بحوث ودراسات

دور القبَّالة/الصوفيَّة المغالية في إسقاط الدولة العثمانيَّة واحتلال الأرض المقدَّسة 5 من 6

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

الثَّورة العربيَّة ووَهم “مملكة العرب الكبرى”

تشير الكاتبة إلى أنَّ طموح الحسين بن عليٍّ لم يتجاوز تأسيس إمارة في الحجاز، يتوارث أبناؤه عرشها من بعده، وتكون في مأمن من التدخُّل العثماني، وإن بقيت تحت سُلطة الباب العالي في إسطنبول؛ غير أنَّ ذلك الطموح البسيط نسبيًّا عظَّمه أكثر أبنائه دهاءً، عبد الله (ص53). وجاءت الحرب العالميَّة الأولى، عام 1914، لتمنح عبد الله بن الحسين فرصة ذهبيَّة لتمزيق دولة آل عثمان، التي كانت أكبر عائق أمام طموحه لتأسيس دولة الخلافة الهاشميَّة. تستند الكاتبة إلى عدَّة مصادر، من بينها كتاب The Arab Awakening-الصَّحوة العربيَّة (1938) لجورج أنطونيوس، ومذكَّرات تي. إي. لورانس-أو لورانس العرب-الصَّادرة تحت عنوان Seven Pillars of Wisdom-أعمدة الحكمة السَّبعة (1922)، في القول بأنَّ عبد الله كان “الأشدُّ حماسًا للتحالف مع بريطانيا. ومن بين أفراد أسرته كان بالتأكيد معروفًا أكثر من الآخرين لدى البريطانيين، بفضل اللقاءات التي أجراها قبل الحرب مع كلٍّ من كيتشنر وستورز في القاهرة. كما كان الشَّخص الذي وجَّهت إليه بريطانيا تلك الرَّسائل الأولى المستكشِفة لإمكانيَّة عقد تحالُف حربي في خريف عام (1914م)، والذي دفعت له بريطانيا مبلغ (13000) جنيه رشوةً وعربونًا في ربيع عام (1916م)، قبيل إعلان الثَّورة العربيَّة” (ص55). وقد جاء في كتاب الثَّورة العربيَّة الكُبرى (1997) لأمين سعيد، ما يشير إلى مسألة الرِّشوة.

 أصبح عبد الله وسيطًا بين أبيه وبريطانيا في مفاوضات رحَّب بها الأول بهدف مساعدة بريطانيا الحجاز في الاستقلال وضمان حقوقه، وفي حفاظ الحسين على منصبه، وأبدى أتم الاستعداد لأي تعاون، فأرسلت بريطانيا رسالة أخرى إليه ألمحت فيها إلى نظرها بعين الرضا على مسألة تولِّي الحسين الخلافة الإسلاميَّة بدلًا من السلطان الذي لا ينحدر من نسل الرَّسول مثله، وكانت الإجابة هي أنَّ الأمر يحتاج إلى خطوات تمهيدية قبل المضي قدمًا في تحقيق ذاك الهدف. شهد الجميع، ومن بينهم تي. إي. لوران، بدهاء عبد الله وتطلُّعه الشخصي، فهو الذي كان وسيطًا بين أبيه والعثمانيين؛ بفضل تعليمه التركي وإتقانه للتركيَّة، وكأنَّ استضافته في إسطنبول كانت لإعداد رجل مفاوضات سيلعب دورًا هامًا فيما بعد، وكان صاحب فكرة احتجاز الحجاج كرهائن للحصول على ضمانات عثمانيَّة أو بريطانيَّة تضمن الحكم الذاتي لأسرته. تجدر الإشارة إلى أنَّ الضَّابط والجاسوس البريطاني، تي. إي. لورانس، كان له دور لا يُنسى في تمزيق الدَّولة العثمانيَّة وعرقلة مساعيها للحفاظ على الشَّام، بما في ذلك القُدس الشَّريف (يسجِّل التاريخ دوره في دحر القوَّات التابعة للدولة العثمانيَّة أثناء دفاعها عن القُدس). وقد خلَّدت السينما العالميَّة تعاوُن لورانس مع الأسرة الهاشميَّة في الثَّورة العربيَّة، في فيلم Lawrence of Arabia-لورانس العرب (1962). المفارقة أنَّ العاهل الأردني آنذاك، الحسين بن طلال بن عبد الله بن الحسين، تزوَّج من مساعدة لمُخرج العمل، تُدعي أنطوانيت جاردنر، وهي بريطانيَّة غير مسلمة، وفق ما تنشره موسوعة ويكيبيديا:

تسبب عدم دخول جاردنر، أو الأميرة مُنى الحسين، الإسلام في حرمان أكبر أبنائها من الحسين بن طلال، عبد الله، من ولاية العهد عام 1972، لكنَّ الحسين أعاده إلى ولاية العهد قُبيل وفاته، في فبراير 1999. أمَّا عن ديانة مُنى الحسين الأصليَّة، فيُقال أنَّها اليهوديَّة.

مقال-دفن جد ملك الأردن على الطَّريقة اليهوديَّة

بالعودة إلى قصَّة حُلم تأسيس مملكة كُبرى على أنقاض الدَّولة العثمانيَّة، كان على الحسين بن عليٍّ أن يجد هوية مختلفة عن هويَّة الدولة العثمانيَّة، ولكن كان لا بدَّ من مبرر لها يضمن احترام العرب وتأييدهم، هوية تساير الموجة السائدة، وكانت الثورة على العثمانيين بدافع من الرغبة في الحفاظ على النزعة العربيَّة التي اندثرت تحت وطأة حكم تركي، فكانت القوميَّة العربيَّة هي السبيل لذلك، أما الثمن فكان طلبه من بريطانيا مقابل تمرُّده فلم يكن أقل من مملكة عربيَّة مستقلَّة. وتقاسَم أبناء الحسين مهام الإعداد للثورة العربيَّة قوميَّة الطابع: علي تولَّى تنظيم قبائل المدينة التي كانت على خلاف مع إسطنبول، وفيصل تولَّى التنسيق مع الحركة القوميَّة السوريَّة، أما عبد الله فكانت مهمته هي تعبئة قبائل منطقة مكة-الطائف.

في الرابع عشر من يوليو من عام 1915، أطلق الحسين ما بات معروفًا باسم “مراسلات حسين-مكماهون”، وهي سلسلة من 8 رسائل تبادَل الأول مع السير هنري مكماهون، المفوَّض السامي البريطاني في مصر، واستمرت حتى يناير 1916. تضمنت المراسلات وعود البريطانيين للعرب نظير تمرُّدهم على العثمانيين، كما حددت مناطق النفوذ بين الحسين من جهة والبريطانيين من جهة، خشية استنفار السلطان للمسلمين للثورة ضد بريطانيا ذاتها، فتنقلب الأمور عليها (ص56).

كانت طموحات عبد الله لا تتوقف على الحجاز، إنما امتدت إلى الجزيرة العربيَّة بأكملها، وهذا كان ملموسًا لدى البريطانيين، وربما هذا ما دفعهم إلى إذلاله بمنحه بلدًا فقيرًا، فلو أنَّه أخذ ما أراده لبحث عن المزيد، كما أنَّ سعيه المستمر إلى ذلك كان سيدفعه إلى مزيدٍ من التعاون القائم على التنازلات. سرعان ما أصيب عبد الله وأبوه بصدمة عند رفض البريطانيين تنفيذ أوائل الوعود التي قطعوها على أنفسهم، ومن بينها الدعم المالي، فكوَّن الحسين حكومة عيَّن ابنه عليًّا رئيسًا لها وعبد الله وزيرًا لخارجيتها، والأغرب أنَّ الحسين أعلن نفسًا ملكًا للعرب، وكانت مهمة عبد الله هي تسويق ذلك في الخارج.

ظهرت النوايا الحقيقيَّة من خلال اشتعال الصراع بين الحسين وابن سعود، فقد كانت قوة الأخير تزداد، وبالطبع لم يكن ذلك من فراغ، فقد تلقَّى دعمًا خارجيًّا كي يكسر شوكة الحسين وأبنائه ويجبرهم على أي أمر من الاستعمار (بما في ذلك الجلاء إلى أي بقعة أخرى بوعد زائف آخر). خسر الحسين دعم السلطان العثماني، كما ظهر الحليف البريطاني على حقيقته بأن حنث بوعوده، فاهتزت هيبته في الجزيرة ولم يعد يجد دعمًا من أحد، وهنا بدأت أحلام المملكة العربيَّة تتحول إلى كوابيس. وقعت بريطانيا في حيرة-على حد قول الكاتبة-بشأن سوريا بسبب وعد منحها لفرنسا وللحسين معًا، فاختارت مراعاة مصالحها ومنحتها لفرنسا، فخسر الحسين أرضًا جديدة، مما أثبتت بور تجارته وخسارة رهانه.

ثمن التحالف مع الإنجليز ضدَّ الدولة العثمانيَّة

كان للرحَّالة والباحثين في شؤون الشرق الأوسط المبتعثين من أوروبا دورٌ هام في اختيار حُكام المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى، فقد رأى إي. تي. ولسن، وكذلك غيرترود بيل، أنَّ عبد الله بن الحسين لم يكن مناسبًا لحُكم العراق، بينما رأى وقتها رونالد ستورز-الحاكم العسكري للقدس-أنَّ الحاكم لم يكن في نفس أهمية الضابط البريطاني المكلف بالعمل مستشارًا له. بقصد أو بدون، تحوَّل انتباه عبد الله عن الحجاز إلى الشمال بأن حلم باستعادة سوريا من الفرنسيين، لكنَّه أُجبر على قبول شرق الأردن. لم تكن لتلك المنطقة حينها أي أهميَّة استراتيجيَّة، ولكن يبدو أنَّها كانت تُعد لأهميَّة كبيرة لاحقًا، وهي أن تصير معبرًا جويًّا وبريًّا بين فلسطين والعراق، وأن تصبح منطقة عازلة بين إسرائيل ومسلمي الجزيرة العربيَّة.

جرت مفاوضات حجازيَّة-بريطانيَّة بين فيصل بن الحسين وقادة بريطانيا فيما عُرف بـ “الحل الشريفي”، ومُنح حينها العراق، أما شرق الأردن فقد ظلَّ مشكلة تنبغي حلها، فمنحوها لأخيه عبد الله الذي كان قابعًا بلا منصب يشغله. في مفاوضات عبد الله وتشرشل، عرض الأول توحيد شرق الأردن في دولة مع فلسطين أو العراق، فقوبل العرضان بالرفض التام، فقبل عبد الله حُكم شرق الأردن 6 أشهر مقابل 5 آلاف جنيه إسترليني في الشهر، على أن يضمن خلو المنطقة من أي إثارة ضد الفرنسيين أو الصهاينة، وهنا يبرز دور الأردن بوصفها منطقة عازلة. وفي هذا يقول الكتاب “لم يكن وجود الأردن مستندًا إلى أيِّ منطق محلِّي أو إقليمي، بمقدار ما كان قائمًا على المصالح الأوروبيَّة…أمَّا بالنسبة لعبد الله، فلم يكن الأردن هذا إلَّا العتبة الموصلة إلى قدر أكبر من النفوذ” (ص106).

نجح تشرشل-الماسوني من الدرجة الـ 33-في إقناع عبد الله بأنَّ في حال نجاحه في كبح أي نشاط ضد فرنسا خلال الأشهر الستة، ربما أفلح في إقناع فرنسا بتعيينه حاكمًا على سوريا (حلمه الأول)، ولكنَّ ذلك لم يكن إلا خداعًا!! في عام 1923، وبعد استقرار الأمور-بعد دحر الانتفاضة التي قادها سلطان الأطرش في جبل الدروز ضد الفرنسيين بمساعدة عبد الله، الذي سمح باندماج قوات الأمن التابعين له بقوات بريطانيا لتكوين الفيلق العربي-تم الإعلان عن موافقة بريطانيا إعلان عبد الله حاكمًا على إمارة شرق الأردن. أرادت بريطانيا الإبقاء على الهدوء في تلك الإمارة كي يتسنَّى لها إكمال خطَّة فرض الانتداب على المناطق المجاورة الأكثر أهميَّة، وعلى رأسها فلسطين (ص108). 

سارع الحسين بإعلان نفسه خليفة بعد إسقاط الخلافة العثمانيَّة، وطالب بريطانيا بتأييده كما وعدت من قبل، زاعمًا تلقِّيه رسائل مبايعة من الهلال الخصيب والحجاز (ويُقال كانت مزورة في غالبيتها)، وقد أدَّى ذلك إلى إزاحته عن عرش الحجاز (ص138). في تلك الأثناء، كان ابن سعود يتوسع في سيطرته على الحجاز، متجهًا نحو الشمال ومقتربًا من حدود شرق الأردن بمذهبه الوهابي المتشدد، وكان من الطبيعي أن يثير ذلك قلق بريطانيا التي كانت تتبنى سياسة استيطانية في فلسطين، مما جعل شرق الأردن منطقة هامة استراتيجيًّا كونها تعزل المتشددين عن أرض فلسطين، وقد اعترف البريطانيون بذلك “نحن نعتبر شرق الأردن حاجزًا يحمي فلسطين أكثر من كونه بلدًا قادرًا على التطور بحد ذاته”، بل واعتبروا أنَّ المبالغ التي تُنفق على تلك البقعة هي لتفادي المبالغ التي كان من الممكن إنفاقها على التدابير الأمنيَّة في فلسطين.

تزايدت قوة ابن سعود، وأصبح يسيطر على غالبية أجزاء الحجاز، فاضطر الحسين إلى التنازل عن حكمه لابنه علي، الذي تشبَّث بجدة عامًا، ثم لحق بأبيه، وهنا وجد الحسين نتيجة تواطؤه وأبنائه مع الاستعماريين ضد المسلمين “فالثورة العربيَّة لم تكن قد تكللت بخلق دولة عربيَّة أكبر، بل بتقسيم أرض العرب وإخضاعها للسيطرة الأوروبيَّة. وبدلًا من السخاء العثماني، بدأ يحصل على معونات بريطانيَّة متضائلة” (ص149). كان رفض الحسين توقيع أي معاهدة مع بريطانيا تعترف بالكيان القومي اليهودي هو سبب فقدانه عرشه، على عكس ابنيه اللذين قدَّما تنازلات منحت كلًا منهما عرشًا آمنًا؛ فنُفي إلى العقبة إلى أن هدد ابن سعود بالهجوم عليها، فحُمل إلى قبرص وعاش فيها حتى عام 1930 إلى أن أُصيب بمرض مميت، ثم نُقل إلى عمَّان حتى مات عام 1931، فدُفن في القدس بجوار الحرم المقدسي، وتولَّى الحاج أمين الحسيني، مفتي القدس وأحد ألد خصوم عبد الله لاحقًا، مراسم الدفن (ص152).

دور عبد الله الأوَّل في مواجهة الزَّحف الصهيوني على فلسطين

تولَّى عبد الله مهمة دحْر الثورة الفلسطينيَّة (1936-1939)، التي اندلعت مع قرب حصول العديد من البلدان العربيَّة على استقلالها، ورغبة الفلسطينيِّين في جلاء القوات البريطانيَّة عن بلادهم ومعارضتهم فكرة تأسيس وطن قومي لليهود على أراضيهم. أدَّى عبد الله المهمة التي كُلف بها، وهي قطع كافة السبل أمام أي محاولة للوصول إلى فلسطين من الحجاز أو العراق، وبذلك صار الشعب الفلسطيني المقاوم أعزل. ولم يتوقف عبد الله عن محاولة استعادة الحجاز، فأشعل انتفاضة قبليَّة، لكنَّها فشلت وكات تُفقده عرشه. وقد حاول أيضًا استعادة العراق التي سُلبت منه لصالح أخيه بعد وفاته، كما حاول نيل فلسطين بسبب مشكلات بريطانيا المتزايدة هناك. ويرجع طموح عبد الله في نيل فلسطين إلى قربها الجغرافي من إمارته وخضوعهما سويًّا للانتداب البريطاني، إلى جانب سهولة العبور بينهما، فعرض على حاييم وايزمان في لقاء في لندن إسهامه في إقامة وطن قومي لليهود نظير أن توظِّف المنظمة الصهيونيَّة العالميَّة جهودها لتنصيبه ملكًا على فلسطين، وبالطبع رُفض طلبه.

سهَّل عبد الله ومجلس النواب في الإمارة عمليَّة بيع الأراضي للمهاجرين اليهود بحجَّة الحصول على المال واستغلاله في الاستثمار، حتى أنَّه هو نفس باع لهم بعض أراضيه، وكان مثقال بن فايز أول من باع أرضًا له لليهود بمساحة 34 ألف دونم مقابل 2396 جنيهًا إسترلينيًّا (ص180). وحينها، سعى وايزمان وروتشيلد إلى الحصول على أراضٍ في الإمارة وإلى فتح أبوابها أمام الهجرة والاستيطان، ولكن مساعيهما قوبلت بالرفض أول الأمر. ساءت سمعة عبد الله في فلسطين بعد تسرُّب الأنباء عن صفقاته الاستيطانيَّة مع اليهود، في الوقت الذي كان يستخدم ما يحصل عليه من مال لإثارة الاضطرابات القبليَّة في الحجاز. ولم تسفر تعاملات عبد الله مع الوكالة اليهوديَّة في سبيل تحقيق الزعامة في المنطقة إلا عن اتهامه بالخيانة، وهو اتهام يلاحقه ويلاحق نسله إلى يومنا هذا.

تضافُر جهود الوكالة اليهوديَّة لاستيطان فلسطين مع جهود عبد الله التوسُّعيَّة

بذلت الوكالة اليهوديَّة ما بوسعها في سبيل تهيئة الأجواء للاستيطان اليهودي في شرق الأردن، حيث لم يكن من الممكن استيطان الفلسطينيين في تلك المنطقة لأنَّ ذلك كان سيبدو وكأنَّه طرد من أرضهم، مما كان سيزيد الأوضاع الملتهبة اشتعالًا. وقبيل اندلاع الثورة الفلسطينيَّة عام 1936، دعت اللجنة العربيَّة العليا برئاسة الحاج أمين الحسيني إلى إضراب، بعد عمليات اغتيال استهدفت اليهود وردود انتقاميَّة منهم ضد العرب، أما عن أهداف ذلك الإضراب: وقف الهجرة اليهوديَّة، وحظر نقل ملكيَّة الأرض من العرب إلى اليهود، واستحداث مؤسسات حكم ذاتي. اقترح عبد الله بذلك تعليق الهجرة اليهوديَّة بتوجيه المستوطنين إلى شرق الأردن، فرفضت الوكالة اليهوديَّة عرضه، كما جددت اللجنة العربيَّة العليا رفضها إيقاف الإضراب.

بعد فشل وساطة عبد الله، ظهر وسيط جديد هو وزير الخارجية العراقي نوري السعيد، وقد بدأ التفاوض مع الهيئة العربيَّة والصهاينة، ليلعب دور فشل عبد الله فيه، فازداد الأخير حنقًا. بعد فشل مبادرة السعيد، أرسل ملكا السعوديَّة والعراق وإمام اليمن والأمير عبد الله نداءً مشتركًا أعربوا فيه عن استيائهم حيال ما جرى على أرض فلسطين، وأملوا في إيقاف إراقة الدماء، داعين فيه إلى “الوقوف في صف السلام”، بالاعتماد على “النوايا الطيِّبة لصديقتكم بريطانيا العظمى التي أعلنت اعتزامها تحقيق العدل”-فاستجاب الفلسطينيُّون إلى النداء في أكتوبر من عام 1936، وأنهوا الإضراب.

جاءت زيارة عبد الله لأنقرة في أوج اعتداءات الجيش التركي في لواء الإسكندرونة السوري، وقد ظنَّ السوريون أنَّ عبد الله سيوافق على سلخ اللواء في سبيل إرضاء الأتراك وتأييدهم لطموحاته داخل سوريا، فازداد الحقد عليه من قِبل العرب. أنكر عبد الله تلك الاتهامات، كما أنكر ما نُسب إليه من تأييد لتقسيم فلسطين “ليس كل ما يُنسب إليَّ في تقسيم فلسطين إلا كذبًا متعمدًا. إنَّ الكذب هو أشنع الخطايا”. عارضت بريطانيا فكرة حصول عبد الله على الجزء الباقي من أرض فلسطين، الذي لم يكن ضمن خطة الاستيطان حينها، ليس لأنَّه كان مكروهًا في لندن، أو لأنَّ خدماته لم تكن مفيدة في الفترة الماضية، ولكنَّ لأنَّ ذلك كان سيشعل مزيدًا من المقاومة حينها.

مع ذلك، فقد ألمحت بريطانيا إلى إمكانية ضمِّ الجزء العربي من فلسطين إلى الأردن، لتلعب بذلك على نقطة ضعف عبد الله، وهي تحقيق الزعامة في مملكة عربية مترامية الأطراف، وبالطبع سارع فورًا إلى إعلان تأييده للتقسيم، وكان الزعيم العربي الوحيد الذي فعل ذلك على الملأ. بالطبع رفض السوريُّون الأمر لمعرفتهم بأنَّ هذا سيدعم حطة عبد الله التوسعيَّة بإضافة سوريا إلى مملكته الهاشميَّة، كما رفض ابن سعود الذي ما كان ليقبل أي اتفاق يمنح خصمه أي مكاسب تعزز من نفوذه، وجاء الطعنة الأقسى من العراق، من الملك غازي ابن أخ عبد الله، حيث هاجمته الصحف العراقيَّة بضراوة لدرجة جعلت وزير المستعمرات بنفسه يعرب عن استيائه حيال الأمر. ظلَّ عبد الله غائبًا عن الأنظار طوال فترة الثورة المسلَّحة، وإن كانت شرق الأردن معبرًا لوصول المدد إلى المسلحين العرب من الحجاز وسوريا والعراق، كما كانت لهم ملاذًا آمنًا؛ ربَّما لكسب ثقة العرب مما يسهِّل قبولهم لعبد الله ملكًا عليهم في الجزء غير المحتل من فلسطين، في الوقت الذي بدأت فيه بريطانيا تتجاهل حل التقسيم إيمانًا منها بأنَّه لم يكن قادرًا على خلق دولتين قادرتين على الاستمرار والحياة.

رأت لجنة التقسيم البريطانيَّة الجديدة أنَّ أنسب الحلول كان حلًّا قائمًا على التفاهم بين العرب واليهود. اقترح عبد الله في بيان مكتوب (كبديل للتقسيم) توحيد فلسطين مع شرق الأردن تحت حُكمه، وضمان حكم ذاتي لليهود للمناطق التي وقعت تحت سيطرتهم في إطار الدولة الموحدة الأكبر. لقي الاقتراح معارضة من داخل شرق الأردن نفسها، ووُصف بـ “مشروع تقسيم مصغَّر”. ودُعي العرب واليهود إلى مؤتمر سانت جيمس عام 1939 لمناقشة أنسب حلول الأزمة، وكانت نتائج المؤتمر:

إقامة نظام دستوري في فلسطين على مدار 15 عامًا؛

-تحديد الهجرة اليهوديَّة خلال الأعوام الخمس اللاحقة إلى 75 ألفًا، وكان هذا العدد سيجعل اليهود ثلث سكان فلسطين؛

-عدم السماح بأي هجرة يهودية إلا بموافقة العرب؛ -إخضاع عمليات بيع الأراضي إلى ضوابط تنظيميَّة؛ و-أما الاستقلال اللاحق لفلسطين فكان بشرط وجود علاقات جيدة بين العرب واليهود.

ظلَّ عبد الله يحلم بضم الحجاز أو باقي أرض فلسطين إلى إمارته، ولكنَّ سوريا بقيت حلمه الأول بعد طرد فيصل منها عام 1920، وجددت الحرب ذلك الطموح بداخل. وتقول ولسن بالنص “وهكذا فإنَّ سورية كانت أحد ثوابت حلم عبد الله السياسي؛ غير أنَّ مستوى تحرُّكه النشيط باتجاه ذلك الهدف الثابت كان يصعد ويهبط مع صعود موجة الظرف السياسي وهبوطها“، كما جاء في كتاب ماري ولسن (ص227). أُلهي عبد الله بمشروع تقسيم فلسطين عن سوريا 3 سنوات قبل الحرب، وكانت حكومة سوريا بقيادة الرئيس هاشم الأتاسي معادية لعبد الله، فكتب الأخير إلى وزير المستعمرات البريطاني يطلب منه أن يذكِّر تشرشل بوعده له عام 1921، في الوقت الذي كان فيه تشرشل يفكر في ابن سعود فيما يخص الوحدة العربيَّة.

كانت بريطانيا تحث فرنسا حينها على منح سوريا استقلالها كي تمهِّد الأجواء لموافقة العرب على أي حل يحل مشكلة فلسطين بأن ينالوا بعض ما يرضيهم-ولعلَّ هذه السياسة وراء تنازلات العرب فيما بعد فيما يتعلق بأجزاء أخرى من أرضهم-ولكنَّ هذا لم يكن يعني تنصيب عبد الله ملكًا عليها. عرض عبد الله على الوكالة اليهودية الحكم الذاتي لليهود واستيطان أماكن أوسع في المنطقة المعروضة في مشروع التقسيم، إذا ما أيدت فكرة سوريا الكبرى، لكنَّ الوكالة لم تُعره اهتمامًا.

لم يحصل الهاشميُّون من خلال الجامعة العربيَّة-أُسِّست عام 1945-على الزعامة، فقد نظر الجميع إلى ملك مصر على أنَّه الأنسب للعب ذلك الدور، فابن سعود ما كان لينسى صراعه مع الهاشميِّين أو يمنحهم بنفسه سلطة قد تهدده لاحقًا، كما لم يكن السوريون ليسهِّلوا على عبد الله ابتلاع بلادهم من خلال الجامعة، ولم يتغير موقف لبنان عن ذلك المسار، فصارت الجامعة عقبة جديدة أمام الحصول على سوريا. وفي فبراير من عام 1946، عُقدت معاهدة بين عبد الله وبريطانيا مُنح بنصِّها استقلال الأردن مع بقاء الصداقة والود بينه وبين بريطانيا، واشترطت الأخيرة في مقابل الاستمرار في دعم الفيلق العربي استخدام مرافق عسكريَّة معينة في شرق الأردن (ص252). وانتهز عبد الله الفرصة بإعلان نفسه ملكًا، كما أعاد ابنه طلال لولاية عهده بعد أن تغيَّر سلوكه إلى ما يرضي أباه والبريطانيين-أثارت تلك المعاهدة استنكار البعض ممن رأوها غير مجدية، حيث كانت تمنح بريطانيا تسهيلات عسكريَّة واسعة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى