مقالات

الأصاغر والأكابر

مجدي شلش

أستاذ أصول الفقه المساعد بجامعة الأزهر الشريف
عرض مقالات الكاتب

الإنسان كائن عاقل أو مفكر، وبتعبير المناطقة حيوان ناطق، فصل يخرج كل المخلوقات، فإن اجتمعت المخلوقات في الحياة إلا إنها سلبت خاصية التفكير والعقل، فكلما زاد العقل تحققت الإنسانية، وكلما خف العقل أو ضاع في دهاليز المفاسد ذهبت الآدمية، وخلقت _ بلت _ الإنسانية.

الصغر والكبر في حركة العقل وتفاعله مع المحسوسات حتى يستخرج منها المعقولات، فمن لم يتقنها ولم يعلم ضوابطها وغاب عنه روسخ فنها فهو صغير، ومن عظمها وأعطاها حقها فحقا هو الكبير، فليس الصغر والكبر متعلق بالسن أو قوة البدن أو ضعفه، وإنما حقيقته في إدراك العقل وفهمه طبيعة الأشياء التي تجري من حوله.

غالب المسلمين يعيشون الصغار المعنوي، لأنه نتاج طبيعي للصغر العقلي والفكري، فضرب الذلة على الأمم إنما هو نتاج تفكيرها العقيم، الذي ينعكس على سلوكها وواقعها، فيحدث التأخر والتأزم والتشرذم.

المسلمون الأوائل حسن فهمهم، وصح تفكيرهم، وعلا إدراكهم في القضايا الإيمانية والفكرية، فسما سلوكهم، وعز قدرهم، وعلا شأنهم، العقل أساس الخيرات إن أحسن التفكير، وأساس الخراب إذا أتقن الفوضى في النظر والتأمل والتدبر.

التغيير الذي أصاب العرب هو التحول من الجمود على عادات وتقاليد الأهل والأقارب من الآباء والأمهات والأصدقاء إلى سعة الكون وحسن تدبر سننه وفهم مقاصد خلقه، فتحول راعي الغنم إلى قائد للأمم، والجبان الذي يخشى مواجهة الصعاب،إلى محارب ومقاوم لأشق الأزمات والمشكلات.

القرآن الكريم قضيته الأولى الهداية والخروج من ظلمات الصغر العقلي والفكري المحدود إلى عملقة النظر في مفردات الحياة، أكبر مقاصد القرآن هو نقل الإنسان من ضيق الأفق إلى سعة العقل والنظر، ومن هنا كان التحول الهائل في حياة العرب.

الصغر العقلي غالبا ما ينتج النظر القاصر، فالذي يستبدل الأعلى بالأدنى صغير، والذي يقدم الضعيف على القوي صغير، ومن لا يستشرف المستقبل ونظرته دائما إلى الماضي أو توافه الحاضر صغير، ومن لا يعظم المؤسسات ويجري وراء هوى بعض الأفراد صغير.

المظهر الأكبر في تجلي كبر العقل هو التوازن بين ما في الدنيا من نعم ومتع ومصالح على مصالح ومتعة الآخرة، الدنيا قليلة العطاء، صغيرة العمر، حقيرة المصالح الفانية، من انشغل بها عن اللذة الباقية فهو صغير وحقير مثلها.

لا أقصد التهوين من شأن الدنيا وعظم أمرها حتى تصان القيم وتقام الشرائع، وإنما ما قصدته هو التقديم عند التعارض والتزاحم بين مصالح الدنيا والآخرة، وأيضا قصدت الإنسان الذي جعل الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه وفكره، ولعل هذا معنى قوله_ صلى الله عليه وسلم_ في دعائه: ” اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا…”.

وتتجلى مظاهر الصغر العقلي في الأنا المستبدة، التي لا تري إلا ذاتها، ولا تعبر إلا عن نفسها، إن تصدر تكلم، وإن تأخر خرس وسكت، إن كان على المنصة فرح وابتهج،وإن كان مع القوم نفر ورجع، بلاؤنا في كثير من علمائنا، دائما يريد لنفسه أكثر من حقيقتها، ضمر الإخلاص، ومات الصدق، فحصل الصغر وجاء الصغار.

الصحبة الأولى قامت على صواب العقل، ودقة النظر، وطهارة القلب، وجهاد النهار، وقيام الليل، فلانت لهم العقول، وفتحت لهم القلوب، وسادوا بصدقهم وإخلاصهم الحضارات التي بادت، والأمم تكبر وتعلو بكبار العقول والنفوس، فيعلو الجميع من الصغار، وتتحقق المراتب العليا في كل ميدان.

تحتاج الأمة في هذا الوقت إلى عقول مدركة لحقيقة الصراع، وفاهمة لسنن النصر والتمكين، وتقيم الأسباب النافذة والمناسبة لتحقيق كبار أهدافها، عقول كبرت عن دنايا الأفكار، وذلة التبعية لحقول الألغام من أفكار الاستعمار، أمة تصنع النصر مع انتظارها الفرج، أمة تقدر الواقع وتحدياته، وتفكر في مآلات المستقبل.

الصغير يعرف من هدفه وخطته وقلة حيلته، والكبير يهتف دائما ” صمت آذان الدنيا إلم تسمع لنا” الكبير عالي الهمة متقد المشاعر، إحساسه ومشاعره مع بني قومه، نافذ البصيرة، حاد الذكاء، قوي القلب، عميق الفكر، والصغير إمعة يدور في أجندات الاستعمار خوفا من فوات بعض التمرات.

أكبر الجرائم التي ترتكب في حق الأمة الإسلامية هو تقزيم عقلها بالتعليم التافه، والثقافة التي لا تقدم بل تؤخر، أمتنا الكبيرة منذ نشأتها غلبت أعتى الأمم بحسن الإدارة، ودقة التنفيذ، وعمق الرؤية، والتقدم في المجال العلمي في شتى ميادينه وشعبه، العلم عند الكبار مصدر الرقي والتحضر، وعند الصغار مصدر القلق والاضطراب.

دعوتنا ولدت كبيرة من عقل كبير وقلب واسع وهدف جليل، هدفها الأسمى والأجل تحرير الإنسان من ربقة الاستعمار المادي والثقافي والمعرفي والسياسي والمالي إلى ميلاد جديد، التقدم فيه للكبير، والرفعة من الصغر لكل من هانت عليه نفسه، وزلت به قدمه.

لا نريد لأمتنا إلا كل الخير والرفعة والعلو والسمو، ولن يتحقق ذلك على أيدي الكذابين من الذين يبيعون الوهم باسم الدين، ويربون الصغار على حب الذلة والمهانة باسم فقه الواقع وكثرة تحدياته.

أناس يلعبون بالدين كلعب الصبيان بالكرة، فلا خطة ولا هدف ولا رؤية ولا عمل سوى جمع الأذكار والأوراد، وكأن الدين تتمات ودعوات خالية من عظمة التفكير ودقة التخطيط، وروعة الحركة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى