المعارضة بين المدح والذم

بقلم مجدي شلش
أستاذ أصول الفقه المساعد بجامعة الأزهر
الخلاف السياسي بمفهوم المعارضة السياسية التي تمثل جزءا من مكونات الحياة السياسية للدولة لا غبار عليه، فأساس الحياة السياسية قائم على المصالح والمفاسد، وتقدير المصالح والمفاسد تختلف فيه الأقوال والآراء، فطبيعة العمل السياسي أنه متعدد الزوايا والرؤى، ومن المعلوم أنه ليس هناك مصلحة محضة أو مفسدة محضة، وقد مارس الصحابة رضوان الله عليهم هذا الخلاف بآدابه وضوابطه مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك:
1-نزوله على رأي الحباب بن المنذر في معركة بدر، فقال له الحباب: أمنزل أنزلكه الله فلا نتقدم عنه ولا نتأخر أم هو الرأي والحرب والمشورة، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بل هو الرأي والحرب والمشورة، فقال الحباب: ليس هذا بمنزل.
2-نزوله صلى الله عليه وسلم على رأي الشباب في غزوة أحد، حيث كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرى ألا يخرج من المدينة.
3-رأى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة الأحزاب أن يعطي غطفان التي كانت تمثل ثلث جيش الكفار ثلث ثمار المدينة وعرض ذلك على السعدين، فقالا: يا رسول الله إن كان وحيا أمضيناه، وإن كنت تفعل ذلك ردا للكيد عنا فوالله لا نعطيهم شيئا من ثمارها، وليس بيننا وبينهم إلا السيف- فترك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأيه لرأي السعدين.
أما الخلاف السياسي المذموم والذي لا مشروعية له: هو الذي يخالف المبادئ والقيم الأساسية التي قامت عليها الدولة، من الشورى والمؤسسية وإقامة العدل، والخروج على الحاكم المنتخب من قبل الأمة، فلا شك أن النصوص الشرعية حرمت هذا الاختلاف.
فالقرآن الكريم حذرنا من الفرقة، وأمرنا بالاعتصام بحبل الله تعالى، قال تعالى: “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ” ﴿١٠٣﴾ آل عمران.
وتأتي أحاديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي نهت عن شق الصف، والخروج على الحاكم في هذا الإطار، “من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يشق عصاكم فاقتلوه كائنا من كان”.
وهنا يأتي الفرق الدقيق بين الاختلاف السياسي المحمود الذي ينحاز إلى المبادئ والأسس التي جاءت بها الشريعة في اطار الضوابط الشرعية والآداب المرعية للاختلاف وبين الاختلاف المذموم الذي يؤدي إلى الفرقة والنزاع والفشل قال تعالى: “وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ” ﴿١٥٢﴾ آل عمران.
جاء هذا بيانا لغزوة “أحد” حيث إن بعض الصحابة رضي الله عنهم خالفوا أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونزلوا من على الجبل فكان القرح الذي ذكره القرآن الكريم وكاد أن يقتل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقتل سبعون من خيار الصحابة على رأسهم حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم.
وحتى لا يحدث مثل هذا النزاع لا بد من مراعاة الآتي:
أولًا: لا بد وأن نعلم أن اختيار الحاكم حق من حقوق الأمة، وليس ملكًا لأحد، حيث إن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مات ولم يول أحدا، بالرغم من اطلاعه على قلوب الصحابة ومعرفته بهم، وفي مقدمتهم أبي بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ وإنما ترك الأمر للمسلمين يتشاورون فيه حتى اختارت الأمة وبايعت أبا بكر الصديق.
ومن هنا تنهار كل الوسائل التي يأتي بها الحكام إلى سدة الحكم ولم يكن للأمة اختيار في بيعته وانتخابه، كنظرية التغلب، والحاكم المستبد العادل، فإذا أردنا أن نجنب الأمة شر الاختلاف السياسي فلنعطي الشعوب حقها الشرعي في اختيار من يحكمها.
ثانيا: اتفق العلماء أن تصرفات الحكام منوطة بالمصلحة والذي يقدر المصلحة ليس الحاكم نفسه، وإنما لابد من المؤسسات ذات الخبرة التي تهتم بالأمر وتحيط به من جميع جوانبه، ويُلزم الحاكم برأي المؤسسات ذات الخبرة في المسألة المعروضة، وخلاف ذلك يؤدي إلى النزاع والشقاق، والاستبداد بالرأي، فعصمة الأمة من الانحراف السياسي متوقف على مدى تصرف حكامها بناء على مصلحة الأمة، ووجوب نزولهم على اختيار المؤسسات ذات الخبرة والكفاءة.
ثالثا: الوحدة السياسية واجتماع الآراء نعمة كبرى لا شك، مأمور بها في القرآن والسنة، وأساس ذلك احترام تعدد الآراء والأفكار فليس هنا وحدة إلا بعد عرض المسألة على أهل الرأي والمشورة، وتعدد الآراء في القضية المعروضة ثم يأتي القرار بعد تعدد الآراء بما فيه المصلحة، أما جعل الأمر في يد شخص واحد فهو منطق فرعوني يقول: “مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ” ﴿٢٩﴾ غافر فيحدث النزاع والشقاق والفشل، فاحترام الآراء سبيل إلى الوحدة.
بهذا اتسمت الخلافة بكونها راشدة، لأنها راعت تنوع الآراء والأفكار، وجمعت بين المخلصين من أبناء الأمة وأهل الكفاءة والخبرة فعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ إذا حزبه أمر جمع له الصحابة وتشاور معهم ثم ينزل على ما يختارونه، فكان النجاح والفلاح والفتح المبين، وصور الاختلاف المحمود في عصره لا تحصر من كثرتها، ثم أخذ الرأي الملزم للأمة بعد ذلك.
المصدر: صفحة الكاتب على فيس بوك
https://www.facebook.com/196814153723178/posts/3303432506394645/