جاء ليزورنى بشارة تقلا، محرر جريدة الأهرام، وظننت أنه قدم ليعزينى، ويبدى عواطفه نحوى، وقد كان ممن يدينون بمبدئنا قبل الحرب، وقد أقسم بدينه وشرفه أنه واحد منا، وأنه يعمل لحرية وطننا، وقد عددناه فى الحق من الوطنيين، ولكنه لما دخل علىَّ توقح أشد التوقح، ثم قال: أى عرابى، ماذا صنعت؟ وماذا حل بك؟ ورأيت أن الرجل خائن ولا شرف له». هكذا روى عرابى بأدبه الجم، ولكن يقول بعض الناس من الثقات إن بشارة تقلا بصق فى وجهه، شامتا، وطالبا لشفاء ما فى صدره».
انتهى نص العبارة، ونص تعليق الأستاذ «محمود محمد شاكر» عليها، ولم تنته رياح 1882!


لكن، ما قصة هذه المراجعات للبطريرك؟ ما الذى جعلنى أفرغ نفسى ـ تقريبا ـ لكتابتها منذ يناير 2010 ولأكثر من أربعة أشهر؟ إن ردود الفعل الأولى لم تكن مشجعة، ولا كنت أتوقع لها أن تكون؛ إذ القاعدة أن يقف «الفرقاء» كلهم ضد من لا ينطق بلسان أى فريق منهم، القاعدة ـ الواضحة منذ البداية ـ أن «الناس أعداء ما جهلوا»، وهل هناك ما «يجهلونه» أكثر من رأى لا ينتمى لهم ولا لخصومهم؟ لكننى برغم ذلك تابعت طريقى، ربما لأنها لم تكن المرة الأولى، ولا العاشرة، التى أختار فيها مثل هذا الموقف، وربما ـ أيضا ـ لأن كل ما استجد من أحداث أثناء نشر المراجعات* كان يدفعنى إذا وقفت، وينشطنى إن فترت، وحسبك باعثا أن تجد ما كنت تتهيأ لطرحه باعتباره مجرد فرض وقد أصبح واقعا ماثلا يخرق العين ويدمى القلب.
كنت ـ قبل بدء المراجعات ـ قد كتبت بعض مقالات بشأن سلوك متطرف لأقباط، فتح أبواب الفتنة وكاد أن يشعلها. ثم جاء موقف «بطريرك الكرازة المرقسية الأنبا شنودة» من تلك الفتنة، فانتبهت إلى أنه الموقف الأولى بالمراجعة. لأنه ـ أى الموقف ـ هو الأصل والمنطلق لكل ما كنت فى حميا مناقشته من مظاهر للتطرف وأسباب للفتنة. ولأن الأمر لا يتعلق بالأقباط وحدهم، ولا بالمسلمين فحسب، بل إن «مصر» كلها على المحك، والظرف عصيب، والزلل وارد، والخسارة ستكون فادحة. و«حسن النية» ـ كما أشرت فى أحد الفصول ـ هو ما أحسب أننا فى حاجة إليه، لتحقق هذه المراجعات ما قصدت إليه من تفكيك لأسباب الفتنة باقتحامها وليس بالدوران حولها، والقبض على جمرها حتى ينطفئ، بدلا من النفخ فيه من بعيد ليزداد اشتعالا.
ـــــــــــــ

* من قصيدة «إلى الضابط الشهيد» للشاعر «مظفر النواب».

* نشرت المراجعات مقالات متتابعة فى العدد الأسبوعى (الأربعاء) من صحيفة «الدستور» المصرية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى