بحوث ودراسات

دور القبَّالة/الصوفيَّة المغالية في إسقاط الدولة العثمانيَّة واحتلال الأرض المقدَّسة 4 من 6

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

سقوط الخلافة الإسلاميَّة وشيوع العلمانيَّة

نأتي الآن إلى المرحلة الأخيرة في خطة الماسون من أجل القضاء على دولة الخلافة، بتولي الدونمة كمال الحكم، وهو نفسه الذي ادَّعى أنه سيعود إلى صفوف الشعب حالما ينهي الاحتلال، وهو نفسه الذي كان يتهرب من الرد بشأن مصير الحكومة المؤقتة في أنقرة وإمكانية دمجها في الحكومة الشرعية في إسطنبول. وهنا أسعف الماسون رجلهم بعقد مؤتمر في لوزان في 27 أكتوبر من عام 1922 يجمع بين الحكومتين المؤقتة والشرعيَّة لعقد اتفاقية صُلح جديدة. انتهز كمال الفرصة بدعوة المجلس الوطني إلى فصل الخلافة عن السلطنة وإلغاء السلطنة وخلع آخر السلاطين وحيد الدين، فقوبلت الدعوة في البداية بالرفض، وبالطبع ما كان الرجل الذي طالما أظهر احتقاره للإسلام وبغضه للخلافة ليعبأ برأي الدين أو الشريعة. فقد هدد كمال أعضاء المجلس الوطني صراحةً بالقتل، وهكذا استطاع إلغاء السلطنة الإسلامية، لتبدأ سلسلة انتهاكاته للدين الإسلامي. خُلع السلطان بالقوة ونُفي إلى مالطا، وعُين الأمير عبد المجيد بن السلطان عبد العزيز خليفة للمسلمين، لا سلطانًا. وهكذا، أصبح كمال-المحسوب على الإسلام-أول من فصل الدين الإسلامي عن نظام الحكم في التاريخ، الخطوة التي لم يجرؤ أي من الجبابرة والطغاة على اتخاذها مطلقًا. على هذا النحو، نجحت المرحلة الأولى في خطَّة محافل الشيطان لتدمير الإسلام من الداخل، وعلى يد أبنائه.

وهكذا، ذهب إلى مؤتمر لوزان للتفاوض بشأن جلاء المستعمر البريطاني عن الأراضي التركيَّة وزير الخارجية عصمت إينونو-عضو الاتحاد والترقِّي-ومعه حاييم ناحوم-كبير حاخامات اليهود، هو نفسه الذي جاء إلى مصر ومات فيها واعترف بتمويله حركة الضباط الأحرار في الجيش سرًّا. وفي 24 يوليو 1923، تم الاعتراف باستقلال تركيا، ولكن لإتمام معاهدة السلام والاعتراف الكامل باستقلال تركيا، كان من اللازم الوفاء بأربعة شروط: 1-قطع أي صلة لتركيا بالإسلام؛ 2-إلغاء الخلافة الإسلامية نهائيًّا؛ 3-ضمان إخماد أي حركة يقوم بها أنصار الخلافة؛ و4-استبدال الدستور العثماني المستمد من الشريعة الإسلامية بدستور مدني. تؤكد الباحثة هيلة السليمي (2001) أنَّ “صفقة بيع الخلافة الإسلامية” قد أُبرمت بالفعل في لوزان بين ممثِّلي الدونمة (إينونو وناحوم) وممثِّلي القوى الاستعمارية، وما يدل على ذلك أنَّ كمال قد جاب مدن تركيا لكي يدَّعي أمام الشعب أنَّه لن يسمح لأيٍّ من كان بالعبث في مقدَّرات الدولة الجديدة، فقد قال “دولة تركيا…لا تستطيع أن تكون رهن إشارة خليفة يُفترض فيه أنَّه مكلف ٌبتأسيس دول إسلامية شاملة”، وتقول الباحثة “فلو لم يكن هناك علاقة بين مؤتمر لوزان وبين الخلافة فما الداعي إلى إثارة مسألة الخلافة في هذا الوقت بالذات” (ص388).

يبدو أنَّ قوى الاستعمار أرادت أن تتأكد من نجاح خطتها في تركيا قبل منح كمال السلطة التي كان يحلم بها، وقد لعب ناحوم دور الوسيط في إتمام تلك الصفقة بأن نقل إلى قوى الاستعمار ثقة زعيم اليهود به. بعد انتخابه رئيسًا للجمهورية التركيَّة، بدأ كمال رحلته مع اقتلاع الإسلام من تركيا، وقد بدأت بنقل العاصمة إلى أنقرة، لحرمان إسطنبول من الموقع الذي ظلَّت تحتله على مدار خمسة عقود بأن كانت عاصمة الخلافة الإسلاميَّة، وهكذا بدأت مسيرة محاربة الدين في عقر دار المسلمين في نفس البقعة التي شهدت ارتفاع راية الإسلام.

في 3 مارس من عام 1924، قدَّم كمال إلى الجمعية الوطنية مرسومًا يقضي بإلغاء الخلافة الإسلامية ونفي الخليفة وأسرته وكافة آل عثمان خارج البلاد. في هذه المرحلة، انكشفت حقيقة كمال أمام الجميع وبانت نواياه الحقيقية، وهي اقتلاع الإسلام من جذوره ضمن خطة الإفساد البني إسرائيلية للسيطرة على العالم من خلال كنيس الشيطان في القدس الشريف، وهكذا تغيرت المواقف تجاهه، حتى أن أحمد شوقي الذي وصفه بـ “خالد الترك” استطرد في تأسفه على إضاعة الخلافة قائلًا “ضجت عليك مآذن ومنابر*وبكت عليك مآذن ونواح…بكت الصلاة وتلك فتنة عابث*بالشرع عربيد القضاء وقاح…أفتى خزعبلة وقال ضلالة*وأتى بكفر في البلاد بواح”. ومن هنا، أخذت خطة اليهود مرحلة جديدة بالسعي إلى القضاء على شعائر الدين الإسلامي (الدين الحق) كافةً بالقضاء على الخلافة وما ترمز إليه من وحدة المسلمين، وكانت الخطوة التالية وضع المقدَّسات الإسلاميَّة تحت وصاية حُكَّام معروفين بأصولهم اليهوديَّة، وبموالاتهم للغرب على حساب الإسلام؛ بغية الحفاظ على مناصبهم.

تجرَّد مصطفى كمال من اسمه الأول، ومنح نفسح لقب “أب الترك”، كما تنصَّل زعيم العروبة من نصف اسمه الثاني الذي يُخضعه لعبودية الله، وهو الذي لم يدخل حربًا إلا وهُزم فيها جيشه وأريق دم جنوده! وأهم مظاهر طمس معالم الإسلام في تركيا:

 1-إلغاء المشيخة الإسلامية والمحاكم الشرعية؛

 2-إلغاء العمل بالشريعة الإسلامية واستبدالها بالقانون المدني السويسري والجنائي الإيطالي والمدني الألماني؛

 3-إلغاء وزارة الأوقاف وتقليص عدد المساجد وتحويل أشهر مساجد إسطنبول “آيا صوفيا” إلى متحف (وقد رُفع الآذان فيه بدايةً من أكتوبر 2016 في خطوة جريئة لحزب العدالة والتنمية)؛

 4-جعل العطلة الأسبوعية الأحد بدلًا من الجمعة؛

 5-إبدال التعليم إسلامي الطابع بنظام تعليم مناهض للإسلام؛

و6-تحريم ارتداء رجال الدين العمامة وإجبار النساء على السفور.

8.عاصمة الخلافة ومعبر الإسلام إلى أوروبا في أحضان العلمانيَّة

تشكِّل مدينة إسطنبول أهميَّة بالغة فيما يتعلَّق بأحداث آخر الزمان؛ لما ورد عنها من أحاديث نبويَّة تشير إلى فتح المسلمين لها، وانتشار الإسلام منها إلى أوروبا، فقد بشَّر بذلك رسولنا-عليه وعلى كافَّة أنبياء الله ورُسُله أزكى الصلوات وأتم التسليم-بفتحها في حديثه “لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا، وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ”-رواه الحاكم والإمام أحمد بإسناد صحيح. والاسم الأصلي للمدينة العتيقة، والذي عرَّفها بها رسولنا الكريم في أحاديثه، هو Constantinople-القسطنطينيَّة، ومعناها مدينة قسطنطين، وهو الإمبراطور البيزنطي الذي أسَّسها، وهو ذاته أوَّل إمبراطور يتَّخذ من المسيحيَّة دينًا رسميًّا لبلاده، مما رفعه إلى مصافِّ الرُّسُل في نظر أساقفة الكنيسة الأرثوذكسيَّة. واحتفظت المدينة خلال الفترة ما بين القرنين الرابع والخامس عشر للميلاد، بالعديد من الآثار المسيحيَّة المقدَّسة، وعلى رأسها الصليب الحقيقي، الذي يُعتقد أنَّ المسيح صُلب عليه؛ حيث أنَّ أم قسطنطين، وتُعرف بالقدِّيسة هيلانة، هي من أمرت بحمله إلى القسطنطينيَّة لمَّا اكتُشف في الأرض المقدَّسة خلال زيارتها لها في الفترة ما بين عامي 326 و328 للميلاد بهدف تأسيس كنائس وجمعيَّات خيريَّة، وفق ما تذكره موسوعة ويكيبيديا الرقميَّة.

إبرازًا لما سبقت الإشارة إليه في النقطة الأولى، تكرَّرت محاولات فتح القسطنطينيَّة منذ زمن الصحابة في القرن السابع الميلادي، وحتَّى فُتحت بالفعل على يد السلطان محمد الثاني عام 1453 ميلاديًّا، وبقيت المدينة عاصمة للخلافة الإسلاميَّة حتى سقطت الخلافة عام 1924 ميلاديًّا بعد سقوط الإمبراطوريَّة العثمانيَّة، وإعلان الجمهوريَّة التركيَّة، وقد سبقت الإشارة إلى مساعي الحركتين الماسونيَّة والصهيونيَّة الدؤوب في سبيل إسقاط الخلافة. وقد يظنُّ البعض أنَّ الهدف من إسقاط الخلافة كان التخلُّص من الرمز الجامع للأمم المسلمة فحسب، لكنَّ هناك سببٌ لا يقل أهميَّة وإلحاحًا، وهو نشر العلمانيَّة في آخر عاصمة للخلافة الإسلاميَّة بهدف منع تسرُّب الثقافة الإسلاميَّة منها إلى روما، التي بشَّر الرسول الكريم بفتحها كذلك، في حديث رواه الصحابي عبد الله بن عمر بن العاص، الذي قال “بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكْتُبُ ، إِذْ سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا : قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلًا)، يَعْنِي: قُسْطَنْطِينِيَّةَ”، رواه أحمد في ” المسند ” (11/225)، والحاكم في ” المستدرك ” (4/555)، وابن عبد الحكم في فتوح مصر (ص256-257). وبما أنَّ الصحابي أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: “فَتْحُ القُسْطَنْطِينِيَّة مَعَ قِيَامِ السَّاعَةِ) في حديث رواه الترمذي في السنن (2239)، وصحَّحه الألباني، فخوف الغرب غير المسلم من تحقُّق تلك النبوءة يجبره على تشجيع انسلاخ إسطنبول من هويَّتها المسلمة وتطبُّعها بعاداته، أملًا في الحيلولة دون وقوع الشطر الثاني من النبوءة: فَتح روميَّة.

يشير برنارد لويس-أشهر المستشرقين اليهود منذ منتصف القرن العشرين وحتَّى وفاته في مايو من عام 2018 ميلاديًّا-في محاضرات ألقاها عام 1990 تحت عنوان أوروبا والإسلام، إلى أنَّه لا مجال للتشكيك في ادِّعاء لويس بأنَّ الإمبراطوريَّتين الشرقيَّة والغربيَّة-فارس وبيزنطة-كانتا المسيطرتين على منطقة الشرق الأوسط زمن ظهور الإسلام. وبعد سقوط الإمبراطوريَّة الفارسيَّة، أصبحت الإمبراطوريَّتان العقبة الثانية حائلًا دون الوصول إلى غرب العالم. وبعد أن استعصى على المسلمين الولوج إلى القسطنطينيَّة في زمن الصحابة، نجحوا مع نهاية عهد الخلافة الأمويَّة في اجتياح شبه جزيرة أيبيريا-تحديدًا عام 710 للميلاد، وأخضعوها بالكامل عام 718. واصل المسلمون زحفهم إلى الشمال، إلَّا أنَّ مسيرة التقدُّم وقفت عام 732 للميلاد بعد معركة بلاط الشهداء-تُعرف أيضًا بمعركة تور وبواتييه-بقيادة الفرنسي تشارلز مارتل، وهي معركة خالدة في تاريخ الأوروبيِّين، الذين يدينون لها بحمايتهم من الخطر الإسلامي إلى اليوم. يشكِّك لويس في حياديَّة المؤرِّخين العرب في تناولهم تلك المعركة؛ وعلى أي حال، لم تتجاوز حدود دولة المسلمين في أوروبا جبال البرانس. ومن عجائب القدر أنَّ انهيار الدولة الإسلاميَّة في أيبيريا، أو الأندلس، عام 1492 للميلاد قد سبقه بأقل من 40 عامًا سقوط القسطنطينيَّة في يد السلطان العثماني محمد الثاني بن مراد العثماني، والملقَّب بـ “الفاتح”.

يعترف لويس في المقال آنف الذِكر بأنَّ التوسُّع العثماني في آسيا وأوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر قد آرقت العالم المسيحي حينها، خوفًا من تسرُّب الإسلام بالتدريج إلى باقي أجزائه، في فترة عانى خلالها من التمزُّق والفرقة والخلافات الداخليَّة. عبَّر أوغير دي بوسبك-سفير إمبراطورية هابسبرغ النمساويَّة إلى الدولة العثمانيَّة في عهد السلطان سليمان القانوني ما بين عامي 1555 و1560 للميلاد-عن مخاوفه حيال الخطر العثماني، وإمكانيَّة اتساع رقعة الدولة لتشمل مزيدًا من أجزاء أوروبا، بعد القسطنطينيَّة، في مجموعة من الرسائل جُمعت في كتاب بعنوان الرسائل التركيَّة لأجيه دي بوسبيك، السفير الإمبراطوري في إسطنبول 1554-1562- The Turkish Letters of Ogier Ghiselin de Busbecq, Imperial Ambassador at Constantinople 1554–1562 . تنبَّأ دي بوسبك أن يتفرَّغ الترك إلى أوروبا بعد القضاء على طموح جيرانهم الفرس الشيعة في فرض الزعامة على العالم الإسلامي. زعم دي بوسبك في إحدى رسائله أنَّ اجتياح أوروبا لم يكن سوى مسألة وقت، وأنَّ الفرس يؤجِّلون تلك الخطوة؛ فما أن ينتهي الترك منهم، سيهرعون إلى رقاب الأوروبيِّين، على حدِّ وصفه. غير أنَّ نبوءته كذبت! صحيح أنَّ الترك احتفظوا بقوَّتهم وهيمنتهم لفترة من الزمن، لكنَّ عهد سليمان القانوني شهد ذروة التوسُّع العثماني، ودبَّ من بعده الضعف في مفاصل الدولة إلى أن خارت قواها بالكامل. تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ المؤامرات اليهوديَّة بدأت في تلك الفترة تحاك في بلاط سليمان القانوني، ولعبت زوجته وأم وريث عرشه دورًا بارزًا في ذلك. ويبدو أنَّ فشل حصاري فيينا الأول (1529 للميلاد) والثاني (1532 للميلاد) في عهد سليمان القانوني قد أثناه عن معاودة السعي إلى توسيع نطاق سلطنته على حساب أراضي أوروبا؛ ولعل احتدام الصراع في تلك المرحلة مع المعسكر الشرقي من أهم دوافع توقُّف مساعي السلطان لفتح مزيدٍ من البلدان.

فقد الإسلام بعد ضعف الدولة العثمانيَّة-مقر الخلافة وحاملة لواء الإسلام-سمة التهديد باقتلاع المسيحيَّة وغزو أوروبا. وبما أنَّ حملة تشويه الإسلام في أعين عامَّة الغربيِّين قد نجحت، ليس فقط في الإحجام عن اعتناق، إنَّما في إبعاد معتنقيه أنفسهم عن صحيح قواعده، فلم تعد دراسة الإسلام محل خوف. أصبحت دراسة الإسلام من أهم مجالات البحث في الأكاديميَّات الغربيَّة؛ بغية إيجاد ثغرات تضعف من شأنه وتساعد على دحضه. وظلَّ الإسلام يُنعت بـ “البربريَّة” و”الطغيان”، كما كان أبناء منطقة الشرق الأوسط يوصفون في الماضي. الجديد هو تغيُّر نظرة المسلمين، ليس تجاه المسيحيَّة، إنمَّا تجاه معتنقيها من الغربيِّين. بما أنَّ الغرب أصبح مركزًا للتجارة العالميَّة، ومنتجًا لأحدث الأدوات والمعدَّات، فقد اكتسب احترامًا واسعًا بين المسلمين. كانت التقنيات الحديثة وراء احترام الغرب غير المسلم، وليس حضارته؛ فمفهوم الحضارة في الإسلام، كما يدَّعي لويس، يعتمد في المقام الأول على الدين والوحي الذي جاء به، وهذا ما يرفضه المسلمون (ص113).

9.دور الأردن في احتلال الأرض المقدَّسة

تستعرض البريطانيَّة ماري سي. ولسون-أستاذ تاريخ الشرق الأوسط-في كتابها King Abdullah, Britain and the Making of Jordan، الذي أصدرته دار نشر جامعة كامبريدج البريطانيَّة ذائعة الصيت عام 1987 ميلاديًّا، وترجمه فضل الجرَّاح ليصدر عام 2000 بعنوان عبد الله وشرق الأردن بين بريطانيا والحركة الصهيونيَّة، مرحلة نشأة المملكة الأردنيَّة على أنقاض فلسطين التي تمكَّن اليهود منها بالكامل وصدر قرار تقسيمها من قِبل الأمم المتَّحدة عام 1947 من منظور بريطانيا، التي آثرت، كما تقول الكاتبة الانسحاب من المشهد لبُغضها التقسيم، فأعلنت التخلي عن الانتداب والانسحاب من فلسطين كلها مع حلول يوم 15 مايو 1948. وكانت بريطانيا قد عقد مع عبد الله الأول عام 1946 معاهدة تعترف فيها بسيادته على منطقة شرق الأردن وتنصيبه ملكًا عليها، كما تنص على مساندتها الفيلق العربي، وهو اسم القوة العسكريَّة العربيَّة التي كوِّنت مطلع العشرينات من القرن الماضي هناك. والمثير للانتباه أن ولسن تعترف بأنَّ ادِّعاء الانتساب إلى الرَّسول مُحمَّد بن عبد الله (ﷺ) دخل فيه التزوير والشراء والاصطناع، وإن كان الانتساب الزائف للرسول صعبًا لوجود ضوابط للأمر-لقب الشريف لا يعني أي سلطة أو مال أو نفوذ لصاحبه، حيث ينتمي المنتسبون لآل محمد إلى كافة طوائف المجتمع (ص21).

يشير جوليان هوكسلي، أحد ممثلي الأمم المتحدة زار الأردن عام 1948، إلى فقر الأردن ماديًّا وبشريًّا، وإلى كونها مجرد معبر صحراوي، حتى أنه لم يجد سببًا لكونها مستقلة، وهذه الظروف هي ما دفعت عبد الله الأول إلى البحث عن وسيلة لتعظيم ثروته للاستغناء عن هيمنة الغرب. كانت دمشق هي حُلم عبد الله، وليس عمَّان، فالتحالف بين أبيه وبين بريطانيا لم يثمر عن النتائج المرجوة له ولأسرته، فجميع غنائم الحرب العالميَّة الأولى التي انتزعتها دول الاستعمار من الدولة العثمانيَّة قد وُزعت بين بريطانيا وفرنسا، وهذا ما أثار حفيظة الشريف حسين فاتُّهم بالجنون بعد انقلابه على بريطانيا. كان الفرنسيُّون يرفضون حكم عبد الله لسوريا، ولكن يبدو أنَّ حلم الاتحاد معها أو مع العراق-التي حكمها أخوه فيصل وسلالته من بعده حتَّى عام 1958 ميلاديًّا-وهي أغني بعشرات المرات من الأردن-ظلَّ يطارده، وربما ذريته من بعده-بالطبع كان سبب عدم اتحاد الأردن مع أيٍّ من العراق أو الشام-وكلا البلدين قد مزَّقته الحرب حاليًا وانتُهكت ثرواته-هو أنَّ في ذلك ما يضرُّ بمصالحها في المنطقة.

عبد الله بن الحسين وعلاقته باليهود

كان محمد علي باشا والي مصر مطلع القرن التاسع عشر هو من عيَّن جدَّ عبد الله شريفًا على مكة، وذلك بعد استعادة الدولة العثمانيَّة السيطرة عليها بعد أن نجح أتباع الداعية محمد عبد الوهَّاب في الإطاحة بالشريف السابق والسيطرة على مكة تحت حكم الدولة السعوديَّة الأولى، والتي أُسقطت على يد إبراهيم بن محمد علي باشا عام 1818 ميلاديًّا. ولما لشريف مكَّة من دور محوري في تنظيم الحجِّ وخدمة زوَّار الحرمين الشَّريفين، حرص السُّلطان عبد الحميد الثَّاني في بداية فترة حُكمه على ضمان ولاء الشَّريف للدولة العثمانيَّة، ولخادم الحرمين، السُّلطان صاحب منصب خليفة المسلمين؛ فاستقدم عبد الحميد الثَّاني إلى عاصمته، إسطنبول، الشَّريف حسين بن علي، والد عبد الله، وأسرته. وُلد عبد الله عام 1882، نفس عام الاحتلال البريطاني على مصر، وأراد عبد الحميد الثَّاني أن ينتهج كافَّة الأساليب المتاحة لإبعاد المحتل الغاشم عن المقدَّسات الإسلاميَّة، ظنًّا منه أنَّ بإقامة الشريف حسين وأبنائه في مقر الخلافة سينمِّي لديهم شعور الولاء تجاه الدَّولة الجامعة لمسلمي العالم. أمَّا عن الدَّافع الأساسي فكان الخلاف الذي نشب بين الحسين بن عليٍّ وعمِّه، شريف مكَّة وقتها، عام 1891، واعتقد عبد الحميد الثَّاني أنَّ لدى الحسين ميل إلى زعزعة استقرار إقليم الحاجز؛ فاستدعاه إلى إسطنبول؛ لتهذيبه من ناحية، ولتقييده من ناحية أخرى (ص31). أقامت أسرة الحسين بن عليٍّ في منزل رحب على مضيق البسفور، وأحبَّ عبد الله إسطنبول كثيرًا. غير أنَّه لم يحفظ الجميل للسُّلطان عبد الحميد الثَّاني، ولا لعاصمته، كما أثبتت الوقائع التالية.

 تلقَّى عبد الله وأخواه تعليمهم في إسطنبول إبَّان حُكم عبد الحميد الثاني، وذلك على يد معلم من الأكاديميَّة العسكرية بإدارة سلطانيَّة (لن ننسى تسلُّل جمعية الاتحاد والترقي الماسونيَّة إلى صفوف الجيش حينها، وكذلك سيطرة اليهود على التعليم). وكان عبد الله هو من طلب من أبيه المطالبة بمنصب شريف مكة، ومهمته الأساسيَّة هي تأمين موسم الحج، بعد عزل سابقه إثر اتهامه بإثارة البلبلة والثورة ضد السلطان، وعُين بالفعل ضد رغبة السلطان الذي كان يعرف خبثه، بينما تشيع ولسن العكس، بأنَّ ادعت أنَّ جمعية الاتحاد والترقي لم تكن راضية عن تعيين الحسين شريفًا على مكة، وهو الرجل الذي عاش في إسطنبول في أوج مخطط اليهود لإسقاط الخلافة تنفيذ خطتهم التوسعيَّة في المنطقة بتدمير وحدتها وإنشاء دولة إسرائيل. مع ضياع ليبيا والبلقان عام 1914-بالطبع بدعم من اليهود-كانت علاقة مكة بإسطنبول قد توترت، وتأكدت بذلك شكوك عبد الحميد الثَّاني حيال طموح الحسين ورغبته في الزعامة وتوسيع نطاق نفوذه.

من اللمحات الإيجابيَّة في المسلسل التُّركي التَّاريخي Payitaht Abdülhamid-عاصمة عبد الحميد في موسمه الثَّاني (2018عام)، إلقاء الضوء على المدارس التي أسَّسها الغرب في بلاد المسلمين لتحريف الأجيال الجديدة عن النهج الإسلامي القويم، تسهيلًا لقبولهم تدخُّل الغرب في شؤون تلك البلاد، بل وتحديد مصائر أبنائها. برغم غياب أي وثيقة تاريخيَّة تشير إلى مقابلتها السلطان عبد الحميد الثاني أو تأسيسها مدرسة لأبناء شيوخ قبائل الجزيرة العربيَّة في إسطنبول، تظهر خلال المسلسل شخصيَّة الرحَّالة وعالمة الآثار البريطانيَّة غيرترود بيل، باعتبارها مستكشفة أرادت أخذ الإذن من السلطان في زيارة بعض البلدان العربيَّة. كانت بيل ضمن لجنة كوِّنت من 39 خبيرًا دعاهم السياسي البريطاني الشهير، والماسوني من الدرجة 33، ونستون تشرشل، إلى مؤتمر القاهرة عام 1921 ميلاديًّا؛ بهدف تقسيم ممتلكات الدولة العثمانيَّة، المقبلة على الانهيار حينها؛ أي تقسيم الشرق الأوسط على الصورة التي عهدناه عليها منذ سقوط الخلافة.

غيرترود بيل في مسلسل عاصمة عبد الحميد

تظهر بيل في هذه اللقطة وهي تبخ سمومها في عقول الطلَّاب العرب؛ لتنفيرهم من الحكم العثماني، وإقناعهم بتأخُّره وتخلُّفه. لا خلاف على دور بيل في صُنع السياسيِّين الذي قادوا الأمَّة الإسلاميَّة في النصف الأوَّل من القرن العشرين. فهي يُنسب إليها تأسيس الدولة العراقيَّة بعد الحرب العالميَّة الأولى، وتعاونها مع مواطنها توماس إدوارد لورانس في تنصيب فيصل، ابن الحسين بن علي-شريف مكَّة-ملكًا على العراق؛ ويروي كتاب السعي في الشرق الأوسط: غيرترود بيل وتكوين العراق الحديث-A Quest in the Middle East: Gertrude Bell and the Making of Modern Iraq (2005) تفاصيل كثيرة عن ذلك.

حاول عبد الله إقناع اللورد كيتشنر، القنصل العام البريطاني في مصر، بأن يدعم أبيه في مواجهة الدولة العثمانيَّة، مدَّعيًا أنَّ القبائل العربيَّة في الحجاز لن تترك أبيه يُعزل وستنفض من أجله، فراوغ اللورد مدعيًا عدم استعداد بلاده إلى ذلك، متذرعًا بأنَ سياسة بريطانيا تقوم على الحفاظ على وحدة الإمبراطوريَّة العثمانيَّة على المستوى الإقليمي (ص49).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى