مقالات

صفقة القرن العقاريّة

محمد صالح عويد

أديب وشاعر سوري
عرض مقالات الكاتب

إن صفقة القرن بدأت فعليا وبشكل تنفيذي دقيق وحثيث في لندن 1907-1905 وبعد إكتمال دراسات معمّقة ووضع رؤية مستقبلية إستراتيجيّة بمؤتمر دعا إليه كامبل رئيس وزراء بريطانيا آنذاك ، حيث كان يشغلهم هاجس تآكل و انهيار الحضارة الغربية ، على مدى سنتين بقيت ورشات المؤتمر المختصة والمكوّنة من افضل علماء تسع دول أوربية آنذاك في الإجتماع والإقتصاد والزراعة والجغرافيا والبترول وعلم النفس والتاريخ والانثروبولوجيا والسياسة .
المرجّح أن الغرب نجح في استثمار تآكل السلطنة العثمانية وساهم في تفعيل تناقضاتها الداخلية و إشغالها بكثير من القضايا الشائكة ليقف الرجل المريض عاجزا عن إصلاح وترميم أمراضه المستعصية ، مما سهّل المهمة على الغرب للتخلّص نهائيا من القوّة العظمى التي سيطرت آنذاك ولمدة خمسة قرون موجعة ، ولا يمكن للغرب ورغم مرور قرن على تضاؤلها وانحسار دورها فعليا، ورغم تطوره وتحوله لغول متوحش يحكم العالم لم ولن يستطع أن ينسى أو يتغافل عن ندوبه العميقة القديمة التي تذكّره بالماضي الذليل .
نجح الغرب في مرحلة ما بعد خروجه كمستعمر تقليدي ، ونتيجة لتطوّر رؤيته وتقديراته للحفاظ على مكتسباته وقيادته واستمرار نهبه للثروات بأقل تلكفة ممكنة ودون أن يلوّث قفازاته بقطرة دم و نجح في تحويل مستعمراته التي منحها استقلال ورقي شكلي لتابع صاغر وذليل عبر أدوات تميّز في صناعتها واستخلافها ومنحها الكثير من صلاحياتهِ وسلطاته الإدارية في المستعمرات الممتدّة من البحرين حتى شنقيط ( هذا ما يخص الوطن العربي فقط ) عمل على تنشئتهم وتأديبهم واستبدالهم إن أقتضت الحاجة .
نجحوا عبر المثابرة في تجاربهم النفسية والإجتماعية والسياسية في مخابر البحث والمتابعة والتفتيت الناعم ، ولكن انفجار ثورات الربيع العربي وانكساراتها المريبة اثبتت لنا كشعوب توفر فرص ضئيلة جداً ،لاسترجاع الإرادات والخصوصيّة والسيادة الوطنية التي تم سلبها في نهاية الخمسينيات بشكل نهائي بحيث ثبّت الغرب الحكومات المشغول عليها وجذّر الفساد والتجهيل والتناقضات الإجتماعيّة مكّن حكومات العسكر ودجّن الجيوش وقياداتها لتكون بيادق تحمي مصالح الغرب وتتحول لوحوش جهنميّة بوجه أي شعب يفكر بالتمرّد والخروج من قمقم العبودية .
اليوم نجد أن راسمي الخرائط الدولية القائمة على مبدأ الإبادة والإزاحة والإحتواء يعيدون قضية فلسطين للواجهة ، ليقفلوا ملفات ما زالت مفتوحة كجراحٍ نديّة ، ويسعى تاجر العقارات والدعارة الأمريكي ليخيّط الجرح على كل ما به من قيح و صديد ليقفل هذا الملف الشائك ، إن لم يكن من باب تثبيت دولة إسرائيل المحتلّة ، فمن باب إطلاق بالون صفقة القرن لإحداث تغييرات صادمة أكثر لكل ما اعتدنا عليه .
الآن وغدا علينا أن نتأمل ونتساءل :
من يعتقد بان إسرائيل تقبل بحل دولتين هو واهم جداً ، إذ يجب أن نتوجّه لبريطانيا والغرب لنعرف حقيقة مشاريعهم المبيّتة منذ قرنٍ ونيّف للمنطقة العربية برمتها وهي الموقع و المنجم والكنوز التي لا تنضب ثرواتها لتستمر رفاهيتهم وحضارتهم التي تقتات من مصير كل شعوب الأرض .
علينا أن نسأل إسرائيل المزعومة وداعميها عن حدودها النهائيّة !؟
ولنسأل عن صفات الدولة الاخرى التي يدور الحديث عنها ستجدهم يتحدثون عن كانتون منزوع السلاح معزول عن الحياة الدوليّة : أشبه بمحمية طبيعية لكائنات يجب أن تُحرس جيّدا حتى تنقرض بهدوء تام .
هل سيكتفون بحدود من الفرات إلى النيل !؟ وقد فقدنا بغداد وبيروت ودمشق وصنعا
وهل يقتنع المواطن العربي والدول القائمة بهذا الهاجس والتهديد ، أم ينتظروا بغباءٍ ليُطردوا كالكلاب الشاردة من ديارهم نحو المجهول !؟
هل مصطلح الشرق الأوسط بديل خبيث وطارئ لطمس مصطلح أكبر وأشمل وأكثر قوة فيما لو تنبّه أبناءه وتوفر لهم رجال دولة يقودون نهضتهم و يسوسوا حيواتهم للكرامة والعدالة !؟
خطر اسرائيل يتعدى فلسطين وقد دفعوا وحققوا بتعاون غربي – فارسي بتدمير العراق وسورية واليمن ( ولهذه الدول بالنسبة للغرب دلالات حضارية وثقافية – ربما لا تتوفر بذات المستوى الجامع في غيرها ) ، وسيشمل الخراب والضياع المنطقة العربية كلها وانتظروا أن تظهر إشاراتهم ودلائلهم المزوّرة عن اليمن و أرض لقمان الحكيم – النوبة – ثم السودان وهكذا حتى شنقيط .
الحقيقة أن فكرة الوطن اليهودي فكرة بريطانيّة – غربيّة خبيثة كانت من نتائج مؤتمر لندن – كامبل 1905-1907 بعد أن كان الحلم الصهيوني يتجوّل بين كندا وأوغندا وزائير والجبل الأخضر وربما نيوزيلاندا ، ثم تم استثماره بريطانيا – ليكون أداة قذرة في تمزيق المشرق العربي والحفاظ على ديمومة الحضارة الغربية التي كانت تتآكل ونجحوا بإنقاذها حتى حين إكتمال التناقضات الداخلية وانفجارها فجأة وربما هذه المرة ستكون مدمرة أكثر من كل ما مضى بتاريخ البشرية .
الان يتابع الغرب أن تعايش المواطنين في كل بلد دون وجود هوية وطنية قائمة على اسس حقيقية سيدفع لحروب مذهبية تضرّ بمصالح الغرب
وسيكون المستقبل لكانتونات أصغر تقوم على سلطة القبائل أو المذاهب أو الأقليات ويتم رفع سواتر من نزعات الحقد والتمايز لتكون وجبة سلطة سهلة الهضم للغرب وزاهية بألوانها ومشاكلها لتثير فيهم شهوة النظر و تقدم المكملات الغذائية للكارتلات الاقتصادية الجهنمية التي تعتاش على سحق وتقزيم الإنسان وطمس وجوده و دحر تراكمه الثقافي والفكري الإنساني عبر المئة ألف سنة المنقضية
الغرب يعرف تماما بأنه لم يعد بالإمكان تطوير هذه الأنظمة التي استهلكت نفسها وفقدت لياقة الخداع والمزاودة على الشعوب
وفهمت الشعوب أن لا حل سوى باليات ورؤية عيش جديدة تأخذهم نحو دولة مدنية تؤمن مستلزمات الحرية وكرامة العيش والنهوض والمساواة دون تمييز لذلك سارع الغرب للإحتواء والدفع لوضع وتفعيل ألغام الطائفية والعرقية والدينية من جديد
فعّل وطوّر الحركات الراديكالية من مشاربها السلفية والصوفية لتكون تهديد وفرامل مخيفة بوجه أي نزوع سلمي نحو حياة معاصرة مناسبة
اشتغل الغرب على كل هذه النوازع وصنع ما لم يكن موجودا فيما بعد عقد السبعينات والذي يعتبر فعليا نهاية لعصر الفكر القومي و الذي ساد خلال التحرر من السلطنة العثمانية وخلال حروب الاستقلال من الاستعمار الغربي الذي غادر ليترك لنا أعوانه الأكثر همجية وووحشية
إذ لم تستطع كل هياكل ومظاهر الدول التي كانت قائمة ولم تستطع هذه الأنظمة البائسة من خلق حالة إطمئنان مكونات المجتمع لبعضها بل ساهمت في تكريس تسوير هذه الأحياء واستثمرت التناحر الخفي لتتمكن من البقاء تسيّد مجتمعاتها كلاعبة قمار على النزعات الضيّقة وتأجيجها كلما اقتضت الحاجة .
لهذا في المستقبل وفي أول الطريق إليه سنصطدم بالكثير من الألغام التي ساهمنا مع الأنظمة في السكوت عنها و صناعتها وزراعتها والمتاجرة بها للتكسّب الرخيص .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى