مقالات

تركيا من حاضرةٍ للخلافة إلى قاعدةٍ للعلمانية

د. علي محمّد الصلابيّ

عرض مقالات الكاتب

تحولت تركيا في بضع سنين من حاضرة للخلافة الإسلامية إلى مركز للعلمانية المتطرفة والصارمة في العالم الإسلامي، فخلال بضع سنين فقط تمكن مؤسس الجمهورية مصطفى كمال من سن ِّ وتطبيق مجموعة من الدساتير والقوانين الراديكالية التي تهدف إلى إحداث تغيير شمولي في قيم ومبادئ المجتمع التركي المسلم وذلك ضمن حملته الهادفة إلى تغريب المجتمع والدولة وقطع الصلة بين تركيا والعالم الإسلامي سياسياً وثقافياً. وقد أصبحت الجمهورية التركية بذلك أول دولة تبنت العلمانية رسمياً بين بلاد المسلمين.

لقد كان مصطفى كمال ينفِّذ مخطَّطاً مرسوماً له في المعاهدات الَّتي عقدت مع الدُّول الغربيَّة، فقد فرضت معاهدة لوزان سنة 1340هـ/ 1923م على تركيَّا، فقبلت شروط الصُّلح والمعروفة بشروط كرزون الأربع «وهو رئيس الوفد الإِنجليزي في مؤتمر لوزان» وهي:

1 ـ قطع كلِّ صلةٍ لتركيَّا بالإِسلام.

2 ـ إِلغاء الخلافة الإِسلاميَّة إِلغاءً تامَّاً.

3 ـ إِخراج الخليفة، وأنصار الخلافة، والإِسلام من البلاد، ومصادرة أموال الخليفة.

4 ـ اتِّخاذ دستورٍ مدنيٍّ بدلاً من دستور تركيَّا القديم.

ولقد نفَّذ مصطفى كمال المخطَّط كاملاً، وابتعد عن الخطوط الإِسلاميَّة، ودخلت تركيَّا لعمليَّات التَّغريب البشعة؛ فألغيت وزارة الأوقاف سنة 1343هـ/ 1924م، وعهد بشؤونها إِلى وزارة المعارف، وفي عام 1344هـ/ 1925م أغلقت المساجد، وقضت الحكومة في قسوةٍ بالغةٍ على كلِّ تيَّارٍ دينيٍّ، وواجهت كلَّ نقدٍ دينيٍّ لتدبيرها بالعنف، وفي عام (1350 ـ 1351هـ/ 1931 ـ 1932م) حدَّدت عدد المساجد، ولم تسمح بغير مسجدٍ واحدٍ في كلِّ دائرةٍ من الأرض يبلغ محيطها 500 متر، وأعلن: أنَّ الرُّوح الإِسلاميَّة تعوق التَّقدُّم.

وتمادى مصطفى كمال في تهجُّمه على المساجد، فخفَّض عدد الواعظين الَّذين تدفع لهم الدَّولة أجورهم إِلى ثلاثمئة واعظٍ، وأمرهم أن يفسحوا في خطبة الجمعة مجالاً واسعاً للتَّحدُّث عن الشُّؤون الزِّراعيَّة والصِّناعيَّة، وسياسة الدَّولة، وَكَيْل المديح له. وأغلق أشهر جامعين في إِستانبول، وحوَّل أوَّلهما وهو مسجد آيا صوفيا إِلى متحفٍ، وحوَّل ثانيهما، وهو مسجد الفاتح إِلى مستودع.

أمَّا الشَّريعة الإِسلاميَّة فقد استبدلت، وحلَّ محلَّها قانونٌ مدنيٌّ أخذته حكومة تركيَّا عن القانون السُّويسري عام 1345هـ/ 1926م. وغيَّرت التَّقويم الهجريَّ، واستخدمت التَّقويم الجريغوري الغربي، فأصبح عام 1342هـ ملغيَّاً في كلِّ أنحاء تركيَّا، وحلَّ محلَّه عام 1926م.

_ وفي دستور عام 1347هـ/ 1928م أغفل النَّصُّ على أنَّ تركيَّا دولةٌ إِسلاميَّةٌ، وغيَّر نصَّ القَسَمِ الَّذي يقسمه رجال الدَّولة عند توليهم لمناصبهم، فأصبحوا يقسمون بشرفهم على تأدية الواجب بدلاً من أن يحلفوا بالله، كما كان عليه الأمر من قبل.

_ وفي عام 1935م غيَّرت الحكومة العطلة الرَّسميَّة فلم يعد الجمعة، بل أصبحت العطلة الرَّسميَّة للدَّولة يوم الأحد، وأصبحت عطلة نهاية الأسبوع تبدأ منذ ظهر يوم السَّبت وتستمرُّ حتَّى صباح يوم الاثنين.

_  وأهملت الحكومة التَّعليم الدِّينيَّ كلِّيَّةً في المدارس الخاصَّة، ثمَّ تمَّ إِلغاؤه، بل إِنَّ كلِّيَّة الشَّريعة في جامعة إِستانبول بدأت تقلِّل من أعداد طلابها، والَّتي أغلقت عام 1352هـ/ 1933م.

_  وأمعنت حكومة مصطفى كمال في حركة التَّغريب، فأصدرت قراراً بإِلغاء لبس الطَّربوش، وأمرت بلبس القبَّعة تشبُّهاً بالدَّولة الأوربيَّة.

وفي عام 1348هـ/ 1929م بدأت الحكومة تفرض إِجباريَّاً استخدام الأحرف اللاتينيَّة في كتابة اللُّغة التُّركيَّة بدلاً من الأحرف العربيَّة. وبدأت الصُّحف، والكتب تصدر بالأحرف اللاتينيَّة، وحذفت من الكلِّيَّات التَّعليم باللُّغة العربيَّة، واللُّغة الفارسيَّة، وحرَّم استعمال الحرف العربي لطبع المؤلَّفات التُّركيَّة، وأمَّا الكتب الَّتي سبق لمطابع إِستانبول أن طبعتها في العهود السالفة؛ فقد صدِّرت إِلى مصر، وفارس، والهند، وهكذا قطعت حكومة تركيَّا ما بين تركيَّا وماضيها الإِسلامي من ناحيةٍ، وما بينها وبين المسلمين في سائر البلدان العربيَّة، والإِسلاميَّة من ناحيةٍ أخرى.

_ وأخذ أتاتورك ينفخ في الشَّعب التُّركي روح القوميَّة، واستغلَّ ما نادى به بعض المؤرِّخين من أنَّ لغة السُّومريِّين أصحاب الحضارة القديمة في بلاد ما بين النَّهرين كانت ذات صلةٍ باللُّغة التُّركيَّة، فقال: بأنَّ الأتراك هم أصحاب أقدم حضارةٍ في العالم؛ ليعوِّضهم عمَّا أفقدهم إِيَّاه من قِيَمٍ بعد أن حارب كلَّ نشاطٍ إِسلاميٍّ، وخلع مصطفى كمال على نفسه لقب «أتاتورك» ومعناه أبو الأتراك.

_ وعملت حكومته على الاهتمام بكلِّ ما هو أوربيٌّ، فازدهرت الفنون، وأقيمت التَّماثيل لأتاتورك في ميادين المدن الكبرى كلِّها، وزاد الاهتمام بالرَّسم، والموسيقا، ووفد إِلى تركيَّا عددٌ كبيرٌ من الفنَّانين أغلبهم من فرنسا، والنِّمسا.

_ وعملت حكومته على إِلغاء حجاب المرأة، وأمرت بالسُّفور، وألغت قوامة الرَّجل على المرأة، وأطلق لها العنان باسم الحرِّيَّة، والمساواة، وشجَّع الحفلات الرَّاقصة، والمسارح المختلطة، والرَّقص.

_ وفي زواجه من «لطيفة» هانم ابنة أحد أغنياء أزمير الَّذين كانوا على صلةٍ كبيرةٍ مع اليهود من سكَّان أزمير، أجرى مراسم الزَّواج على الطَّريقة الغربيَّة كي يشجِّع على نبذ العادات الإِسلاميَّة، واصطحبها، وطاف بها أرجاء البلاد، وهي بادية المفاتن، تختلط مع الرِّجال، وترتدي أحدث الأزياء المعينة على التَّبرُّج الصَّارخ.

_ وأمر بترجمة القرآن إِلى اللُّغة التُّركيَّة، ففقد كلَّ معانيه، ومدلولاته، وأمر أن يكون الأذان باللُّغة التُّركيَّة.

_ عمل على تغيير المناهج الدِّراسيَّة، وأعيد كتابة التَّاريخ من أجل إِبراز الماضي التُّركي القومي، وجرى تنقية اللُّغة التُّركيَّة من الكلمات العربيَّة، والفارسيَّة، واستُبدلت بكلماتٍ أوربيَّةٍ لاتينيَّةٍ قديمةٍ.

_ وأعلنت الدَّولة عزمها في التَّوجُّه نحو أوربَّة، وانفصلت عن العالم الإِسلامي، والعربيِّ، وأمعنت حكومتها في استدبار الإِسلام حتَّى حاربت بقسوةٍ أيَّ محاولة ترمي إِلى إِحياء المبادئ الإِسلاميَّة.

وكانت خطوات مصطفى كمال هذه بعيدة الأثر في مصر، وأفغانستان، وإِيران، والهند الإِسلاميَّة، وتركستان، وفي كلِّ مكانٍ من العالم الإِسلاميِّ؛ إِذ أتاحت الفرصة لدُعاة التَّغريب، وخدَّام الثَّقافة الاستعماريَّة أن ينفذوا إِلى مكان الصَّدارة، وأن يضربوا المثل بتركيَّا في مجال التَّقدُّم، والنَّهضة المزعومة، فقد هلَّلت له صحف مصر ـ الأهرام، والسِّياسة، والمقطَّم ـ ذات الاتِّجاهات المضادَّة للإِسلام، والمدعومة من النُّفوذ الغربيِّ، واليهودي، والماسوني.

لقد برَّرت تلك الصُّحف تصرُّفات كمال أتاتورك، ووافقت عمَّا ابتدعه، ونشرت له أقوال: «ليس لتركيَّا الجديدة علاقةٌ بالدِّين» وأنَّه ـ أي: مصطفى كمال ـ: «ألقى القرآن ذات يومٍ في يده، فقال: إِنَّ ارتقاء الشُّعوب لا يصلح أن ينفَّذ بقوانين، وقواعد سُنَّت في العصور الغابرة».

لقد كانت حكومة تركيَّا العلمانيَّة الكماليَّة ـ هي كما وصفها الأمير شكيب أرسلان ـ ليست حكومة لا دينيَّةً من طراز فرنسا، وإِنجلترا فحسب، بل هي دولةٌ مضادَّةٌ للدِّين كالحكومة البلشفيَّة في روسيا، سواءٌ بسواءٍ؛ إِذ إنَّه حتَّى اللادينيَّة في الغرب بثوراتها المعروفة لم تتدخَّل في حروف الأناجيل، وزيِّ رجال الدِّين، وطقوسهم الخاصَّة، وتلغِ الكنائس.

وكان للإِعلام اليهوديِّ دورٌ كبيرٌ في التَّرويج لهذه الرِّدَّة مثلما كان له دوره البارز في تشجيع أتاتورك على البطش بأيِّ معارضةٍ إِسلاميَّةٍ، وكانت تزيِّن له: أنَّ ما يقوم به من المذابح الوحشيَّة ضدَّ المسلمين ليست سوى معارك بطوليَّة، كما كانت منبراً لكلِّ دعوات التَّشبُّه بالغرب الصَّليبي، والمناداة بالحرِّيَّة الفاجرة للمرأة التُّركيَّة، والتَّرويج لفنون الانحلال الخلقي معتبرةً: أنَّ شرب الخمر، والمقامرة، والزِّنى ليست إِلا مظاهر للتَّمدُّن، والتَّحضُّر.

إِنَّ الحقيقة المرَّة: أنَّ مصطفى كمال أصبح نموذجاً صارخاً للحكَّام في العالم الإِسلاميِّ، وكان لأسلوبه الاستبداديِّ الفذِّ أثره في سياسات مَنْ جاء بعده منهم، كما أنَّه أعطى الاستعمار الغربيَّ مبرِّراً كافياً للقضاء على الإِسلام، فإِنَّ فرنسا مثلاً برَّرت حرصها على تنصير بلاد الشَّمال الإِفريقي، وإِخراجها من دينها، وعقيدتها، وإِسلامها بأنَّه لا يجب عليها أن تحافظ على الإِسلام أكثر من الأتراك المسلمين أنفسهم.

لقد أصبح مصطفى كمال زعيماً روحيَّاً لكثيرٍ من الحكَّام الَّذين باعوا آخرتهم بدنياهم الزَّائلة.

قاد المسلمون ثوراتٍ مسلَّحةً ضدَّ الحكم العلمانيِّ التُّركيِّ المعادي للإِسلام، وظهرت أهمُّ الثَّورات في المنطقة الجنوبيَّة الشَّرقيَّة عام 1344هـ، ثمَّ في منيمين عام 1349هـ وقد قمعها الكماليُّون بشدَّةٍ منقطعة النَّظير، وذهب ضحيَّتها عددٌ كبيرٌ من العلماء، وأهملت المنطقة اقتصاديَّاً وعلميَّاً.

وقامت حركة النُّور بزعامة الشَّيخ بديع الزَّمان سعيد النَّورسي، وتلاميذه من بعده، وقد كتب العديد من الرَّسائل الإِسلاميَّة تحت عنوان «رسائل النُّور» في سبيل التَّوعية الإِسلاميَّة، ومقاومة مبادئ الكماليِّين، والعلمانيَّة، ولم تعمد حركته إِلى حمل السِّلاح، واقتصر جهادها على اللِّسان. وقد حاول أتاتورك استمالته، ونفاه، واستنكر دعوته النَّاس إِلى الصَّلاة مدَّعياً: أنَّها تثير الفرقة بين أعضاء المجلس، فأجابه:

«إِنَّ أعظم حقيقةٍ تتجلَّى بعد الإِسلام إِنَّما هي في الصَّلاة، وإِنَّ الَّذي لا يصلِّي خائنٌ، وحكم الخائن مردودٌ»، فسجنه، ثمَّ نفاه بعد أن اتَّهمه بمؤامرةٍ لقلب نظام الحكم، ولكنَّ دعوته استمرَّت في الانتشار سرَّاً بين صفوف الجامعيِّين، ومعسكرات الجيش، ودوائر الدَّولة، ومثل للمحاكمة مرَّةً أخرى بتهمة أنه وصف أتاتورك بالدَّجَّال، فوقف أمام المحكمة، وقال:

(إِنِّني لأعجب كيف يُـتَّهم أناسٌ يتبادلون فيما بينهم تحيَّة القرآن، وبيانه، ومعجزاته باتِّباعهم للسِّياسة والجمعيَّات السِّرِّيَّة، على حين يحقُّ للمارقين الافتراء على القرآن، وحقائقه في وقاحةٍ وإِصرارٍ، ثمَّ يعدُّ ذلك أمراً مقدَّساً؛ لأنَّه حرِّيَّة. أمَّا نور القرآن الَّذي يأبى إِلا أن يشعَّ في أفئدة ملايين المسلمين المرتبطين بدستوره، فهو خطورةٌ ينهال عليها جميع ألفاظ الشَّرِّ، والخبث، والسِّياسة!

اسمعوا يا من بعتم دينكم بدنياكم، وتنكَّستم في الكفر المطلق: إِنَّني أقول بمنتهى ما أعطاني الله من قوَّةٍ: افعلوا ما يمكنكم فعله، فغاية ما نتمنَّاه أن نجعل رؤوسنا فداءً لأصغر حقيقةٍ من حقائق الإِسلام…».

فأعيد إِلى منفاه، وبقي حتَّى عام 1367هـ حين بدأت الحكومة تضطرُّ للاستجابة لمطالب الشَّعب المسلم بخصوص النَّشاط الدِّيني.

لقد تجلَّت سياسة أتاتورك العلمانيَّة في برنامج حزبه (حزب الشَّعب الجمهوري) لعام 1349هـ مرَّة وعام 1355هـ مرَّةً ثانيةً، والَّتي نصَّ الدُّستور التُّركيُّ عليها، وهي المبادئ السِّتَّة الَّتي رسمت بشكل ستَّة أسهم على عَلَمِ الحزب، وهي: القوميَّة، الجمهوريَّة، الشَّعبيَّة، العلمانيَّة، الثَّورة، سلطة الدَّولة.

توفِّي أتاتورك عام 1356هـ بعد أن حقَّق علمانيَّة تركيَّا رغم أنف المسلمين. لقد أصيب مصطفى كمال قبل وفاته بسنين بمرضٍ عضالٍ في الكلية لم يعرف كنهه، وكان يتعرَّض لآلامٍ مزمنةٍ لا تطاق، وكان السَّبب: إِدمانه شرب الخمر، ممَّا أدَّى إِلى إِصابته بتليُّف الكبد، والتهاب في أعصابه الطَّرفيَّة، وتعرُّضه لحالات من الكآبة، والانطواء ـ وقد تدهور في المستويات العليا للمخِّ ـ لذلك كان هذا الدِّيكتاتور مثلاً فريداً في القسوة، والتَّنكيل، والأنانيَّة المدمِّرة.

المصادر والمراجع:

* علي محمد محمد الصلابي، الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط، دار التوزيع والنشر الإسلامية، ط1، (2001)، صفحة 478:472.

* علي حسون، تاريخ الدولة العثمانية، المكتب الإسلامي، ط3، (1994)، صفحة 287.

* سفر عبدالرحمن الحوالي، العلمانية نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة، (1987)، صفحة 573.

* جميل عبدالله محمد المصري، حاضر العالم الإسلامي، جامعة المدينة المنورة، صفحة 1/ 122:115.

* محمود ثابت الشاذلي، المسألة الشرقية دراسة وثائقية عن الخلافة العثمانية، مكتبة وهبة، ط1، (1989)، صفحة 428 ، 432.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى