بحوث ودراسات

دور القبَّالة/الصوفيَّة المغالية في إسقاط الدولة العثمانيَّة واحتلال الأرض المقدَّسة 1 من 6

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

بسم الله الرحمن الرحيم

“إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَّرِيدًا (117) لَّعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)” (سورة النساء: آيات 117-120)

“صَارَ كَلاَمُ الرَّبِّ إِلَى حِزْقِيَالَ الْكَاهِنِ ابْنِ بُوزِي فِي أَرْضِ الْكَلْدَانِيِّينَ عِنْدَ نَهْرِ خَابُورَ. وَكَانَتْ عَلَيْهِ هُنَاكَ يَدُ الرَّبِّ. فَنَظَرْتُ وَإِذَا بِرِيحٍ عَاصِفَةٍ جَاءَتْ مِنَ الشِّمَالِ. سَحَابَةٌ عَظِيمَةٌ وَنَارٌ مُتَوَاصِلَةٌ وَحَوْلَهَا لَمَعَانٌ، وَمِنْ وَسْطِهَا كَمَنْظَرِ النُّحَاسِ اللاَّمِعِ مِنْ وَسْطِ النَّارِ.” (سفر حزقيال: إصحاح 1، آيتان 3-4).

مقدِّمة

تستعرض هذه الدراسة خطَّة اليهود طويلة الأمد لإسقاط دولة آل عثمان-وريثة مقام الخلافة الإسلاميَّة بعد سقوط الدولة العبَّاسيَّة-وما أعقب انهيار تلك الدولة من ضياع لأرض فلسطين، بهدف تأسيس وطن قومي لليهود على أرضها. وكما نوقش في الدراسات السابقة، لا يستهدف احتلال اليهود وإنشاء هيكلهم المنسوب زورًا إلى نبي الله سليمان (عليه وعلى سائر أنبياء الله أزكى الصلوات وأتم التسليم) سوى التوطئة لقدوم المسيَّا/الماشيح المخلِّص، الموعود بظهوره في آخر الزمان. بعد دحض كافَّة مزاعم اليهود في أحقِّيتهم في أرض تمتد من نهر النيل إلى النهر الكبير (الفرات)، وإثبات بطلان عقيدة المسيَّا الملاك، النابعة من معتقدات الأمم الوثنيَّة في بلدان الشرق الأقصى، وإيضاح حقيقة العقيدة النورانيَّة التي اعتنقها بنو إسرائيل، ولفت الانتباه إلى حقيقة الهدف من الكشف عن مخطوطات البحر الميِّت في سيناريو مكرَّر لم ينطلِ على غالبيَّة المتخصِّصين، وإلقاء الضوء على حقيقة طقوس القبَّالة (الصوفيَّة بمفهومها البني إسرائيلي)، بقي تحليل أهم نتائج اجتماع تلك العناصر في زمن تصدُّع دولة آل عثمان-آخر جامع حقيقي لمسلمي العالم تحت لواء واحد.

ما أثبته البحث أنَّ تخطيط اليهود لإفساد الدولة العثمانيَّة لم يبدأ في مراحل ضعفها، بل بدأ وهي في أوج عظمتها وقوَّتها، من خلال الاندساس بين صفوف المسلمين، بحجَّة اللجوء إلى دولة متسامحة دينيَّا مع كافَّة أصحاب الملل الأخرى. واتَّضح كذلك أنَّ سقوط القسطنطينيَّة على يد السلطان محمَّد الفاتح منتصف القرن الخامس عشر ترك جرحًا عميقًا لدى الكنيسة الأرثوذوكسيَّة أشعل العداوة واستوجب الثأر، وكانت هذه هي مهمَّة روسيا القيصريَّة. باختصار، توضح هذه الدراسة كيفيَّة تسلُّل اليهود إلى دولة آل عثمان وهي في مهدها، ونموُّ قوَّتهم على أرضها، ونجاح مخطَّطهم لإزاحة السلطان عبد الحميد الثاني-أكبر عائق في وجه استيلاء اليهود على فلسطين-وما ترتَّب على ذلك من ضياع للأراضي العربيَّة وتشرذُم للعرب، وللمسلمين كافَّة.

1.هجرة اليهود إلى الأناضول في زمن الدولة العثمانيَّة

منحت إسبانيا والبرتغال لأعضاء حركة فرسان الهيكل-أهم منظِّمي الحملات الصليبيَّة التي أغارت على المشرق الإسلامي في القرون الوسطى، بغية انتزاع المسجد الأقصى من المسلمين وإعادة احتلال الأرض المقدَّسة-المطرودين من فرنسا مطلع القرن الرابع عشر الميلادي، الحماية والرعاية والأمن؛ ولعلَّ السبب الأبرز وراء ذلك الوجود الإسلامي العربي في تلك البقعة، والخوف من تمدُّده شمالًا نحو فرنسا وشمال أوروبا. بقيت الإشارة إلى أنَّ بعد إتمام حركة فرسان الهيكل مهمَّتهم في جنوب أوروبا، بإجلاء المسلمين وإسقاط الأندلس، حكم إسبانيا ملكان عُرفا بكراهيتهما للإسلام ومحاربتهما كافَّة المظاهر الإسلاميَّة التي خلَّفها مسلمو الأندلس، وهما فرديناند-ملك الأراجون-وإيزابيلَّا-ملكة قشتالة.

وكما تشير المصادر التاريخيَّة الرسميَّة، لم يتوقف عداء أول ملكان يحكمان إسبانيا بعد خروج العرب على المسلمين وحدهم، إنَّما امتدَّ كذلك إلى اليهود، ممن أُجبروا على التنصُّر بحد السيف. وحرصًا من اليهود على البقاء على عقيدتهم، اعتنق هؤلاء المسيحيَّة في الظاهر، بينما بقوا على ديانتهم الحقيقيَّة في السر؛ فنشأت جماعة يهوديَّة سريَّة عُرفت بـ “المارانوس”، والتي يعتبر أقرب معنى لها “المرائيون”، أي المنافقون. وكما تشير الدكتورة هدى درويش في كتابها أسرار اليهود المتنصِّرين في الأندلس (2008)، اضطر اليهود إلى التنصُّر حفاظًا على ممتلكاتهم وأراضيهم ومناصبهم، بعد ازدياد النفور الشعبي منهم؛ بسبب استحواذهم على أهم المناصب في البلاط الملكي، وعلى أفضل الأراضي، إلى جانب سيطرتهم على التجارة. وكان سبب إبقاء ملوك الإمارات المسيحيَّة في الأندلس على اليهود مهارتهم في الاقتصاد والطب والفلسفة والعلوم والرياضيَّات، هذا إلى جانب ولائهم التام لملوك الإمارات التي عاشوا بها، وبخاصة بفضل تجسُّسهم لصالح ملوكهم في مرحلة كان التخلُّص من الوجود الإسلامي في البلاد فيها أشدَّ من أيِّ وقت سبق.

اضطر فرديناند وإيزابيلا إلى إصدار مرسوم يُعرف بـ “مرسوم الحمراء” أو “قرار الطرد”، يقضي بطرد اليهود من إسبانيا عام 1492 ميلاديًّا/898 هجريًّا، ويُلزمهم بعدم العودة، وإلَّا تعرَّضوا لحكم بالإعدام. طُرد من إسبانيا 300 ألف يهودي، فاتَّجه هؤلاء إلى البرتغال، وإيطاليا، والمغرب، وفرنسا، وبالطبع إلى الدولة العثمانيَّة. من المعروف أنَّ اليهود كانوا يعيشون في كَنَف الدولة البيزنطيَّة، ومن المثير للاهتمام أنَّ وضعهم لم يتغيَّر بعد فتح القسطنطينيَّة عام 1453 ميلاديًّا؛ بل وكان السلطان محمَّد الفاتح يولهم ثقته، وأصدر فرمانًا يقضي بحريَّة ممارسة شعائرهم الدينيَّة، ولم يضيِّق عليهم في التجارة-عصب حياتهم وشاغلهم الأوَّل. غير أنَّ العصر الذهبي لليهود في الدولة العثمانيَّة بدأ مع تقلُّد بايزيد الثاني-خليفة الفاتح-الحُكم عام 1481 ميلاديًّا؛ فقد رحَّب بيهود إسبانيا، ولم يُمحَ من صفحات التاريخ أمره “لا تعيدوا يهود إسبانيا، واستقبلوهم بترحاب كبير؛ ومن يفعل عكس ذلك، ويعامل هؤلاء المهاجرين معاملة سيئةً، أو يتسبب لهم بأي ضرر، سيكون عقابه الموت.” ومن المثير للدهشة موقف بايزيد الثاني ذاك من اليهود، برغم ثبوت تورُّط الطبيب اليهودي يعقوب باشا في قتل أبيه، السلطان محمَّد الفاتح، وإعدام يعقوب على يد حرس الفاتح بعد انكشاف أمره!

يسجِّل التاريخ لبايزيد الثاني مقولةً تكشف عن السبب الحقيقي وراء ترحابه باليهود الوافدين من إسبانيا “كيف يمكن أن تقولوا على هذا الملك-يقصد فرديناند، الذي طرد اليهود-فرديناند الذكي العاقل!!! فبينما يُفقر بلاده، يُثري بلادي“. والسبب وراء هذه المقولة أنَّ اليهود وفدوا من إسبانيا محمَّلين بأطنان من الذهب-ما يوازي مليارات الدولارات بمفهوم عصرنا-فظنَّ بايزيد أنَّ فرديناند-عدو العرب والمسلمين، الذي قتل منهم أعدادًا غفيرة فيما عُرف بمحاكم التفتيش، التي خيَّرتهم بين التنصُّر والموت-لا يستحق الوصف بالذكاء بأن سمح لهذه الأموال بالخروج من أرضه.

وفق موسوعة ويكيبيديا الرقميَّة، نما نفوذ اليهود على أراضي الدولة العثمانيَّة في عهد السلطان سليم الأوَّل-خليفة بايزيد الثاني-وبخاصة بعد أن ضمَّت الدولة القدس وصَفَد إلى أراضيها؛ فأصبحت الأخيرة مركزًا لممارسة القبَّالة. ونال اليهود ثقة سليم الأوَّل؛ فمنحهم أكبر المناصب الطبيَّة والماليَّة. غير أنَّ أزهى عصور اليهود في الدولة العثمانيَّة كان في عهد السلطان سليمان القانوني (1520-1566)، والذي يُعدُّ كذلك العصر الذهبي للدولة العثمانيَّة، وأوج تمدُّد أراضيها. وفي اعتراف صريح منه بخالص عرفان اليهود تجاه موقف سليمان القانوني منهم، كتب الدبلوماسي الإسرائيلي المعاصر أبا إيبان في كتابه Mon Peuple: “لم ترَ القدس والشعب اليهودي من الإيرانيين، والرومانيين، وكل المحتلين سوى الدم، والظلم، والتعذيب؛ إلا إنَّه بعد فتح القدس على يد السلطان سليم الأول، وإرساء قواعد هذا الفتح في عهد السلطان القانوني، عرف الشعب اليهودي معنى الحياة الإنسانية والمساواة وذاق طعم الأمن والطمأنينة.” ويسجِّل التاريخ دفاع القانوني عن اليهود بعد تعرُّضهم لفرية الدم، عند اتِّهامهم بذبح شاب يوناني وقت احتفالهم بعيد الفصح عام 1530 ميلاديًّا؛ حتَّى أنَّه قال “لا أريد أن يتعرض أفراد هذه الجماعة لأي نوع من الظلم أو الاعتداء؛ لأَّنهم يدفعون الضرائب لي، فمثل هذه الادعاءات سيتم محاكمتها في ديوان القصر ولن تحدث في أي مكان دون أمري“.

يبدو أنَّ حفاوة سليمان القانوني لم تقتصر على اليهود، بل امتدَّت إلى الروس؛ برغم العداوة الناشئة بين الدولة العثمانيَّة وروسيا القيصريَّة-مركز المسيحيَّة الأرثوذكسيَّة بعد سقوط القسطنطينيَّة. لم يمانع القانوني برغم هذا العداء والحروب المتواصلة بين الطرفين، إدخال الروسيَّات إلى حريمه، وكان من بينهن روكسلانا-أي روسو لانا، أو الروسيَّة. بدأت روكسلانا رحلتها في قصر سليمان القانوني جاريةً أُسرت في إحدى معارك السلطان، لكنَّها سُرعان ما صعد نجمها؛ فأسرت القانوني بجمالها ومرحها، حتَّى أُطلق عليها خُرَّم/هُرَّم، أي الباسمة. لم يمر وقت طويل حتَّى صارت هُرَّم أهم جواري السلطان لديه، لدرجة مشاركته إيَّاها الحديث في شؤون الدولة، وما لبثت أن فرَّقت بينه وبين أمِّ وليِّ عهده، مصطفى. وبعد أن صارت السيدة الأولى في البلاط الملكي، أبعدت هُرَّم مصطفى وأمَّه عن مقرِّ الحُكم، ومهَّدت لتوريث العرش لأكبر أبنائها، سليم-السلطان سليم الثاني لاحقًا.

وكما وضع فشل حصاري فيينا (في عامي 1529 و1532 ميلاديًا) زمن سليمان القانوني حدًّا لتوسُّع العالم الإسلامي غربًا، كان فشل الحصار الثالث زمن السلطان محمَّد الرابع عام 1683 ميلاديًا بمثابة بداية نهاية زعامة الدولة العثمانيَّة، التي أخذ نجمها في الأفول حتَّى فقدت مكانتها. وكانت فيينا تشكِّل أهميَّة كبيرة في نظر الدولة العثمانيَّة بسبب موقعها الاستراتيجي في قلب أوروبا، وكان ضمُّها إلى أراضي الدولة سيمنحها السيطرة على خطوط التجارة والمواصلات في قلب أوروبا، وهذا مكسب كبير للعالم الإسلامي يعني خسارة كبيرة للعالم المسيحي. ربَّما فشل الحصار زمن سليمان القانوني، لكنَّ الجيش العثماني حصل على غنائم مُرضية، من أموالٍ وبعض أجزاء من أوروبا الشرقيَّة بموجب اتفاقيات صُلح أُبرمت مع الإمبراطوريَّة النمساويَّة، كما تذكر موسوعة ويكيبيديا. ولم تكن هزيمة الجيش العثماني حاسمة، كما لم تُضعف من شأنه أو تزعزع مكانته. غير أنَّ هذا لم يكن الوضع بعد فشل حصار عام 1683؛ فقد ترتَّب على ذلك الفشل انحسار مكانة العالم الإسلامي في أوروبا، وانقشاع مهابته من صدور العالم المسيحي، وانجبار الدولة العثمانيَّة على التنازل عن مساحات كبيرة من الأراضي التي اكتسبتها في السابق بموجب معاهدة كارلوڤجي-تُعرف أيضًا بمعاهدة كارلوڤيتس-عام 1699 ميلاديًّا.

نجحت هُرَّم في التخلُّص من كافَّة المعوِّقات في طريق بسط سُلطانها، ولعلَّ في تدبيرها مكيدة أودت بحياة ولي العهد-مصطفى-أكبر خطوة في مسيرتها. نجحت الجارية الروسيَّة في دفع السلطان سليمان إلى قتْل ابنه بيديه بمؤامرة حاكتها مع ملك الفُرس حينها. لُقِّبت هُرَّم بـ “الساحرة” لشدَّة تأثيرها على السلطان الأقوى في تاريخ دولة آل عثمان، ويبد أنَّ أبرز تأثيرات سحرها توسيع نفوذ اليهود على الأراضي العثمانيَّة، ووضع نهاية لتمدُّد أراضي الدولة، بعد أن دب الضعف فيها؛ بسبب تخلُّصها من أكفأ رجال السلطان ممن وقفوا في طريق تنفيذ مخططاتها. ومع ذلك، لا توجد وثائق تاريخيَّة تُثبت يهوديَّة روكسلانا/هُرَّم. وصل سليم الثاني إلى الحُكم، وبدأ به عصر الاضمحلال، ونمو نفوذ اليهود، الذين كوَّنوا لأنفسهم مركزين هامَّين للتجارة، هما إزمير وسلانيك. ومع ارتفاع الشأن، وعلو المقام، والحريَّة في ممارسة الشعائر الدينيَّة، اعتاد يهود الدولة العثمانيَّة على ممارسة طقوس القبَّالة. ولعلَّ التشابُه الكبير من تلك الطقوس والعقيدة والممارسات الصوفيَّة لسُكَّان الأناضول أكثر ما شجَّع على الجهر بممارسة القبَّالة وتداوُل كتبها بين العامَّة، والذين أكثر من يعنينا منهم الشاب-حينها-سبَّتاي تسفي (يُنطق أيضًا زفَّي وصبِّي)، الذي على يديه نشأت فرقة من اليهود الخفيِّين، عُرفت بـ Dönme yahudiler، أو يهود الدونمة.

2.يهود الدونمة وحُلم مملكة الجنَّة

عرفنا أنَّ فرسان الهيكل لم ييأسوا من محاولة استعادة الأرض المقدَّسة، ساعين إلى إعادة بناء “هيكل سليمان”؛ وعرفنا كذلك أنَّ إسبانيا أكثر من وفَّر الحماية لهم بعد أن اتقلب عليهم سحرهم وطُردوا من معظم بلدان أوروبا، وعرفنا أيضًا أنَّ مآل اليهود صار إلى دولة الإسلام في الأناضول، إلى حيث وفدوا ومعهم عقائدهم، وعلى رأسها عهد الربِّ لأبراهم بأرض من النيل إلى الفرات، وظهور الماشيح آخر الزمان ليقضي على سائر الأمم عداهم، وليؤسس مملكة الجنَّة التي سيحكمون منها العالم بأسره. تناقلت الأجيال تلك العقائد، إلى أن وصلت إلى سبَّتاي تسفي-يُعرف كذلك بشبَّتاي زيفي-المولود عام 1626 ميلاديًّا في إزمير لأب يعمل بالتجارة من يهود أوروبا الشرقيَّة (الإشكناز). ويُنسب مذهب الدونمة في اليهوديَّة إلى تسفي، وهو يقوم على إظهار الإسلام وإبطان اليهوديَّة؛ بغية تحقيق المصلحة المرجوَّة، مدَّعيًا أنَّ في ذلك اقتداءً بني الله موسى (عليه وعلى سائر أنبياء الله أزكى الصلوات وأتم التسليم) حينما أظهر إيمانه بعقيدة فرعون وقومه، بينما كان في الحقيقة على إيمانه بعقيدة بني إسرائيل. ويصدق في هذا الموقف قول الله تعالى في الآيتين 72 و73 من سورة آل عمران “وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى اللَّهِ أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ”.

بدأت الدولة العثمانية في مرحلة الانهيار في القرن السابع عشر، وتحديدًا في عهد الخليفة مراد الرابع (هو ذاته الذي أعاد بناء الكعبة الموجودة حتى الآن)، حيث خاص حروبًا ضدَّ روسيا، وحينها بدأت حركات معادية لليهود في روسيا وأوكرانيا وبولندا، ومنذ ذلك الحين بدأ سعي اليهود إلى الخلاص من سلطة حكان ليسوا يهودًا. المعاهدات التي أبرمتها الدولة العثمانيَّة مع البلدان الأجنبيَّة بشأن حماية حقوق الأقليات هي التي فَتحت المجال أمام اليهود فيما يتعلق بحرَّية التنقُّل والتجارة وممارسة الشعائر الدينيَّة، ومن هنا يجدر منحها مزيدًا من التركيز والاهتمام في الدراسة لأنَّ إجبار السلطة القائمة في الدولة العثمانيَّة عليها من المؤكد أنَّه كان مقصودًا بغرض التمهيد لسيطرة اليهود على زمام الأمور في الفترة اللاحقة.

وكما يوضح الدكتور جعفر هادي حسن في كتابه فرقة الدونمة بين اليهوديَّة والإسلام (1988)، الدونمة فرقة باطنيَّة أسَّسها اليهودي سبَّتاي تسفي في القرن السابع عشر على أساس التظاهر بالإسلام وإخفاء اليهودية بهدف تدمير الدولة العثمانيَّة من الداخل. نشأت هذه الفرقة على أساس الإيمان بعقيدة المسيح المخلِّص في اليهوديَّة، وهي فكرة عميقة تدب بجذورها في تراث اليهود، كما أنَّها من المبادئ الثلاثة عشر التي وضعها الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون لكمال الإيمان اليهودي. نعرف أنَّ المخلِّص لم يُذكر في التوراة صراحةً، إنَّما هناك اعتقاد بأنه من نسل نبي الله داود وملك مثله، سيأتي ببركات الأنبياء إلى اليهود وسيهزم أعداءهم ويجعلهم يحكمون العالم كما حدث من قبل في ظل سليمان (عليه السلام). غير أنَّ المسيح بن داود لابد وأن يسبقه آخر اسمه المسيح بن يوسف لا بد وأن يخوض معارك عدة ويموت على أبواب القدس، وهناك انقسام بين اليهود بخصوص إذا ما كان المسيح المخلِّص سيأتي بتوراة جديدة، أو سيكشف أسرار التوراة الحالية. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ تسمية نبي الله عيسى ورسوله إلى بني إسرائيل، بـ “يسوع بن يوسف” وردت في إنجيل يوحنَّا، وهو ذات الإنجيل الذي يشير إلى أنَّه سيأتي من بعد يسوع بن يوسف مُعزٍّ آخر يشترك مع الأوَّل في الروح، التي هي في الأصل الروح القُدُس، والتي التحمت بجسد يسوع بن يسوع على مرأى القدِّيس يوحنَّا، كما روى في الإصحاح الأوَّل في الإنجيل.

يُعتبر الحبر اليهودي إسحق لوريا (1534-1572) مؤسِّس القبَّالة المعاصرة، وقد عاش في صفد في زمن الدولة العثمانيَّة، وقد تنبَّأ أنَّ اليهود سيلاقون بغضًا شديدًا من المسيحيين وسيرغبون في الاستقلال، وسيستجيب الربُّ لدعواتهم بإرسال المسيح الذي سيأخذهم إلى إسرائيل الكبرى، وهذه بداية نهاية العالم. لعلَّ في هذا ما يفسِّر سعي اليهود إلى استيطان فلسطين لتأسيس دولتهم في ذلك التوقيت، والأمر كله مبني على اختلاق لوريا لأكذوبة مبنيَّة بدورها على أساس نبوءة صحيحة، ولكنَّها حوِّرت حتى تتناسب مع رغبات اليهود. وبعد وفاة لوريا، سرى بين اليهود الشعور بقرب مجيء المخلِّص، وبخاصة مع تعرُّضهم للقتل في روسيا وبولندا، وحينها أعلن سبَّتاي نفسه ذاك المخلِّص.

سلك اليهود عدة طرق للتعجيل بظهور المخلِّص: السحر وارتكاب الذنوب وممارسة طقوس القبَّالة بشعائرها البدعيَّة، ويُعتبر كتاب الزوهار أقدس كتبهم-هو عبارة عن تفسيرات لأجزاء من التوراة وقصص شعبية ومواعظ. وبسبب كثرة التنبؤات الخاطئة عن موعد ظهور المخلِّص، اضطر الكثيرون إلى ادِّعاء أنَّهم هم ذلك الشخص-ومن بينهم تسفي-بهدف أكل أموال الناس بالباطل. تعاقب المدَّعون منذ القرن الأول الميلادي، ويبدو أنَّ أهمهم الذي ظهر في القرن الخامس بسبب الاعتقاد التلمودي بأنَّ شتات اليهود لن يدوم أكثر من 500 عام، وهي فترة سُخرة بني إسرائيل لدى الفراعنة، وقد ادعى أنه موسى عليه السلام وأخذ أموال اليهود بعد أن وعدهم بانفلاق البحر أمامه ليعودوا معه إلى فلسطين حتى دون مراكب، فغرق بعضهم بعد تلك الخدعة وارتد البعض عن اليهوديَّة، وهو اختفى بعد ذلك بالطبع.

قصة سبَّتاي طويلة، وقد بدأت بتصرفاته الغريبة التي دفعت الحاخامات إلى طرده من إزمير، فجاب العالم المحيط مدعيًا أنَّ الروح القُدُس جاءه وقال له أنَّه الماشيح؛ فلاقى ادعاؤه الرفض في البداية، ولكنَّه ما لبث أن وجد ترحيبًا من البعض، وبدأت المعابد تدعو له وتصفه بملك الملوك، وهو نصَّب نفسه ملكًا على العالم، بل وإلهًا، وجعل من شقيقيه ملكين على مملكتي إسرائيل ويهوذا. أثار ادعاؤه الظنَّ بأنَّ الأمر قد حان لعودة اليهود إلى أورشليم لاستعادة مُلك داود وسليمان وحُكم العالم من الأرض المقدسة، وذكر جاليوتوفسكي-المعاصر لتلك الأحداث-في كتابه الماشيح الحق أنَّ اليهود اعتقدوا وقتها أنَّه “سوف يأخذهم إلى أورشليم فوق السحاب“. وكان لادعائه صدى واسعٌ في إيران وتركيا وبعض دول أوروبا الشرقية، وصدَّقه كثيرون، بل ووصل الأمر إلى ألمانيا وبريطانيا وصدَّق اليهود هناك زعمه. بناءً على أمر شبتاي بالتوبة كي يعيدهم الربُّ إلى الأرض المقدَّسة، بدأ اليهود في ممارسة طقوس عجيبة، من بينها دفن أنفسهم حتى رقابهم بلا رداء حتى تأثرت أجسامهم بذلك، أو الغطس في المياه في الشتاء، أو الصوم حتى مات، أو صب الشمع الحار على أجسامهم.

أرسل سبَّتاي إلى قومه رسالة جاء فيها “سلام من ابن الله ماشيح إسرائيل ومخلِّصها إلى كل فرد من بني إسرائيل: لقد نلتم شرف معاصرة مخلِّص بني إسرائيل ومنقذهم، الذي بشَّر به أنبياؤها وآباؤها…ولا تهابوا شيئًا، فإنَّ حكمكم لن يقتصر على أمم الأرض بل سيتعداها إلى جميع المخلوقات في أعماق البحار، فكل هؤلاء مسخَّرون لكم ولرفاهيتكم“. في سبتمبر من عام 1666، أُعلن عن تتويج سبَّتاي ملكًا على إسرائيل، وقسَّم العالم وفق معتقده إلى 38 منطقة، وقد عيَّن لكلٍ ملكًا، وكانت رسائل بتوقيع “ابن الله والوحيد“.

 وتعتبر الدكتورة هدى درويش في كتابها حقيقة يهود الدونمة (2003) أنَّ دخول سبَّتاي وقومه الإسلام وتواصلهم مع بعض الصوفيين له تأثيرهم على تطوُّر الحركة الصوفيَّة، قبل الحركات البكتاشيَّة والمولويَّة والملامتيَّة. وتضيف درويش أنَّ سبَّتاي وجماعته من مدَّعي الإسلام عملوا على التقرب إلى المسلمين في كافة أنحاء البلدان المحيطة، ولكنَّ المسلمين لم يكونوا يرحِّبون بذلك التقرب. مع ذلك، فقد حققوا تكاملًا مع الجماعات الصوفيَّة في البلدان المسلمة من خلال عقائد مشتركة-منها وُحدة الوجود، والغيب، وتناسُخ الأرواح-وكان الهدف من ذلك التقرب هو نشر طقوسهم ومبادئهم بين المنتمين إلى ديانات أخرى. وكان تسفي على صلة بنيازي المصري، وهو متصوف ادَّعى أنَّه المهدي المنتظر، فعمل الاثنان على محاربة شيخ الإسلام في ذلك العصر. كان للطريقة الصوفيَّة الملامتيَّة دورها الكبير في نشر الوعي الديني الباطل، وقد تأسست على يد محمد نور-من أتباع نيازي المصري مدَّعي المهدويَّة وسبَّتاي تسفي معًا وكان صديقًا لكليهما-وقد تأثَّر كثيرًا بالمتصوفين والمنادين بالاشتراكيَّة في زمنه. كان محمد نور يؤمن بأنَّ نيازي المصري هو المهدي المنتظر، وبأنَّ سبَّتاي هو المسيح، وكان الشيعة يدافعون عن الأول، بينما كان أتباع الثاني من السبتائيِّين يؤيدونه. واتخذ السبتائيُّون من الصوفيَّة وسيلة لادعاء الإسلام، فقد انتسب هؤلاء إلى الطريقة الملامتيَّة بسبب التقارب الفكري بين سبَّتاي وبين مؤسس الطريقة. والمثير للاهتمام أنَّ المتصوِّفين المحسوبين على الإسلام واليهوديَّة لهم نفس الميول والتصرفات تقريبًا، فتراهم يهيمون في مناجاة مع الإله-كما يزعمون-لدرجة تنسيهم أنفسهم (فقد روي أنَّ القطب الصوفي السيد البدوي كن يتغوط في أمام الناس بلا حرج ودون أن يدري بنفسه). تقول درويش ما نصُّه “وعلى الرغم من أنَّ السبتائيَّة والدونمة حركة ذات أصول يهوديَّة، إلا أنَّها كانت ذات تأثير قوي نتيجة تقرُّبها إلى المؤسسات والطُرق الإسلاميَّة (تقصد الصوفيَّة المحسوبة على الإسلام). ولهذا يكون من الخطأ اعتبار أنَّ السبتائيَّة امتداد للثقافة اليهوديَّة فقط” (ص93).

تراجَع سبَّتاي عن ادعائه أمام السلطان محمَّد الرابع بسبب خوفه من البطش، فقال أنَّه مجرد حاخام فقير، لكنَّ السلطان شعر أنَّه يثير القلاقل ولابد من منعه من مواصلة الإضلال، خاصة مع مطالبته بانتزاع حكم فلسطين. من العجيب أنَّ سبَّتاي أعلن إسلامه أمام السلطان، بل ومُنح اسم محمَّد عزيز أفندي، وخُصص له راتب، وعُين معلم لتدريسه العربية، وأظهرت زوجته سارة إسلامها وسمَّت نفسها فاطمة هانم. والأغرب ادعاء أنَّ سبَّتاي صعد بروحه وجسده إلى السماء وما بقي هو ظلُّه على الأرض، وسوف يعاود الظهور لإكمال مهمته في الوقت المناسب. بقي سبَّتاي في مدينة أدرنه مع أتباعه وممثلي الأسباط الاثني عشر، وادَّعوا جميعًا الإسلام. كان المدَّعي يقرأ التوراة بيد والقرآن باليد الأخرى، لكنَّه كان يتهيأ للصلاة على طريقة اليهود. في النهاية، ألقي القبض على الرجل بعد أن شوهد بلباس رجال الدين اليهود وهو يؤدي طقوسه مع أتباعه ويشربون الخمر، وكان من المفترض إعدامه، ولكن حدث شيء غريب حال دون ذلك. أمَّا عن نهاية تسفي، فكانت في ولاية ألبانيا، التي نُفي إليها، وأسَّس فيها مذهبًا جديدًا يقرن اليهوديَّة بالإسلام، واجتذب هناك فئة كبيرة من الأتباع والمريدين. وكما تشير موسوعة ويكيبيديا الرقميَّة في مقالها عن تسفي “ولم تنته القصة بموت الحاخام المسلم محمد عزيز سبَّتاي سوي، ولكنَّها تواصلت مع أتباعه، الذين لعبوا دورًا كبيرًا في إسقاط الدولة العثمانية، وقيام الجمهورية التركية الحديثة على جمعية الاتحاد والترقي“.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى