بحوث ودراسات

العدو القريب – محاولة لتشخيص أحد أمراض الأمة 3 من 10

د. هاني السباعي

مدير مركز المقريزي للدراسات التاريخية بلندن.
عرض مقالات الكاتب

 ثانياً: إطلالة على غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم:

لقد خاض الصحابة رضوان الله عليهم بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من ستين معركة حربية ما بين غزوة وسرية،  وقد أوصلها الحاكم إلى مائة كما ذكر ذلك ابن حجر في الفتح في شرحه لحديث زيد بن أرقم رضي الله عنه عندما سئل (كم غزا النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة)[1]

وقاد الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه حوالي 28 غزوة كما جاء في مرويات السيرة النبوية.

الشاهد مما سبق أن الرسول صلى الله عليه وسلم خاض كل هذه المعارك سواء بنفسه أو من خلال تعيين قائد من أصحابه مع قومه وعشيرته باستثناء سرية مؤتة 8هـ، وغزوة تبوك 9 هـ، حيث كانتا موجهتين لقتال الروم وكان ذلك في المدينة المنورة. فإذا استعرضنا جانباً من الغزوات والسرايا سنجد معظمها موجهة إلى قريش وحلفائها من أهل الشرك ومن بعض القبائل المشركة التي كانت تحيط بالمدينة ولها تحالف أيضاً مع قريش! وقريش كما نعلم هم قبيلة الرسول صلى الله عليه وسلم وهم أعمامه وبنو عشيرته وهم الذين عاش وتربى معهم في فيافي وجبال مكة وربوعها وكذلك أصحابه رضوان الله عليهم! ولم ترد رواية صحيحة أو حتى ضعيفة أو موضوعة تذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال (لا يقتل القرشي القرشي)!! (ولا يقتل المكي المكي) (ولا يقتل المدني المدني)!! ولم يرد في رواية صحية أو حتى موضوعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (دم المكي مقدس وحرام)!! (ولم يقل دم المدني مقدس وحرام) ولم يرد أنه يرد في رواية صحيحة ولا موضوعة أن الرسول ذكر مصطلح (الوحدة الوطنية)!! التي حلت محل ولاء العقيدة في عصرنا المنكوب بعلمائه المنهزمين عقدياً!!

بل إننا نلاحظ أن الإسلام حرص على تطهير الصف الإسلامي المؤمن في غزوة أحد 3 هـ وقد أكد هذه الحقيقة القرآن الكريم في سورة التوبة (براءة) وهي من أواخر ما نزل من القرآن الكريم كما أنها سورة مدنية تسمى أيضاً في كتب التفسير الفاضحة، والكاشفة، وسورة العذاب، والمقشقشة أي المبرئة من النفاق، وهي المبعثرة التي تفرق المنافقين وتشتت شملهم وتبعثر أسرارهم..

 يقول سيد قطب  ت 1387هـ رحمه الله في تقديمه لسورة براءة: ” ثم يجيء المقطع الرابع في سياق السورة – وهو أطول مقاطعها، وهو يستغرق أكثر من نصفها – في فضح المنافقين وأفاعيلهم في المجتمع المسلم، ووصف أحوالهم النفسية والعملية، ومواقفهم في غزوة تبوك وقبلها وفي أثنائها وما تلاها، وكشف حقيقة نواياهم وحيلهم ومعاذيرهم في التخلف عن الجهاد وبث الضعف والفتنة والفرقة في الصف، وإيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخلص من المؤمنين. يصاحب هذا الكشف تحذير الخلصاء من المؤمنين من كيد المنافقين، وتحديد العلاقات بين هؤلاء وهؤلاء، والمفاصلة بين الفريقين وتمييز كل منهما بصفاته وأعماله . . وهذا القطاع يؤلف في الحقيقة جسم السورة؛ ويتجلى من خلاله كيف عاد النفاق بعد فتح مكة فاستشرى بعد ما كاد أن يتلاشى من المجتمع المسلم قبيل الفتح.

وهذه الحملة الطويلة الكاشفة تشي بما كان للمنافقين في هذه الفترة من محاولات كثيرة لإيذاء الصف المسلم وفتنته وشغله بشتى الفتن والدسائس والأكاذيب عن وجهته. كما أنها في الوقت ذاته تكشف عن حالة من الخلخلة وعدم التناسق في التكوين العضوي للمجتمع الإسلامي في هذه الفترة؛ يشير إليها قول الله سبحانه: (وفيكم سماعون لهم)كما يشير إليها النهي المشدد عن الاستغفار للمنافقين أو الصلاة عليهم . . هذه الحالة التي نشأت عن دخول جماعات كثيرة في الإسلام بعد الفتح لم يكن الإيمان قد استقر في قلوبهم، ولا كانوا قد انطبعوا بالطابع الإسلامي الصحيح”[2]

هكذا نلاحظ أن  سورة براءة  عرت وفضحت الطابور الخامس في المجتمع المسلم وهم قطار المنافقين والزنادقة، وبعد نزول هذه السورة تطهرت الجبهة الداخلية للمجتمع الإسلامي ومن ثم كانت الانطلاقة الكبرى للفتوحات الإسلامية  في أرجاء المعمورة!

ثالثاً: الخلاف الذي نشب بين الصحابة:

إنه الخلاف الشهير الذي نشب بين الصحابة رضوان الله عليهم بعد مقتل الخليفة المظلوم عثمان بن عفان رضي الله عنه، ودور ابن سبأ الذي ادعى الإسلام في عهد أمير المؤمنين عثمان .. وحدثت المأساة والانقسام واتسع الخرق على الراقع! بمقتل السبط ؛ الحسين بن علي رضي الله عنه!! فاحتلبت الأمة دماً إلى وقتنا الحاضر! وكادت الجبهة الداخلية أن تقوض بفعلة ابن سبأ ومن شايعه وصار في فتنته!! فلولا لطف الله تعالى لكان قد قضي على الإسلام منذ نشوب أول خلاف حربي في معركتي الجمل 36هـ ، وصفين 37 هـ !! حيث إن الروم كانت في تلك الحقبة ممزقة وكانت تتهيب من المسلمين وقد حاولوا فعلاً انتهاز فرصة الخلاف بين المسلمين فأغاروا على تخوم الشام لكن محاولاتهم باءت بالفشل لأسباب يطول شرحها في هذا المقام.

رابعاً: الأندلس (92هـ إلى 897 هـ):

الأندلس؛ فردوس المسلمين المفقود الذي فتح عام 92 هـ  لماذا ضاعت الأندلس؟ لماذا فقدت؟ لماذا ولماذا..؟ هناك العديد من الدراسات والأبحاث ذكرت مجموعة من الأسباب أدت إلى ضياع هذا البلد الذي كان غرة في جبين التاريخ على مدار ثمانية قرون! ذهبت كأن لم تغن بالأمس!

فعلى أية حال إذا سلطنا الضوء على عامل الجبهة الداخلية (العدو القريب) لتبين لنا أن المسلمين انهزموا في الأندلس داخلياً قبل أن يهزمهم العدو الخارجي الصليبي! ونجد ذلك واضحاً في دول الإسلام المتعاقبة في الأندلس وأقوى شاهد على تلك المراحل المخزية الأنموذجين التاليين:

الأنموذج الأول: دويلات الطوائف (422هـ ـ 487هـ):

فهذا العصر من أسود الحقب في صفحات تاريخ المسلمين في الأندلس حتى جاء العصر الحديث وضرب رقماً قياسياً لدويلات الطوائف (في العالم العربي) لتكون أرذل وأخس وأشأم حقبة مرة في تاريخ الإسلام حتى وقتنا الحاضر..

 وقد امتد عصر ملوك الطوائف أكثر من نصف قرن وقسمت فيه الأندلس إلى عدد كبيرمن الدويلات الهزيلة وكانت كلها تدفع الجزية إلى طاغية قشتالة (ألفونسو السادس).. وقد كان الإسلام الجامع لكل هذه الأعراق والجنسيات تحت خليفة واحد..

وقد أدى بهم التشرذم إلى أن انقسموا إلى ثلاث قوى: عربية ـ بربرية ـ عامرية نسبة إلى أتباع الحاجب المنصور بن أبي عامر.. وكانت هذه الدويلات تدفع الجزية لملوك الأسبان دفعاً لشرهم وكانت تحارب بعضها بعضاً، وتستعين في كثير من الأحيان بجنود مرتزقة من الأسبان للتغلب على هذا الرئيس أو ذاك..  إن دويلات الطوائف كانت ثلاثاً وعشرين دويلة .. قريب عدد الدول العربية اليوم مثل: دويلة العامريين وأميرهم المعتصم بن صمادح.. ودويلة بني هود في سرقسطة.. ودويلة بني ذي النون في طليطلة.. ودويلة بين زيري في غرناطة.. ودويلة بني الأفطس في بطليوس.. لكن أشهروأكبر هذه الدويلات (دويلة بني عباد في إشبيلية) بل إنها أكثرهم أثراً في حياة الأندلس.. والعجيب أن هذه الدويلات اتخذت مظاهر الأبهة والفخامة للدول الكبرى من التلقب بألقاب الخلافة ومن الحجابة ورئاسة الوزراء.. وكانوا يقلدون الخلفاء الأمويين والعباسيين رغم البون الشاسع بين العزيز والذليل!!

وكما وصف لنا حالهم ابن رشيق القيرواني:

مما يزهدني في أرض أندلس *** ألقاب معتمد فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها *** كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد

وكادت الأندلس أن تسقط في أيدي ألفونسو الصليبي لولا فضل الله قذف في قلب أمير المسلمين يوسف بن تاشفين الذي استجاب لدعوة المعتمد بن عباد  أمير إشبيلية فأرسل جيشا عظيما لنجدتهم وخاض معركة حاسمة في تاريخ الإسلام والأندلس في وادي الزلاقة سنة 479هـ واستطاع ابن تاشفين أن يجدد شباب الإسلام في الأندلس لأربعة قرون أخرى”[3]

هكذا كان ملوك الطوائف يدفعون الجزية لألفونس رغم أنهم كانوا أقوى منه لو اجتمعوا على قلب رجل واحد لكنهم لأسف كانوا طرائق قدداً !!

التلخيص لوجوه التخليص:

يقول ابن حزم ت 456 هـ وقد عاصر ملوك الطوائف في كتابه: التلخيص لوجوه التخليص: “وأما في زماننا هذا وبلادنا هذه؛ فإنما هو باب أغلق عينيك، واضرب بيديك، ولك ما تجمع؛ إما ثمرة، وإما جمرة! وإنما فرقت بين زماننا هذا، والزمان الذي قبله؛ لأن الغلات في أيام الهدنة لم تكن حالتها ظاهرة؛ كما هي اليوم، والمغارم التي كان يقبضها السلاطين؛ فإنما كانت على الأرضين خاصة، فكانت تقرب مما فرض عمر على الأرض، وأما اليوم فإنما هي جزية على رؤوس المسلمين يسمونها بالقطيع، ويؤدونها مشاهير مشاهرة وضريبة على أموالهم من الغنم، والبقر، والدواب، والنحل، يرسم على كل ما يباع في الأسواق، وعلى إباحة بيع الخمر من المسلمين في بعض البلاد. هذا كل ما يقبضه المتغلبون اليوم، وهذا هو هتك الأستار، ونقض شرائع الإسلام، وحل عراه عروة عروة،وإحداث دين جديد، والتخلي من الله عز وجل، والله لو يعلمون أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدون بالنصارى فيمكنونهم من حرم المسلمين، وأبنائهم ورجالهم يحملونهم أسارى إلى بلادهم، وربما يحمونهم عن حريم الأرض وحسرهم معهم آمنين، وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعاً فأخلوها من الإسلام وعمروها بالنواقيس، لعن الله جميعهم، وسلط عليهم سيفاً من سيوفه”[4]


[1]  ابن حجر: فتح الباري /دار الفكر/بيروت/1414هـ /ج8 ص3 إلى ص6.

[2]  سيد قطب: في ظلال القرآن/دار الشروق/مج3/ج10 ص1567 بتصرف يسير.

[3]  راجع مقالنا: التاريخ الأسود لدويلات الطوائف قديماً وحديثاً (بتصرف)/موقع المقريزي/جريدة الشعب المصرية.

[4]  ابن حزم: التلخيص لوجوه التخليص/تحقيق عبد الحق التركماني/دار ابن حزم/بيروت/1423 هـ/ص153، ص154.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى