بحوث ودراسات

العدو القريب – محاولة لتشخيص أحد أمراض الأمة 5 من 10

د. هاني السباعي

مدير مركز المقريزي للدراسات التاريخية بلندن.
عرض مقالات الكاتب

الخليفة المتوكل يأمر يهدم قبر الحسين رضي الله عنه:

ولمعرفة سر كراهية الشيعة للخليفة المتوكل نسوق هذا الخبر الذي ذكره ابن كثير في تاريخه: “ثم دخلت سنة ست وثلاثين ومائتين: وفيها أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنهما) وما حوله من المنازل والدور، ونودي في الناس من وجد هنا  بعد ثلاثة أيام ذهبت به إلى المطبق (أي السجن)، فلم يبق هناك بشر، واتخذ ذلك مزرعة تحرث وتستغل”[1]

بالطبع لم يعجب ذلك القرار الحافظ السيوطي المعروف بميوله الصوفية رغم إشادته بمعظم مواقف المتوكل!! حيث قال في تاريخه متهما المتوكل بالتعصب: “وان المتوكل معروفاً بالتعصب، فتألم المسلمون من ذلك، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد وهجاه الشعراء”[2]

 أقول: لقد تعصب السيوطي لصالح القبوريين حيث أوهم القارئ أن أهل بغداد جميعاً قد كتبوا على الحيطان عبارات تشتم الخليفة المتوكل!! والحقيقة أن شيعة بغداد وبعض شعرائهم هم الذين كانوا يسبون الخليفة في السر لأنه انتصر لأهل الحق وقمع أهل البدع والضلال! لذلك نجد أن السيوطي بعد مقتل المتوكل وعند ترجمته للخليفة الجديد قاتل أبيه الملقب بالمنتصر يقول في حقه: “محسناً إلى العلويين، وصولاً لهم، أزال عن آل طالب ما كانوا فيه من الخوف والمحنة بمنعهم من زيارة قبر الحسين، ورد على آل الحسين فدك”[3]

 أقول: هكذا انكشف المخبوء واتضح لنا أن ابن الخليفة كان مخترقاً من قبل الشيعة الذي سمموا أفكاره وأفسدوا عقيدته مما دفعه للانتقام من أبيه بزعم أن أباه كان يريد أن يولي أخاه المعتز بدلا ًمنه ومن ثم نجده هذا الخليفة قاتل أبيه يهدم ما شيده أبوه ويعيد البدع كما كنت من قبل بل ويأمر بحمايتها!! ومن رحمة الله تعالى أن الخليفة المنتصر قاتل أبيه لم ينعم بالملك طويلاً فقد مات بعد ستة أشهر من ولايته!!

وإليك هذه الحادثة أيضاً:

الخليفة المتوكل يأمر بضرب رجل سب أبا بكر وعمر وعائشة (رضي الله عنهم):

قال ابن كثير في أحداث إحدى وأربعين ومائتين: “وفيها أمر الخليفة المتوكل على الله بضرب رجل من أعيان أهل بغداد يقال له: عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم، فضرب ضرباً شديداً مبرحاً يقال: إنه ضرب ألف سوط حتى مات، وذلك أنه شهد عليه سبعة عشر رجلاً عند قاضي الشرقية أبي حسان الزيادي أنه يشتم أبا بكر وعمر وعائشة وحفصة رضي الله عنهم، فرفع أمره إلى الخليفة، فجاء كتاب الخليفة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسن نائب بغداد يأمره أن يضربه بين الناس حد السب، ثم يضرب بالسياط حتى يموت، ويلقى في دجلة، ولا يصلى عليه ليرتدع بذلك أهل الإلحاد والمعاندة، ففعل ذلك قبحه الله ولعنه، ومثل هذا يكفر إن كان قد قذف عائشة بالإجماع، وفي من قذف سواها من أمهات المؤمنين قولان، والصحيح أنه يكفر أيضاً لأنهن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن”[4]

ولم يكتف الخليفة المتوكل بمعاقبة أهل البدع كالمعتزلة والشيعة الذين يسبون الصحابة رضوان الله عليهم؛ فقد وقف بحزم أيضاً لتجاوزات أهل الذمة ومن يوالونهم من المسلمين وفي ذلك يقول ابن القيم: “وقد انتهى إلى أمير المؤمنين أن أناساً لا رأي لهم ولا روية يستهينون بأهل الذمة في أفعالهم، ويتخذونهم بطانة من دون المسلمين، ويسلطونهم على الرعية فيسعفونهم، ويبسطون أيديهم إلى ظلمهم وغشمهم، والعدوان عليهم، فأعظم أمير المؤمنين ذلك وأنكره وأكبره وتبرأ إلى الله منه، وأحب التقرب إلى الله تعالى بحسمه والنهي عنه، ورأى أن يكتب إلى عماله على الكور والأمصار وولاة الثغور والأجناد في ترك استعمالهم للذمة في شئ من أعمالهم وأمورهم، والإشراك لهم في أماناتهم وما قلدهم أمير المؤمنين واستحفظهم إياه، وجعل في المؤمنين الثقة في الدين والأمانة على إخوانهم المؤمنين، وحسن الرعاية لما استرعاهم، والكفاية لما استكفوا، والقيام بما حملوا، ما أغنى عن الاستعانة بالمشركين بالله، المكذبين برسله، الجاحدين لآياته، الجاعلين معه إلهاً آخر، لا إله إلا هو وحده لا شريك له”[5].

هكذا كان الخليفة المتوكل يقظاً للجبهة الداخلية وحاول خلال فترة حكمه أن يطهر تلك الجبهة في الوقت الذي كانت جيوشه تخوض حروباً مع الروم وتدافع عن يغور دولة الإسلام.. وكانت الروم تخشاه وتهابه!! لكن رغم كل ذلك فإن مشروع الخليفة المتوكل في توحيد الجبهة الداخلية والقضاء على الطابور الخامس الذي كان بمثابة سوس ينخر جسد الأمة ويقوض دعائمها للأسف لم يكتمل بسبب أن هذا السوس كان قد وصل لبيت الخليفة نفسه ولأقرب المقربين منه؛ ابنه وبعض قواده الذين غافلوه وقتلوه، وفتحوا باباً من الشر على الأمة لم يلتئم بعد حيث قتلوا آخر الخلفاء الكبار في الدولة العباسية وبمقتله انتهى العصر الذهبي للدولة العباسية! وبدأ عصر الخلفاء الضعاف الذي انتهى بمأساة بغداد سنة 656 هـ!!

الحادثة الثانية: مقتل الخليفة العباسي المستعصم بالله سنة 656هـ:

هذا الخليفة أنموذج للخلفاء ضعاف الرأي؛ فقد تم اختباره من قبل الدويدار والشرابي؛ وزيري أبيه الخليفة المستنصر (ت 640 هـ)،  خشية أن يتولى عمه (الخفاجي) وكان شجاعاً وذا رأي يريد أن يقضي على التتار في معقلهم لكن لا تأتي الرياح بما تشتهيه السفن! ويحدثنا عن هذا الخلل الجسيم والداء العضال قطب الدين اليونيني في ترجمة الخليفة المستعصم بالله آخر الخلفاء العباسيين في العراق: “كان متديناً، متمسكاً بالسنة كأبيه وجده، ولكنه لم يكن مثلهما في التيقظ والحزم وعلو الهمة، وكان للمستنصر أخ يعرف بالخفاجي يزيد عليه في الشجاعة والشهامة، وكان يقول: إن ملكني الله الأمر لأعبرن بالجيوش نهر جيحون،وأنتزع البلاد من التتار وأستأصلهم، فلما توفي المستنصر لم ير الدويدار والشرابي والكبار تقليد الخفاجي الأمر، وخافوا منه، وآثروا المستعصم للينه وانقياده؛ ليكون لهم الأمر، فأقاموه، ثم ركن المستعصم إلى وزيره مؤيد الدين العلقمي الرافضي، فأهلك الحرث والنسل”[6] 

ابن العلقمي: يقول عنه الذهبي “ابن العلقمي البغدادي، الرافضي، وزير المستعصم: وكانت دولته أربع عشرة سنة، فأفشى الرفض، فعارضه السنة، وأُكبت، فتنمر، ورأى أن هولاكو على قصد العراق، فكاتبه وجسّره، وقوي عزمه على قصد العراق، ليتخذ عنده يداً، وليتمكن من أغراضه، وحفر للأمة قليباً، فأوقع قريباً، وذاق الهوان، وبقي يركب كديشاً وحده، بعد أن كانت ركبته تضاهي موكب سلطان، فمات غبناً وغماً، وفي الآخرة أشد خزياً وأشد تنكيلاً”[7]

وقد قام هذا العلقمي الخائن بتسريح معظم جيش الخلافة ليسهل مهمة هولاكو اجتياح بغداد!! ففي رواية للذهبي: “ثم استوزر (يقصد المستعصم) المؤيد بن العلقمي الرافضي، فأهلك الحرث والنسل، وحسنّ له جمع الأموال، وأن يقتصر على بعض العساكر، فقطع أكثرهم، وكان يلعب بالحمام”[8]

ابن العلقمي يخدع الخليفة: “وقيل بل أتى هولاكو البلد من الجانب الشرقي، فأشار الوزير على الخليفة بالمداراة، وقال (العلقمي) أخرج إليه أنا. فخرج واستوثق لنفسه، وردّ، فقال: القان راغب في أن يزوج بنته بابنك أبي بكر، ويبقي لك منصبك كما أبقى صاحب الروم في مملكته من تحت أوامر القان، فاخرجْ إليه. فخرج في كبراء دولته للنكاح يعني، فضرب أعناق الكل بهذه الخديعة، ورفس المستعصم حتى تلف، وبقي السيف في بغداد بضعة وثلاثين يوماً فأقل ما قيل: قتل بها ثمان مائة ألف نفس، وأكثر ما قيل: بلغوا ألف ألف وثمانمائة ألف، وجرت السيول من الدماء، فإنا لله وإنا إليه راجعون”[9]

وخربت بغداد وقتل أهلها حتى قال شاعرهم:

بادتْ وأهلوها معاً فبيوتهم ** ببقاء مولانا الوزير خرابُ

وقال آخرون:

يا عصبة الإسلام نوحي واندبي ** حزناً على ما تم للمستعصم

دستُ الوزارة كان قبل زمانه ** لابن الفرات فصار لابن العلقم

ومن أحسن ما قيل في بغداد قصيدة لتقي الدين أبي اليسر نختار منها:

لسائل الدمع عن بغداد أخبارُ ** فما وقوفك والأحبابُ قد ساروا

يا زائرين إلى الزوراء لا تفدوا ** فما بذاك الحمى والدارُ ديّارُ

تاج الخلافة والربع الذي شرفتْ ** به المعالم قد عفّاه إقفارُ

أضحى لعصف البلى في ربعه أثرٌ ** وللدموع على الآثار آثارُ

يا نار قلبيَ من نار لحرب وغى ** شبت عليه ووافى الربعَ إعصارُ

علا الصليبُ على أعلى منابرها ** وقام بالأمر مَنْ يحويه زُنّارُ

وكم حريم سبته التركُ غاصبةً ** وكم من دون ذاك الستر أستارُ

وكم بدورٍ على البدرية انخسفت ** ولم يعد لبدور منه إبدارُ

وكم ذخائر أضحتْ وهي شائعة ** من النهاب وقد حازته كفارُ

وكم حدود أقيمت من سيوفهم ** على الرقاب وحُطتْ فيه أوزارُ

ناديتُ والسبيُ مهتوك تجرّ بهم ** إلى السّفاح من الأعداء دُعَّارُ

هكذا ضاعت حاضرة الإسلام بغداد وكأن الشاعر يتكلم عن اجتياح الأمريكان وحلفائهم بغداد عام 1423هـ الموافق 2003م نفس الخيانة وإن اختلفت الشخوص وتغيرت الأزمنة لكنه نفس المكان.. عاصمة الرشيد!! هكذا ضاعت بغداد ليس بقوة جيوش هولاكو فقط بل بخيانة بطانة السوء؛ ذلكم الداء العضال (العدو القريب)!!


[1]  ابن كثير: البداية والنهاية/دار التقوى/مصر/مج5/ج10 ص353 ، ص354.

[2]  السيوطي: تاريخ الخلفاء/ص278.

[3]  السيوطي: تاريخ الخلفاء/ص285.

[4]  ابن كثير: البداية والنهاية/مج5/ج10/ص363.

[5]  ابن القيم: أحكام أهل الذمة/دار الكتب العلمية/بيروت/ص174.

[6]  تاريخ الخلفاء/ص371، ص372

[7]  الذهبي: سير أعلام النبلاء/مكتبة الصفا/القاهرة/مج13 ص403

[8]  سير أعلام النبلاء /مج13 ص302

[9]  سير أعلام النبلاء مج13 ص305، ص306

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى