بحوث ودراسات

العدو القريب – محاولة لتشخيص أحد أمراض الأمة 7 من 10

د. هاني السباعي

مدير مركز المقريزي للدراسات التاريخية بلندن.
عرض مقالات الكاتب

سابعاً: الدولة العثمانية (699 هـ إلى 1342 هـ):

هذه الدولة أقامها وأرسى دعائمها  على أساسي ديني على مذهب أهل السنة والجماعة عثمان غازي وابنه أورخان غازي وحفيده مراد الأول الملقب بالسلطان الشهيد الذي قضى سنوات حكمه (30 سنة) في الفتوحات وتوسيع مساحة الدولة لذلك يعده بعض من المؤرخين أول سلطان في الدولة العثمانية إذ أن والده أورخان وجده عثمان كان يلقبان بـ (بك).. ثم استكمل المسيرة من بعده بايزيد الأول الملقب بالصاعقة وبعض المؤرخين يعتبر بايزيد أول من حمل لقب سلطان بصفة رسمية في آل عثمان.. ثم جاء السلطان مراد الثاني والد السلطان محمد الثاني الملقب بالفاتح (فاتح القسطنطينية) و(الصرب) و(أثينا) (والبوسنة) و(قونية)، و(طرابزون)، و(أطراف سليفيكيا)، وشرع في الهجوم على إيطاليا وفتح (أوترانتو) وحاصر رودس!! وهكذا جدد العثمانيون شباب الإسلام بعد أن أفلت شمس الدين الحنيف في الأندلس!! وصار السلاطين العظام من آل عثمان يغزون ويفتحون بلاداً لم يدخل الإسلام فيها من قبل وصاروا يتحكمون في مصير العالم قرابة ستة قرون ما بين عصر ذهبي للسلاطين الكبار وعصر وسيط وعصور اضمحلال وضعف أو حسب ما أطلق على الدولة متأخراً (الرجل المريض)!!

الدولة المفترى عليها:

يقول المؤرخ د. الشناوي:”لقد عاشت الدولة العثمانية أكثر من ستة قرون واجتاحت جيوشها الإسلامية العثمانية أقاليم شاسعة في جنوبي شرق أوروبا ووسطها، وهي أقاليم لم تخضع قط من قبل لحاكم مسلم. وأحرزت باسم الإسلام انتصارات خاطفة وباهرة، وتساقطت في أيديها دول أوروبية عديدة. وامتلأت قلوب الحكومات والشعوب الأوروبية فزعاً وهلعاً من هذه الدولة الإسلامية الطارئة عليها في عقر دارها. وتعرضت الدولة في مسيرتها في أوروبا لتكتلات صليبية دولية تنادت إليها البابوية في روما وأسهمت فيها دول أوروبية عديدة. وفي بعض الأحيان تبادلت الدولة مع أعدائها الهزائم والانتصارات. ولم تترك الدول الأوروبية للدولة فرصة لالتقاط أنفاسها. وعلى الرغم من ذلك كانت الدولة تنهض من كبوتها وتعيد بناء قواتها البرية والبحرية وتستأنف مسيرتها المظفرة”[1]

هكذا كانت الدولة العثمانية التي رفعت راية الإسلام خفاقة على مدار ستة قرون! لكنها شاخت وتمزقت وصارت أثراً بعد عين! فكيف حدث ذلك؟

هناك دراسات وأبحاث حول أسباب قيام هذه الدولة وسر قوتها وعوامل ضعفها من قبل مؤرخين متحاملين حانقين وما أكثرهم.. وفريق آخر من المؤرخين المنصفين وللأسف ما أقلهم!

لكن قد يتساءل متسائل: ما علاقة الدولة العثمانية بموضوع العدو القريب وأس الداء والداء العضال حسب عنوان المقال؟

أقول: إن الدولة العثمانية أنموذج للدولة القوية الفتية التي كانت تضم بين جنباتها وتحت حمايتها العديد من الأعراق والأجناس والأمم الذين كانوا يتكلمون بلغات شتى،  ورغم ذلك فقد عاش الجميع في أمن وسلام كرعايا للدولة الإسلامية العثمانية!! لكن المشكلة أن هناك عوامل كثيرة أدت إلى ضعف الدولة وانحسار سلطانها عن الأراضي التي افتتحتها وخاصة عامل العدو القريب ذلكم الداء العضال الذي أرهق الدولة سواء كان العدو القريب من داخل الباب العالي السلطاني مقر الخلافة أو كان هذا العدو القريب من الطامعين المنتسبين للدين الإسلامي كتيمورلنك والصفويين أو الخائفين على سلطانهم كالمماليك في مصر مثل قنصوة الغوري وطومان باي أو كان هذا العدو القريب من الطوائف غير الإسلامية صاحبة الامتيازات التي كانت شوكة في خاصرة الدولة العثمانية الذين أثاروا النزعات القومية متأثرين بالنزعات القومية التي ظهرت في تلك الحقبة وانتشرت في أوربا وقد تحقق لها ما أرادت بسبب ضعف وتخاذل السلاطين المتأخرين من آل عثمان!!

وسنحاول الآن أن نسلط الضوء على مثالين لتستبين لنا الفكرة جلية:

المثال الأول: السلطان بايزيد الأول  ت 804 هـ هازم الأوروبيين في معركة نيكوبولس مجتمعين وكيف كان مصيره؟!

هذا السلطان الغازي الذي أرعب الأوروبيين عندما حاصر القسطنطينية وكاد أن يفتحها ويكتسح أوربا بأسرها.. لولا ما قدره الله تعالى من ظهور تيمورلنك التتري الشيعي الذي فعل ما لم تستطع ملوك أوروبا وجيوشها الجرارة فعله مع السلطان بايزيد!!

وحسبنا هذه الواقعة:

الحملة الصليبية بقيادة سيجموند بقيادة ملك المجر سنة 798هـ:

ذكر صاحب كتاب العثمانيون في التاريخ: “وقصة هذه الحملة الصليبية أن سيجسموند استنجد بالبابا وبأوروبا لتكوين حملة أوروبية لإنقاذ المجر وبيزنطة من الخطر العثماني، فحملت الحملة شعار سحق الأتراك أولاً ثم احتلال القدس. تكونت هذه الحملة من جيوش مجرية وفرنسية وألمانية وبولندية وإنجليزية وإيطالية وإسبانية، واجتازت هذه القوات المشتركة بعد أن بلغت 130 ألف محارب نهر الطونة (نهر الدانوب) وبلغت مدينة نيكوبولي وعندها دارت رحى معركة سميت باسمها أي باسم هذه المدينة بين الصليبيين بقيادة سيجسموند ملك المجر وبين العثمانيين بقيادة الأمير بايزيد الصاعقة عام 1396م (798 هـ). انتهت معركة نيكوبولي بانتصار العثمانيين، وأسروا كثيراً من أشراف فرنسا منهم الكونت دي نيفر قائد قوات بورغنيا وولي عهدها. وقد ألزم هذا الكونت على القسم بألا يعود إلى حرب العثمانيين. وبعد قرار بايزيد إطلاق سراح الأمراء الأسرى بعد دفع الفدية،أراد بايزيد أن يحلل الكونت دي نيفر من قسمه. قال بايزيد: (أيها الكونت! لك أن تعود مرة أخرى لمحاربتي لكي تمسح العار الذي لحق بك. واعلم أني لا أخاف من عودتك وإلا ما كنت أطلقت سراحك، تعال وقتما تشاء فستجدني وجنودي أمامك. ذلك لأني ولدت لكي أنتصر على المحاربين الذين أجدهم أمامي. وعقب انتصار العثمانيين في نيكوبولي، أرسل الأمير بايزيد الأول، أنباء هذا إلى الانتصار الخليفة المتوكل العباسي بالقاهرة، فكان جواب الخليفة عليه أنه أرسل إليه تشريفاً وخلعة وسيفاً وكان هذا معناه الاعتراف ببيايزيد سلطاناً على إقليم الروم”[2]

تيمورلنك  ت 807 هـ يوقف انتصارات السلطان بايزيد:

جاء في كتاب التحفة الحليمية في تاريخ الدولة العلية لإبراهيم بك حليم وهو مؤرخ عاصر فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني وكان معاصراً لفترة حكم خديو مصر عباس الثاني : “وفي سنة 804 هـ زاد تيمورلنك في التسلط على الأملاك العثمانية يوماً فوق يوم، فدعاه السلطان بايزيد للحرب فحضر ومعه عشرين أميراً مستقلين تحت حمايته، بينهم أمراء شروان وأمير كيلان وديار بكر، وكردستان وبخشان وخان وتركستان إلى أنقرة، وأراد أخذ قلعتها من يد يعقوب بك محافظها، وإذا بالسلطان بايزيد وصل بجيشه إلى (توقاد) أمام جيش تيمورلنك. ففي يوم الجمعة 19 ذي الحجة من العام المذكور ابتدأ القتال (..) فلما رأى العساكر التتر الموجودين ضمن جيش بايزيد أن جيش تيمور لنك تتر مثلهم، تركوا بايزيد وانضموا إلى جيش تيمورلنك وكانوا خمسين ألفاً، فانهزم جيش بايزيد. واشتغل الأمراء بتخليص أولاده. وأما هو فلم ينهزم ولم ييأس من النصرة بل صعد مع خواص رجاله على ربوة. أما تيمورلنك فإنه أرسل محمود خان من نسل جنكيز خان بفرقة للقبض على بايزيد، فلما وصل إليه انكب فرس بايزيد به فأخذ إلى تيمورلنك أسيراً”[3]

الغرب مدين لتيمورلنك:

يعقب ول ديورانت على معركة نيكوبولس: “والتحم أقدر قائدين في زمانهما في أنقرة 1401م/ وأرغمت استراتيجية تيمور أعداءه الأتراك على القتال بعد أن أرهقهم وأنهك قواهم طول السير، وهزم الأتراك هزيمة منكرة وأخذ بايزيد أسيراً، وابتهجت القسطنطينية، وظل العالم المسيحي بمنجاة من الأتراك لمدة نصف قرن بفضل التتار”[4]

الغرب يبارك انتصارات تيمورلنك:

“وبعث إليه هنري الرابع ملك انجلترا بالتهنئة، كما أوفدت إليه فرنسا أسقفاً يحمل الهدايا، وأوفد إليه هنري الثالث ملك قشتالة بعثة شهيرة برياسة روى جونزاليز كلافيجو”[5]


[1]  د.عبد العزيز الشناوي/الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها/مكتبة الأنجلو المصرية/القاهرة/1980/ص6.

[2]  د.محمد حرب: العثمانيون في التاريخ والحضارة/المركز المصري للدراسات التركية بالقاهرة/ص17، ص18.

[3]  إبراهيم بك حليم: التحفة الحليمية في تاريخ الدولة العلية/مؤسسة المختار/ القاهرة ص73، ص74.

[4]  ول ديورانت: قصة الحضارة/د.عبد الحميد يونس ومحمد علي أبو ذرة/مكتبة الأسرة بالقاهرة/مج13 ج25 ، ج26 ص47.

[5]  ول ديورانت: قصة الحضارة ج26 ص47

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى