دين ودنيا

الحلقة الثالثة والعشرون: التزكية الروحية للصحابة في التربية النبوية العظيمة

د. علي محمّد الصلابيّ

عرض مقالات الكاتب

رَبَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم  أصحابه على تزكية أرواحهم، وأرشدهم إلى الطَّريق الَّتي تساعدهم على تحقيق ذلك المطلب، من خلال القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [الإسراء: 85]، وقال تعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ [ص: 72]، وقال تعالى: ﴿ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ ﴾ [السجدة: 9]، وقد ؛ ومن أهمِّ ما قدمته التربية النبوية في ذلك:

1ـ التَّدبُّر في كون الله ومخلوقاته، وفي كتاب الله تعالى؛ حتَّى يشعروا بعظمة الخالق، وحكمته سبحانه وتعالى، قال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بَأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 54].

2 – التأمُّل في علم الله الشَّامل، وإحاطته الكاملة بكلِّ ما في الكون؛ بل ما في عالم الغيب والشَّهادة؛ لأنَّ ذلك يملأ الرُّوح، والقلب بعظمة الله، ويطهِّر النَّفس من الشكوك، والأمراض. قال الله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ *وَهُوَ الَّذِي يَتَوفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 59 – 60] .

3 – عبادة الله – عزَّ وجلَّ – وهي من أعظم الوسائل لتربية الرُّوح وأجلِّها قدراً؛ إذ العبادةُ غاية التذلُّلِ لله سبحانه، ولا يستحقُّها إلا الله وحده؛ ولذلك قال سبحانه: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: 23]، والعبادات الَّتي تسمو بالرُّوح وتطهِّر النفس نوعان:

أ – النَّوع الأوَّل: العبادات المفروضة كالطَّهارة، والصَّلاة، والصِّيام، والزَّكاة، والحجِّ وغيرها.

ب – النوع الثَّاني: العبادات بمعناها الواسع، الَّذي يشمل كلَّ عملٍ يعمله الإنسان، أو يتركه، بل كلّ شعورٍ يُقبِل عليه الإنسان تقرُّباً به إلى الله تعالى، بل يدخل فيها كلُّ شعورٍ يطرده الإنسان من نفسه تقرُّباً به إلى الله تعالى، ما دامت نيَّة المتعبِّد بهذا العمل هي إرضاء الله سبحانه وتعالى، فكلُّ الأمور مع نيَّة التَّقرُّب إلى الله سبحانه وتعالى عبادةٌ يُثاب صاحبها، وتربِّي روحه تربيةً حسنةً .

إنَّ تزكية الرُّوح بالصَّلاة، وتلاوة القرآن، وذكر الله تعالى، والتَّسبيح له سبحانه أمرٌ مهمٌّ في الإسلام؛ فإنَّ النَّفس البشريَّة إذا لم تتطهَّر من أدرانها، وتتَّصل بخالقها فلن تقوم بالتَّكاليف الشَّرعية الملقاة عليها، والعبادة والمداومة عليها، تعطي الرُّوح وقوداً وزاداً، ودافعاً قويّاً إلى القيام بما تؤمر به، ويدلُّ على هذا أمر الله الرَّسول صلى الله عليه وسلم  في ثالث سورةٍ نزلت عليه بالصَّلاة والذِّكر، وترتيل القرآن.

قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ *قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً *نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً *أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقرآن تَرْتِيلاً *إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً *إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلاً *إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً *وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ﴾ [المزمل: 1 – 8].

إنَّ الاستعداد للأمر الثَّقيل، والتَّكاليف الشَّاقَّة يكون بقيام اللَّيل والمداومة على الذِّكر والتِّلاوة، وقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم  بتوجيهٍ من ربِّه – عزَّ وجلَّ – على تربية الصَّحابة من أوَّل إسلامهم على تطهير أرواحهم وتزكيتها بالعبادة .

وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم  إذا صلُّوا؛ ذهبوا في الشِّعاب، واستخْفَوا بصلاتهم . ولـمَّا خاف صلى الله عليه وسلم  في بداية الإسلام على أصحابه، وعرف: أنَّ الكفار لا يتركونهم يمارسون الصَّلاة، وقراءة القرآن علناً، دخل بهم دار الأرقم، وصار يصلِّي بهم، ويعلِّمهم كتاب الله – عزَّ وجلَّ – ولولا أهمِّية تزكية الرُّوح بالعبادة، والصَّلاة، والتِّلاوة؛ لأمرهم بتركها عند الخوف، حتَّى إنَّه بعد أن اكتشفت قريش المكان الَّذي يصلِّي فيه الرَّسول صلى الله عليه وسلم  بأصحابه لم يترك الرَّسول صلى الله عليه وسلم  الصَّلاة، والتِّلاوة لأجل الخوف .

وقد حضَّ الله تعالى في القرآن المكِّيِّ على إقامة الصَّلاة، وأثنى على الَّذين يخشعون في صلاتهم، والَّذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع لأجل إحياء ليلهم بذكر الله، وعلى الذين يدعون الله ويسبِّحونه، ويذكرونه، قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ *الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ﴾ [المؤمنون: 1 – 4].وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ *تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ *فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 15 – 17]، وقال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾ [هود: 114]. وقال تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقرآن الْفَجْرِ إِنَّ قرآن الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا *وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴾ [الإسراء: 78 – 79]، وقال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى *وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى *وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾ [طه: 130 – 132]، وقال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ *وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ﴾ [ق: 39 – 40] .

وهذه الآيات الأخيرةُ تدلُّ على أنَّ العُدَّةَ في حال الضيق والشدَّة هي الإكثار من الصَّلاة، والذِّكر، وتلاوة القرآن، والالتجاء إلى الله سبحانه وحده، والإكثار من الدُّعاء .

إنَّ الصَّلاة تأتي في مقدِّمة العبادات الَّتي لها أثرٌ عظيمٌ في تزكية روح المسلم، ولعلَّ من أبرز آثارها الَّتي أصابت الرَّعيل الأوَّل:

1 – الاستجابة لأمر الله تعالى وإظهار العبودية له سبحانه:

أثنى الله تعالى على عباده المؤمنين الَّذين استجابوا لأمره، فقال عزَّ وجل: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [الشورى: 38] .

ولا تتحقَّق معاني العبودية الصَّادقة لله سبحانه وتعالى، إلا إذا اقترنت بصدق التوجُّه إليه، والإخلاص له سبحانه، قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162 – 163] .

وكان الرَّعيل الأوَّل يرى: أنَّ لكل عملٍ من أعمال الصَّلاةِ عبوديةً خاصةً، وتأثيراً في النَّفس، وتزكيةً للرُّوح؛ فقراءة سورة الفاتحة مع التدبُّر تشعرهم بعبوديَّتهم لله تعالى، فعندما يتلو العبد قول الله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ يثبت كلَّ كمال لله – سبحانه وتعالى – ويحمده على ما وفَّقه إليه من الطَّاعة، وما أنعم عليه من النِّعم، ويثني عليه بصفاته، وأسمائه الحسنى .

وكذلك عندما يتلو قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ يقرُّ بالتَّوحيد والاستعانة بالله وحده، فالله هو المعبود، وهو المستعان، وكلُّ استعانةٍ بغير الله فهي خذلانٌ وذلٌّ.

وعندما يقول: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ فهو إقرارٌ من العبد بأنَّه مفتقرٌ إلى الهداية، والثَّبات على طريق الحقِّ، وأنَّه محتاجٌ إلى ثمار الهداية، والاستزادة منها، والبعد عن سبيل المغضوب عليهم، والضَّالِّين .

وعندما ينحني للرُّكوع يكبِّر ربَّه معظماً له، ناطقاً بتسبيحه، فيجتمع في هذا الرُّكن خضوع الجوارح، وخضوع القلب، ثمَّ يأتي السُّجود، فيجعل العبدُ أشرف أعضائه، وأعزَّها متذللاً لله سبحانه، ويتبع هذا انكسارُ القلب، وتواضعُه، فيسجد القلب لربِّه كما سجد الجسد ، وحَرِيٌّ به في هذهِ الحال أن يكون أقرب ما يكون من ربِّه، وكلَّما ازداد تواضعاً وخشوعاً لربِّه في سجوده، ازداد منه قرباً، كما في قوله تعالى: ﴿كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾ [العلق: 19].

وفي الحديث النَّبويِّ الشريف: «أقربُ ما يكونُ العبدُ من ربِّه وهو ساجدٌ؛ فأكثروا الدُّعاءَ» .

وعندما يعتدل جالساً، يتمثَّل جاثياً بين يدي ربِّه، ملقياً نفسه بين يديه، معتذراً إليه ممَّا جناه، راغباً إليه أن يغفر له، ويرحمه، وهكذا تتجلَّى في كلِّ أفعال الصَّلاة العبوديةُ لله سبحانه، وإقبالُ العبد على ربِّه، وتوحيده، وتقوية الإيمان به الَّذي هو أساس التَّزكية، وهذه أعظم ثمرةٍ من ثمرات الصَّلاة، وهي الَّتي تنير للعبد طريق حياته، وتمنحه طهارة القلب، وطمأنينة النَّفس .

2 – مناجاة العبد لربِّه:

وقد بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم  مشهداً من مشاهد هذه المناجاة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قال الله تعالى: قَسَمْتُ الصَّلاةَ بيني وبين عبدي نِصْفَين ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبدُ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: ﴿الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ ﴾ قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ قال: مجَّدني عبدي، فإذا قال: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ﴾ قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل». [أحمد (2/241 – 242) ومسلم (395) وأبو داود (821) والترمذي (2953) وابن ماجه (3784)].

لقد تعلَّم الصَّحابة رضي الله عنهم من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  : أنَّ هذه المناجاة، من أعظم أسباب تزكية النَّفس، وتقوية الإيمان، إذا هيَّأ العبد نفسه لها، وأقبل عليها إقبال العبد المتشوِّق للوقوف بين يدي ربِّه، الوافد عليه، المنتظر لرحمته، وفضله؛ يستمدُّ العون منه سبحانه في كلِّ أموره وأعماله.

3 – طمأنينة النَّفس، وراحتها:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  إذا حَزَبَه أمرٌ؛ صلَّى [أبو داود (1319) وأحمد (5/388)]، وقد جُعلت قرَّة عينه في الصَّلاة [أحمد (3/128 و199 و285) والنسائي (7/61) والحاكم (2/160)]، وقد علَّم الرَّسول صلى الله عليه وسلم  الصَّحابة كثيراً من السُّنن والنَّوافل ليزدادوا صلةً بربِّهم، وتأمن بها نفوسهم، وتصبح الصَّلاة سلاحاً مهمَّاً لحلِّ همومهم ومشاكلهم.

 4ـ الصَّلاة حاجزٌ عن المعاصي:

قال الله تعالى: ﴿اتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45] .

كان الصَّحابة رضي الله عنهم عندما يؤدُّون صلاتهم، تستريح بها نفوسُهم، وتمدُّهم بقوَّةٍ دافعةٍ لفعل الخيرات، والابتعاد عن المنكرات، وتغرس في نفوسهم مراقبة الله – عزَّ وجلَّ – ورعاية حدوده، والتَّغلُّب على نوازع الهوى، ومجاهدة النَّفس، فكانت لهم سياجاً منيعاً حماهم من الوقوع في المعاصي  ، كما أيقن الصَّحابة رضي الله عنهم: أنَّ الصَّلاة تكفِّر السَّيئات، وترفع الدَّرجات. قال الله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾ [هود: 114]، وغير ذلك من الآثار التَّربويَّة، والنَّفسيَّة الطَّيبة؛ الَّتي تتضافر، فيغنمها العبد المصلِّي، فتؤدِّي الصَّلاة دورها في تزكية النَّفس، وطهارتها، ويتحقَّق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم  : «والصَّلاة نورٌ»؛ [مسلم (223) والترمذي (3517) والنسائي (5/5 – 6) وابن ماجه (280) وأحمد (5/342 و343و344)]؛ فهي نورٌ تضيء لصاحبها طريق الهداية، وتحجزه عن المعاصي وتهديه إلى العمل الصَّالح، وهي نورٌ في قلبه بما يجد من حلاوة الإيمان، ولذَّة المناجاة لربِّه، وهي نورٌ بما تمنح النَّفس من تزكيةٍ، وطمأنينةٍ، وراحةٍ، وبما تمدُّ من أمنٍ، وسكينةٍ، وهي نورٌ ظاهرٌ على وجه المقيم لها في الدُّنيا، تتجلَّى بها وَضَاءَةُ الوجه وبهاؤه؛ بخلاف تارك الصَّلاة  ، وهي نورٌ له يوم القيامة .

قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [الحديد: 12].

كان الصَّحابة يكثرون من الذِّكر، والدُّعاء، وتلاوة القرآن الكريم، والاستماع إليه، واغتنام السَّاعات الفاضلة في قيام اللَّيل، ومجاهدة النَّفس على الخشوع والتدبُّر وحضور القلب، فكان ذلك من أعظم القربات إلى الله تعالى، وله آثار عظيمةٌ في تزكية النَّفس، وسموِّ الرُّوح، وترقيتها إلى مقامات الكمال؛ فمن أعظم ما ظفر به الصَّحابة من آثار الذِّكر، والدُّعاء، والتِّلاوة مناجاةُ الله، وتحقيقهم مقامات العبوديَّة التي تُعلي مكانتهم عند الله تعالى.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  : «يقول الله – عزَّ وجلَّ – أنا عند ظَنِّ عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني؛ إن ذكرني في نفسه؛ ذكرتُه في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ؛ ذكرته في ملأٍ هم خيرٌ منهم، وإن تقرَّبَ مني شبراً؛ تقرَّبت إليه ذراعاً، وإنْ تقرَّب إليَّ ذراعاً؛ تقرَّبت منه باعاً، وإنْ أتاني يمشي؛ أتيته هَرْوَلَـةً» [البخاري (7405) ومسلم (2675)].

ومن أعظم أنواع الذِّكر الَّتي مارسها الصَّحابة الكرام رضي الله عنهم تلاوة القرآن الكريم، فقد عظمت محبَّة الله في قلوبهم، وازدادت خشيتهم له – سبحانه وتعالى – فقد شفى القرآن نفوسَهم من أمراضها، وتحقَّق فيهم قول الله تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقرآن مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا ﴾ [الإسراء: 82] .

وقوله سبحانه: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قرآناً أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آياتهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ [فصلت: 44]، وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾[الرعد: 28] .

وكان للصَّحابة مع الدُّعاء شأنٌ عظيمٌ، فقد علَّمهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : أنَّه مِنْ أجلى مظاهر العبودية، والمناجاة لله سبحانه وتعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدُّعاء هو العبادة» [أبو داود (1479) والترمذي (3372) وابن ماجه (3828) وابن حبان (887) والحاكم (1/491)]، ولقد أمر سبحانه وتعالى عباده بالدُّعاء، وتوعَّد من يستكبر، فيترك الدُّعاء؛ وكأنه مستغنٍ عن ربه.

قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَآخرينَ ﴾ [غافر: 60] . وقال ابن كثير – رحمه الله -: «يستكبرون عن عبادتي؛ أي: عن دعائي، وتوحيدي» .

كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم  يبيِّن لهم حاجة القلب إلى غذاءٍ دائمٍ؛ من ذكرٍ، ودعاءٍ، وتلاوة قرآن؛ ليكون ذلك تحصيناً لهم من الأمراض، والافات، وبيَّن لهم ما يستحبُّ للمسلم من الأدعية، والأذكار في الصَّباح والمساء، وعند دخول المنزل، أو الخروج منه، وعند دخول السُّوق، أو الأكل، أو اللبس، وغير ذلك من الأعمال اليوميَّة؛ حتى يبقى في وقايةٍ دائمةٍ من كلِّ مرضٍ، فإذا أصيب بمرض عارضٍ، كالقلق، والكابة، والاضطراب العصبيِّ، أو غيرها، كانت تلك الأذكار والدَّعوات البلسم الشَّافي؛ الَّذي تطمئنُّ به القلوب، وتحيا به النُّفوس، ومن بين تلك الأذكار والدَّعوات المأثورة الَّتي علَّمها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم  لأصحابه، دعاء الشِّدَّة، والكرب؛ الَّذي يقول فيه: «لا إله إلا اللهُ العظيمُ الحليمُ، لا إله إلا اللهُ ربُّ العرش العظيم، لا إله إلا اللهُ ربُّ السَّموات وربُّ الأرض وربُّ العرش الكريم». [البخاري (6345) ومسلم (2730)] .

إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم  عَلَّمَ أصحابه كيف يلجؤون إلى الله سبحانه وقت الضِّيق؛ ليجدوا المأمن، والسَّكينة، فلا يفزعوا، ولا يقلقوا، وهم موقنون بأنَّ الله معهم، وأنَّه ناصرهم، ومتولِّي أمرهم، ومؤيِّدهم، وأنَّه يجيب دعاء المضطرين ، قال تعالى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النمل: 62] .

إنَّ الذِّكر والدُّعاء، وتلاوة القرآن، وقيام اللَّيل، والنَّوافل بأنواعها، لها أثرٌ عظيمٌ في تزكية النفس، وسموِّ الرُّوح، ومهما كتبنا في هذا الموضوع؛ فلا يمكن أن نحيط به في صفحاتٍ أو كتبٍ؛ وإنَّما هذا جزءٌ من كلٍّ وغيضٌ من فيضٍ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى