دين ودنيا

الحلقة الثانية والعشرون: نظرة الصَّحابة إلى الكون والحياة وبعض المخلوقات

د. علي محمّد الصلابيّ

عرض مقالات الكاتب

ظلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم  يعلِّم الصَّحابة كتاب الله تعالى، ويربِّيهم على التَّصوُّر الصَّحيح في قضايا العقائد، والنَّظر السليم للكون والحياة، من خلال الآيات القرآنيَّة الكريمة، فبيَّن بدء الكون ومصيره.

قال تعالى: ﴿قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ *وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ *فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ [فصلت: 9 12].

وقد أشارت الآيات الكريمة إلى ثلاث حقائق كونيَّة:

  1. خلق الأرض، وتقدير الأقوات فيها في أربعة أيَّامٍ قبل الاستواء إلى السماء؛ وهيَ دخانٌ.
  2. أصل الكون المادِّيِّ من الدُّخان.
  3. الدَّورات التَّكوينيَّة للأرض، والسَّماء مجموعها ستَّة أيَّامٍ.

وقد بيَّنَ القرآن الكريم حقيقةً مهمَّةً، وهي استحالة تحديد الحالة الأوَّلية لهذه المواد التي كانت عليها قبل تجمُّعها في مجموعات من النُّجوم، والكواكب، والمجرَّات، ولن يستطيع الناس معرفة ذلك، إلا ظنّاً، وتخميناً، قال تعالى: ﴿مَا أَشْهَدْتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ﴾ [الكهف: 51] .

وأشار القرآن الكريم إلى هذا الأصل الموحَّد، وساق حقائق كونيَّةً في غاية الوضوح. قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنبياء: 30] .

لقد فهم الصَّحابة من الآيات – الَّتي في سورة فصِّلت -: أنَّ الله تعالى خلق الأرض، ووضع البركة فيها وقدَّر أقواتها في أربعة أيَّام، كلُّ ذلك قبل تشكيل السَّماء وجعلها سبع سمواتٍ، وهذه الحقيقة وصل إليها الصَّحابة من طريق الوحي، من خالق السَّموات والأرض .

قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما: وَخَلَق الأرض في يومين، ثمَّ خَلَقَ السَّماء، ثمَّ استوى إلى السَّماء فسوَّاهنَّ في يومين آخرين، ثمَّ دحا الأرض، ودَحْوُها أنْ أخرج منها الماء والمرعى، وخلقَ الجبالَ، والرِّمالَ، والجمادَ، والاكامَ، وما بينهما في يومين آخرين، فذلك قوله تعالى: ﴿دَحَاهَا﴾ وقوله: ﴿خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ﴾. فجُعِلَتِ الأرضُ وما فيها من شيءٍ في أربعة أيام، وخُلِقَتِ السَّمواتُ في يومين. [البخاري تعليقاً (8/714)] .

وبيَّن لهم القرآن الكريم في آيات عظيمة: أنَّ الله هو الَّذي خلق السَّموات وألقى في الأرض رواسيَ، وتحدَّث عن حقائق في الكون، وعن الشَّمس، والقمر، والنُّجوم، وفصَّل في الجبال، وبيَّن فوائدها، وضرب بها الأمثال، ودعا إلى التأمُّل فيها، وأخبر أنَّه سوف ينسفها نسفاً، وتحدَّث القرآن الكريم عن البحار، وما فيها من السُّفن، والأرزاق، وتكلَّم القرآن الكريم عن الظَّواهر الجوِّيَّة، كالرِّياح، والسُّحب، والمطر، والرَّعد، والبرق، قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ [الروم: 48]، وقال تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴾ [الحجر: 22].

وقرَّر القرآن الكريم حقائق عن الحيوان، لا تقلُّ في الأهمِّيَّة، والدِّقَّة عن الحقائق الَّتي قرَّرها في كلِّ جوانب الكون، والحياة، فهو يلفت النَّظر تارةً إلى المنافع التي يحصل عليها الإنسان من تسخير هذه الدَّوابِّ ركوباً، وحملاً، ولباساً، وطعاماً، وشراباً، وزينة، فهي مسخَّرةٌ للإنسان، مذلَّلةٌ له منقادةٌ، كان الرَّعيل الأوَّل قبل البعثة؛ ينظر إلى الكون والحياة، والمخلوقات من شمسٍ، وقمرٍ، ونجومٍ، نظرةً مضطربةً غير واضحةٍ في معالمها التَّصوُّريَّة، والعقديَّة، ولا يستشعرون بالمنظومة التي خلقها الله، وأنَّها تسبِّح للهِ، وله حكمة من خلقها، فأرشدهم القرآن الكريم إلى التأمُّل، والتدبُّر في هذا الكون، وما فيه من مخلوقات، وبيَّن لهم حقيقة أنَّ مخلوقاته العظيمة تسبِّح له – سبحانه وتعالى – ولكن لا يفقهون تسبيحهم، قال تعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾[الإسراء: 44] .

وحدَّثهم القرآن الكريم عن ظاهرة تذليل، وانقياد الحيوان للإنسان، وبيَّن لهم: أنَّها ظاهرةٌ تستدعي شكر المنعم؛ الَّذي جعل فيها هذه الطَّبائع، ولولا وجود هذا الطَّبع فيها؛ لما استطاع الإنسان التغلُّب عليها سبيلاً . قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ *وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ ﴾[يس: 71 – 73] .

ولفت القرآن الكريم الأنظار إلى مسألة رزق الحيوان، وأنَّ الإنسان يعقل ويفكِّر، ويخطِّط، ويسعى في سبيل تحصيل معيشته وكسبه، وإذا حصل على الكسب بطريقةٍ ما؛ فكَّر في ادِّخاره، وتخزينه للمستقبل، أمَّا الحيوان؛ فليست عنده القدرة على التَّفكير والتَّخطيط، وليس من طبعه ذلك، ولكنَّ قدرة الحكيم الخبير المحيطة بكلِّ شيءٍ قد تكفلت بأرزاقها، وتوفير سبل البقاء أمامها. قال تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَآبَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [العنكبوت: 60] .

هكذا شأن الألوهيَّة في المخلوقات: العلم، والإحاطة بالمكان، والتَّكفُّل بالرزق في جميع الظُّروف، فالحيوان مرزوقٌ في كلِّ مكانٍ، في أعماق البحار، والمحيطات، وفي الصَّحراء المحرقة، والأصقاع المتجمِّدة، تحت الصُّخور الصَّمَّاء، وفي أجواء الفضاء، كلَّ ذلك في كتابٍ لا يضلُّ ربِّي، ولا ينسى، قال تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [هود: 6].

وقد لفت القرآن الكريم النَّظر إلى أنَّ هذه المخلوقات – من الدَّواب والحشرات المتباينة في الأشكال والحجوم وطريقة الحركة، والسَّير – أممٌ، وفصائلُ أمثال النَّاس ، قال تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾ [الأنعام: 38] .

وهكذا نَظَّمَ القرآن الكريم أفكار، وتصوُّرات الرَّعيل الأوَّل عن الكون، وما فيه من مخلوقاتٍ، وعن حقيقة هذه الحياة الفانية، واستمرَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم  في غرس حقيقة المصير، وسبيل النَّجاة في نفوس أصحابه، موقناً: أنَّ مَنْ عرف منهم عاقبته، وسبيل النَّجاة، والفوز سيسعى بكلِّ ما أوتي من قوَّةٍ ووسيلةٍ لسلوك السَّبيل، حتَّى يظفر غداً بهذه النَّجاة، وذلك الفوز، وركَّز صلى الله عليه وسلم  في هذا البيان على الجوانب التَّالية:

إنَّ هذه الحياة الدُّنيا مهما طالت؛ فهي إلى زوالٍ، وإنَّ متاعها مهما عظم؛ فإنَّه قليلٌ حقيرٌ، ووضَّحَ لهم ذلك الله تعالى: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [يونس: 24] .

إنَّ الآية الكريمة السَّابقة فيها عشر جملٍ وقع التَّركيب من مجموعها، بحيث لو سقط منها شيءٌ اختلَّ التَّشبيه؛ إذ المقصود تشبيه حال الدُّنيا في سرعة تقضِّيها، وانقراض نعيمها، واغترار النَّاس بها، بحال ماءٍ نزل من السَّماء، وأنبت أنواع العشب، وزيَّن بزخرفه وجهَ الأرض، كالعروس إذا أخذت الثِّياب الفآخرة، حتى إذا طمع أهلها فيها، وظنُّوا أنها مُسَلَّمَةٌ من الجوائح؛ أتاها بأس الله فجأةً، فكأنَّها لم تكن بالأمس .

وأخبرهم الرَّسول صلى الله عليه وسلم  بقول الله تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ﴾ [الكهف: 45] أي: واضرب يا محمَّد للنَّاس في ﴿مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، وفنائها، وانقضائها أي: ﴿كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ﴾ فيها من الحبِّ، فشبَّ، ونما، وحسن، وعلاه الزَّهر، والنَّضرة، ثمَّ بعد هذا كلِّه ﴿فَأَصْبَحَ هَشِيمًا﴾ أي: يابساً ﴿تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ﴾، أي تفرقه وتطرحه ذات اليمين، وذات الشِّمال ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا﴾ أي: هو قادر على الإنشاء والإفناء.

وقال تعالى ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَآخر بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخرةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾[الحديد: 20] يقول تعالى مُوَهِّنَاً أمر الحياة الدُّنيا، ومحقِّراً لها: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ﴾ أي: تفريح نفسٍ، ﴿وَلَهْوٌ﴾ أي: باطل، ﴿وَزِينَةٌ﴾ أي: منـظرٌ جميـلٌ ﴿وَتَفَآخر بَيْنَكُمْ﴾ أي: بالحسب والنَّسب ﴿ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ﴾ أي: مطر ﴿أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ﴾ أي: يعجب الزُّرَّاع نبات ذلك الزَّرع؛ الَّذي نبت بالغيث، وكما يُعجب الزُّرَّاع ذلك، كذلك تُعجب الحياة الدُّنيا الكفار، فإنَّهم أحرص النَّاس عليها، وأميل النَّاس إليها ﴿ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا﴾ أي: ثمَّ يجفُّ بعد خضرته، ونضرته، فتراه مصفرّاً؛ أي: من اليبس ﴿ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا﴾، ثم يكون بعد ذلك كلِّه حطاماً؛ أي: هشيماً منكسراً وكذلك الدُّنيا لا تبقى، كما لا يبقى النَّبات الَّذي وصفناه، ولـمَّا كان هذه المثل دالاً على زوال الدُّنيا، وانقضائها لا محالة، وأنَّ الآخرة كائنةٌ، واتيةٌ لا محالة، حذَّرنا الله تعالى من أمرها، ورغَّبنا فيما فيها من الخير، فقال تعالى: ﴿وَفِي الآخرةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ﴾ أي: وليس في الآخرة الآتية إلا: إمَّا هذا، وإما هذا؛ أي: إمَّا عذابٌ شديدٌ، وإمَّا مغفرةٌ من الله، ورضوانٌ، وقوله تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ أي: هي متاعٌ زائلٌ يغرُّ، ويخدع مَنْ يركن إليها، وإلى متاعها، فيغترُّ بها، وتعجب مَنْ يعتقد: أنَّه لا دار سواها، ولا معاد وراءها، مع أنَّها حقيرةٌ، قليلة المتاع بالنسبة إلى الدَّار الآخرة.

إنَّ هذه الحقيقة الَّتي أشارت إليها الآيات الكريمة، هي حقيقة الدُّنيا بكلِّ متاعها، وزينتها، وما تشتهيه النَّفس منها، وإنَّ كلَّ ذلك بالنِّسبة لنعيم الآخرة شيءٌ تافهٌ، وقليلٌ وزائلٌ، هكذا فهم الرَّعيل الأوَّل حقيقة الدُّنيا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم  يبصِّرهم، ويذكِّرهم بدورهم، ورسالتهم في الأرض، ومكانتهم عند الله، وظلَّ صلى الله عليه وسلم  معهم على هذه الحال من التَّبصير والتَّذكير حتَّى انقدح في ذهنهم ما لهم عند الله، وما دورهم وما رسالتهم في الأرض، وتأثُّراً بتربيته الحميدة تولَّد الحماس، والعزيمة في نفوس أصحابه، فانطلقوا عاملين باللَّيل والنَّهار بكلِّ ما في وسعهم، وما في طاقتهم دون فتورٍ، أو توانٍ، ودون كسلٍ، أو مللٍ، ودون خوفٍ من أحدٍ إلا من الله، ودون طمع في مغنمٍ أو جاهٍ إلا أداء هذا الدَّور وهذه الرِّسالة؛ لتحقيق السَّعـادة في الدُّنيـا، والفـوز، والنَّجاة في الآخرة .

إنَّ كثيراً من العاملين في مجال الدَّعوة بهتت في نفوسهم هذه الحقيقة؛ لأنَّهم انغمسوا في هذه الحياة الدُّنيا، ومتاعها وشغفتهم حبّاً، فهم يلهثون وراءها، وكلَّما حصلوا على شيءٍ من متاعها؛ طلبوا المزيد، فهم لا يشبعون، ولا يقنعون؛ بسبب التصاقهم بالدُّنيا، وإنَّها لكارثةٌ عظيمةٌ على الدَّعوة، والنُّهوض بالأمَّة، أمَّا التمتُّع بهذه الحياة في حدود ما رسمه الشَّرع، واتِّخاذها مطيَّةً للآخرة فذلك فعلٌ محمودٌ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى