بحوث ودراسات

هدف الحرب على العراق: دحْر الإرهاب أم التَّنصير؟ 1 من 5

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

أطلق الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج دابليو بوش، في خطابه اليوم الوطني لتأبين ضحايا هجمات 11 سبتمبر، على الحرب على الإرهاب في العالم الإسلامي مسمى “الحرب الصليبيَّة”. وكما سبقت الإشارة، أعلن بوش الابن الحرب على الإرهاب خلال اجتمع ديني عُقد في الكاتدرائيَّة الوطنيَّة، إحياءً لذكرى ضحايا 11 سبتمبر عام 2001 ميلاديًّا، حضره لفيف من كبار الشخصيَّات السياسيَّة الأمريكيَّة، لتُشنَّ حرب أفغانستان في نفس عام وقوع هجمات 11 سبتمبر، ممهِّدة الطريق أمام حرب العراق عام 2003 ميلاديًّا. غير أنَّ زعم بوش الابن بأنَّ حربه على العالم الإسلامي بهدف مكافحة التطرُّف لم تقنع كثيرين، خاصَّة مع وجود أدلَّة على أنَّ الهدف الجوهري هو إخضاع المسلمين لسُلطان مملكة الصليب، ودفعهم إلى المسيحيَّة، ترهيبًا إن فشل الترغيب.

حرب صليبيَّة بكلِّ المقاييس (2003): حقيقة حرب بوش الابن على الإرهاب

تستهلُّ الدكتورة زينب عبد العزيز-أستاذ الحضارة الفرنسيَّة في جامعتي الأزهر والقاهرة، وأوَّل مصريَّة تُنجز ترجمة كاملة لمعاني القرآن الكريم-كتابها حرب صليبيَّة بكلِّ المقاييس (2003) بمقدِّمة غير تقليديَّة، تستعرض فيها معنى عبارة “حرب صليبيَّة”. تعني العبارة، وفق معجم كنوز اللغة الفرنسيَّة، في مجلَّده السادس “هي حروب قام بها المسيحيُّون الأوروبيُّون في القرون الوسطى لتحرير الأرض المقدَّسة من أيادي المسلمين” (ص524). أمَّا المؤرِّخ الفرنسي جروسيه، فقد ذكر في كتابه ملحمة الحروب الصليبيَّة (1939) أنَّ تلك الحروب انطلقت بصيحة من الربِّ، الذي أرادها، وأعلنها على لسان البابا أوربان الثاني؛ فاحتشد جنود المسيح في ملحمة مقدَّسة. في حين علَّق قاموس اللاهوت (1998)، الصادر عن المطابع الجامعيَّة الفرنسيَّة، تحت إشراف الفيلسوف الديني الفرنسي المعروف جان إيف لاكوست، على تلك الحروب بقوله “دعا البابا أوربان الثاني إلى تحرير الأرض المقدَّسة من عبوديَّة الكفر. وأيًّا كانت انحرافات هذه الحروب الصليبيَّة، فقد حاولوا وصفها بطابع الحج الجماعي”.

تشير الدكتورة زينب عبد العزيز إلى أنَّ الكنيسة الكاثوليكيَّة اجتهدت في القرن الثاني عشر للميلاد، في منح الحروب الصليبيَّة “قاعدة قانونيَّة لاهوتيَّة متينة”، وتضرب المثل في ذلك بما جاء في خطاب البابا أوجين الثالث، الذي ألقاه أوَّل ديسمبر من عام 1145 ميلاديًّا، وطالب فيه بسلطة مطلقة ينفرد بها البابا في إدارة تلك الحروب (ص9). استغلَّ البابا تلك السلطة في منح الجنود الصليبيِّين امتيازات هائلة تشجِّعهم على المشاركة، من بينها حماية ممتلكاتهم خلال فترة غيابهم، وتأجيل دفع ديون المدينين منهم مع إلغاء الفوائد المفروضة على تلك الديون، وكذلك إلغاء العقوبات المفروضة على بعضهم نتيجة تجاوزات أخلاقيَّة، هذا إلى جانب الوعد بالخلاص يوم الدينونة. وتجد عبد العزيز أنَّ من المفارقات أنَّ البابا يوحنَّا بولس الثاني، البطريرك الأسبق لكاثوليكيَّة روما، ظلَّ يحاول توحيد كنائس العالم تحت لواء كنيسته، سعيًا إلى مقاومة انتشار الإسلام.

حرب العراق وشنُّ حملة تنصيريَّة في “مملكة بابل”

تُفرد الدكتورة زينب عبد العزيز مساحة كبيرة في كتابها (2003) لتناوُل الحملة الصليبيَّة، التي شنَّها الرئيس الأمريكي جورج دابليو بوش، عملًا بتعاليم الصهيونيَّة المسيحيَّة، على العراق، بتشجيع من اللوبي الصهيوني واليمين المسيحي في أمريكا، عام 2003 ميلاديًّا، وتحديدًا يوم 21 مارس، تزامُنًا مع عيد الفوريم (سفر أستير: إصحاح 3، آية 1؛ إصحاح 9، آية 32)، وهو عيد نجاة بني إسرائيل من بطش هامان، وزير ملك الفرس، بفضل تحايُل زوجة الملك الإسرائيليَّة، أستير. لعلَّ من أكثر ما لفت الانتباه أنَّ الإدارة الأمريكيَّة، وفق ما نشرته صحيفة لوس أنجلوس تايمز في 4 أبريل 2003 ميلاديًّا، حرصت على إرفاق القوَّات المحارِبة في العراق بمبشِّرين يتبعون المنظَّمات التبشيريَّة التي يديرها فرانكلين جراهام، نجل بيلي جراهام، أشهر أعداء الإسلام في أمريكا ممَّن يطالبون بتنصير المسلمين جميعهم للتخلُّص من خطرهم. يُذكر أنَّ صحيفة لوموند الفرنسيَّة نشرت في اليوم ذاته مقالًا تحت عنوان “المبشِّرون المعمدانيُّون في شاحنات الجيش”، جاء فيه أنَّ الجمعيَّة المعمدانيَّة الجنوبيَّة (SBC) أرسلت مبشِّريها إلى العراق، بعد تزويدهم بالمعدَّات اللازمة، وقد عسكر هؤلاء على الحدود الأردنيَّة، تحيُّنًا لأيِّ فرصة لغرس العقيدة المسيحيَّة في نفوس المسلمين.

لم تسجِّل أيٌّ من المؤسَّسات التبشيريَّة الأمريكيَّة اعتراضًا على إعلان إدارة بوش الابن الحرب على العراق؛ بل حرص قساوسة الكنيسة البروتستانتيَّة على تشجيع الذهاب إلى العراق، الذي وجدوا فيه أرضًا خصبة لنشر عبادة المسيح. يُذكر في هذا السياق أنَّ فرانكلن جراهام قد أعلن أنَّ منظَّمته التبشيريَّة، شبكة الإنقاذ، على استعداد لتقديم المساعدة في إفساح الطريق أمام الجيش، من خلال تحريف المسلمين عن عقيدتهم. سبقت الإشارة في المقال السابق (وسائل الغزو الفكري للإعداد لألفيَّة المسيَّا) إلى أنَّ التبشير والاستشراق من أهم وسائل الإعداد الذهني للمسلمين للتدخُّل الغربي في بلادهم، بأن يعتبر المسلمون الغزاة المحتلِّين هداة ومصلحين جاءوا لإخراجهم من ضيق الشريعة إلى آفاق المدنيَّة والحداثة. ويُنسب إلى فرانكلين جراهام قوله بعد أحداث 11 سبتمبر الشهيرة “إنَّ إله المسلمين ليس هو نفس إلهنا. إنَّه ليس ابن الله…إنَّه إله مختلف، وأؤمن بأنَّ الإسلام عقيدة الشيطانيَّة وشريرة”، نقلًا عن الدكتورة زينب عبد العزيز (ص17). وذكر القُس دونالد وايلدمون، رئيس جمعيَّة العائلة الأمريكيَّة (AFA)، أنَّ جمعيَّته كانت على استعداد للذهاب إلى العراق لتقديم الدعم الواجب لإعادة إعمارها وتطبيب مصابي الحرب.

تحت عنوان “كيف أصبحت حربٌ حربًا صليبيَّة”، نشرت صحيفة نيويورك تايمز في 11 مارس من عام 2003 ميلاديًّا، أي قبل اجتياح العراق بأيَّام قليلة، مقالًا يعبِّر عن إيمان الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج دابليو بوش، بعقيدة التدبيريَّة الإلهيَّة، ناقلةً عن قوله “الأحداث لا تتحَّكم فيها الصدف أو التغيير الأعمى، بل يدُ الربِّ العادلة الأمينة”. اعتقد بوش أنَّ انتخابه رئيسًا كان وفق مخطَّط إلهي، حتَّى أنَّه صرَّح لصديق له، كان حاكمًا لولاية تكساس، بأنَّه يعتقد أنَّ الربَّ أراده يترشَّح للرئاسة.

أصبح إيمان بوش بأنَّه ينفِّذ إرادة الربِّ أكثر وضوحًا بعد أحداث 11 سبتمبر المدوِّيَّة، وهذا ما كشفت عنه كلماته في الخطابات الجماهيريَّة، وكذلك في خطاب حالة الاتحاد أمام الكونجرس، التي قدَّم نفسه فيها بوصفه زعيمًا لحرب عالميَّة على الشرِّ. أمَّا عن حربه على العراق، فقد قال عنها بوش “لا نزعم أنَّنا نعرف كافَّة طُرُق العناية الإلهيَّة، ولكنَّنا نثق بها”، مشيرًا بذلك إلى أنَّ حربه تستهدف إنقاذ الشعب العراقي، ضمن حملة “تحرير الشرق الأوسط”.

وبتاريخ 7 أكتوبر من عام 2005 ميلاديًّا، نشرت صحيفة الجارديان البريطانيَّة مقالًا عنوانه “جورج بوش: الربُّ قال لي اذهب واقضِ على الاستبداد في العراق”، ينقل عن نبيل شعث، وزير الخارجيَّة الفلسطيني الأسبق، قوله أنَّ الرئيس جورج دابليو بوش قد صرَّح أمام عدد من السياسيِّين في حضوره، بأنَّ مخوَّل من قِبل الربِّ بشنِّ حلمة في منطقة الشرق الأوسط لنشر الديموقراطيَّة وإحلال السلام. نقلًا عن شعث، قال بوش “الربُّ قال لي: ‘يا جورج، اذهب وحارب هؤلاء الإرهابيِّين في أفغانستان‘؛ ففعلتُ. وبعدها قال الربُّ لي: ‘يا جورج، اذهب واقضِ على الاستبداد في العراق‘؛ ففعلتُ…والآن، من جديد، أشعر بكلمات الربُّ تخاطبني ‘اذهب إلى الفلسطينيِّين في دولتهم، ووفِّر للإسرائيليِّين الأمان، وأحلَّ السلام في الشرق الأوسط‘، وبعون الربِّ، سأفعل”.

أظهرت المقتطفات آنفة الذِّكر كيف أحاط جورج دابليو بوش حربه على العراق بهالة دينيَّة مقدَّسة، وهي مجرَّد نماذج عشوائيَّة من بين “335 عنوانًا لمقالات تتناول فكرة الحرب الصليبيَّة التي تشنُّها الإدارة الأمريكيَّة على الإسلام والمسلمين”، حصرتها الدكتورة زينب عبد العزيز، وأشارت إلى بعضها في كتابها قيد التناول (2003). غير أنَّ الإدارة الأمريكيَّة، وبرغم كلِّ التسهيلات التي منحتها للمؤسَّسات التبشيريَّة المصاحبة للقوَّات الأمريكيَّة عند اجتياح العراق، شعرت بحرج في التصريح الرسمي بأنَّ حربها على العراق هدفها الأساسي هو التَّنصير، على الأقل وفق ما نشرته صحيفة نيويورك تايمز في مقال يحمل عنوان “أمَّة في حرب: إرساليَّات تبشيريَّة وجماعات تنتقد الإسلام تنتظر تقديم العون للعراق”، في 4 أبريل من عام 2003 ميلاديًّا، أي قبل بضعة أيَّام من سقوط بغداد في 9 أبريل من العام ذاته.

يشير المقال إلى أنَّ اثنتين من المنظَّمات التبشيريَّة الإنجيليَّة-الجمعيَّة المعمدانيَّة الجنوبيَّة وصندوق السامري-اشتهر قادتها بالإساءة إلى الإسلام انضمَّتا إلى فرق المساعدة، التي تنتظر على الحدود العراقيَّة لتقديم الإغاثة الإنسانيَّة، ومعها “رسالة إنجيليَّة”، إلى دولة غالبيَّة سكَّانها من المسلمين. غير أنَّ ذلك الموقف شكَّل معضلة أمام إدارة الرئيس بوش، التي لا تريد إقصاء الكيان التبشيري المصاحب للقوَّات المحاربة، ولكنَّها لا تتحمَّل تبعات اعتبار الحرب على العراق “حربًا صليبيَّة” لتنصير المسلمين.

يعتقد المبشِّرون أنَّ في مشاركة الإنجيل اتِّباعًا لأمر يسوع “تَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ” (إنجيل متَّى: إصحاح 28، آية 19)، وقد تركَّزت جهود الجماعات التبشيريَّة في العقود الأخيرة على ما أطلق عليه المبشِّر لويس بوش عام 1990 ميلاديًّا “نافذة 10-40″، وهي المناطق الواقعة في نصف الكرة الأرضيَّة الشرقي، بالإضافة إلى الجزء الأوروبي والإفريقي في نصف الكرة الأرضيَّة الغربي، والتي تقع ما بين خطوط 10 و40 درجة شمال خط الاستواء، وفق تعريف موسوعة ويكيبيديا الرقميَّة. أمَّا عن سبب ذلك التركيز، فهو أنَّ تلك “النافذة” هي أقل مناطق العالم التي وصلتها رسالة المسيحيَّة ومساعدات المنظَّمات التبشيريَّة، برغم معاناتها من ظروف اقتصاديَّة واجتماعيَّة قاسية. وقد ذكر ممثِّلو الجمعيَّة المعمدانيَّة الجنوبيَّة وصندوق السامري، أنَّهم تجاوزوا النمط القديم للإرساليَّات التبشيريَّة، التي استخدمت الخُبز لكسب متحوِّلين جدد. وقد قال القُس فرانكلين جراهام، رئيس منظَّمة صندوق السامري الخيريَّة والمبشِّر الإنجيلي الشهير بعدائه للإسلام، أنَّ المسيحيَّة سبقت الإسلام إلى العراق، وإن كانت نسبة المسلمين في التعداد السكَّاني للعراقيِّين زمن الغزو الأمريكي 97 بالمائة. أضاف جراهام أنَّ تقديم الغذاء والدواء لا يكون باسم المنظَّمة، إنَّما “باسم ابن الربِّ”، نافيًا أن يكون في ذلك إجبارًا بقوله أنَّ المساعدة “ليست جزرة في آخر العصا”. يُذكر أنَّ نشطاء يتبعون منظَّمة صندوق السامري كانوا ينتظرون في الكويت والأردن بمعدَّات لتنقية المياه.

بداية الحرب على الإسلام في العصر الحديث

ترى الدكتورة زينب عبد العزيز أنَّ فهم أبعاد الحرب الصليبيَّة العاتية على الإسلام يستدعي تتبُّع أثر تلك الحرب، والعودة إلى جذورها التاريخيَّة، مكتفيةً بالوقوف عند عام 1965 ميلاديًّا، الذي يمثِّل علامة فارقة في تاريخ معاداة الإسلام في العصر الحديث، وهو تاريخ المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، الملزم بقراراته لجميع أصحاب القرار من رؤساء الكنائس والحُكَّام في العالم، والمعروف بالاسم المختصر “فاتيكان اثنين”. تنقل عبد العزيز عن الكاتب جوزيف توما، في كتابه فاتيكان اثنين (1989) أنَّ المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني يختلف عن كافَّة المجامع السابقة؛ فبينما استهدفت تلك المجامع المخاطر العقائديَّة التي تتعرَّض لها المسيحيَّة، وضع مجمع فاتيكان اثنين هدفًا جديدًا، هو نشر الكتاب المقدَّس وتعاليمه، بل وغرسها في نفوس أهل الأرض. جدير بالذِّكر أنَّ من بين توصيات ذاك المجمع الاعتراف بدور أم المسيح في الخلاص البشري. لعلَّ أهم ما تمخَّض عنه المجمع المسكوني الثاني “خطَّة توحيد الكنائس وتنصير العالم من خلال الحوار ومشاريع أخرى”، نقلًا عن عبد العزيز، التي تضيف أنَّ تهمة الهرطقة أُسقطت في ذلك المجمع عن الكنائس المنشقَّة، كما لم يعد غير المسيحيِّين يوصمون بالكُفر، إنَّما أصبحوا “الذين لم يدخلوا بَعد في الإيمان المسيحي” (ص29-30). أمَّا عن أهم قرارات المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، فهي: تبرئة اليهود من دم المسيح؛ واقتلاع اليسار؛ واقتلاع الإسلام بعده قبل نهاية الألفيَّة الثانية؛ ونشر الكتاب المقدَّس بين سكَّان العالم؛ وتوحيد كنائس العالم تحت لواء الكنيسة الكاثوليكيَّة؛ وفرض التَّنصير على الجميع من خلال أساليب جديدة، من بينها الحوار (ص33-34).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى