دين ودنيا

الحلقة الواحدة والعشرون: حقيقة إبليس وتصوُّر الصَّحابة رضي الله عنهم له

د. علي محمّد الصلابيّ

عرض مقالات الكاتب

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال المنهج القرآنيِّ، يحدثهم عن قصَّة الشَّيطان مع آدم، ويشرح لهم حقيقة الصِّراع بين الإنسان مع عدوِّه اللَّدود، الَّذي حاول إغواء أبيهم آدم عليه السلام من خلال الآيات الكريمة؛ مثل قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدم لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أخرج أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 27]، وقوله تعالى: ﴿قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ *قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ *قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ *ثُمَّ لآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 14 – 17].

كان الشَّيطان يتجسَّم في حسِّ الرَّعيل الأوَّل مرئيّاً مشهوداً، يأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم، يوسوس لهم بالمعصية، ويستثير فيهم كوامن الشَّهوات، فكانوا يحاولون أن يكونوا دائماً منتبهين من عدوِّهم، وكانوا يسارعون في الخيرات؛ ليضيِّقوا مسالك الشَّيطان ويسدُّوها، فلا يجد له مسلكاً إليهم: حتَّى فيما هو أخفى من دبيب النَّمل، وقد تعلَّموا ذلك بعد قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقرآن فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ *إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ﴾ [النحل: 98 – 100].

جاءت قصَّة آدم – عليه السَّلام – مع الشَّيطان في القرآن الكريم في أكثر من موضع؛ فأحياناً تجيء بكلِّ تفصيلاتها – كما في سورة الأعراف – وأحياناً تجيء ببعض التَّفصيلات – كما في سورة الحِجْر، والإسراء، وطه، وص – وأحياناً تجيء في صورة إشارةٍ عابرةٍ، وهذا كثيرٌ جدّاً في القرآن، وتنفرد سورة إبراهيم بذكر موقف الشَّيطان يوم القيامة من بني آدم، الَّذين استجابوا له في الدُّنيا، وتنصُّله الكامل من تبعتهم – كما في الآية الثانية والعشرين – قال الله تعالى في سورة الأعراف: ﴿وَيَاآدم اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ *فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ *وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ *فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلـمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ *قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ *قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ *قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ *يَابَنِي آدم قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيات اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ *يَابَنِي آدم لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أخرج أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 19 : 27] .

إنَّ ممَّا يهمُّ الإنسان أن يعرف تاريخه؛ ليعتبر به، لا ليتسلَّى، وقصَّة آدم مع الشَّيطان قصةٌ لها دَلالاتها الخاصَّة بين القصص القرآنيِّ كله، فهي تحدِّد للبشر، مبدأهم ومنتهاهم، ودورهم في الأرض، وخطَّة سيرهم فيها، والعقبات التي تقابلهم في أثناء رحلتهم، وطريقة تجنُّب هذه العقبات وتخطِّيها. فكانت الآيات الكريمة الَّتي تحدَّثت عن قصَّة آدم، وصراعه مع الشَّيطان قد علَّمت الرَّعيل الأوَّل قضايا مهمَّةً في مجال التَّصوُّر والاعتقاد، والأخلاق؛ ومنها:

1 – إنَّ آدم هو أصل البشر:

إنَّ آدم هو أصل البشر؛ فقد خلقه الله من طينٍ على صورته البشريَّة الكاملة الَّتي لم تأتِ عن طريق التدرُّج عن نوعٍ من أنواع المخلوقات، أو عن صورةٍ أو هيئةٍ أخرى، فالله تعالى خلق آدم من طينٍ، ثمَّ نفخ فيه الرُّوح، فصار بشراً سوياً من لحمٍ، ودمٍ بكامل هيئته، وصورته الإنسانيَّة.

2 – جوهر الإسلام الطَّاعة المطلقة لله تعالى:

أمر الله تعالى الملائكة بالسُّجود لآدم، فسجدوا له سجود تحيَّةٍ، وتكريمٍ، وتعظيمٍ، واعترافٍ بفضله، وطاعةً لله ربِّ العالمين دون تردُّدٍ، ولا اعتراضٍ، مع أنَّهم في الملأ الأعلى، وهم في حال تسبيحٍ، وتقديسٍ، وعبادةٍ مستمرَّةٍ لله ربِّ العالمين، وقبل أن يصدر من آدم أي نوعٍ من العبادة ترجح على عبادتهم، وإنَّما كانت مبادرة الملائكة إلى السُّجود لآدم، والحال كما وصفنا؛ لأنَّ الأمر لهم بالسُّجود لآدم صادر من الله ربِّ العالمين، وما يأمر به الله تجب المبادرة إلى تنفيذه حالاً بدون تردُّدٍ، ولا اعتراضٍ، ولا توقفٍ في تنفيذه على معرفة حكمة هذا الأمر، وهذا هو جوهر الإسلام، وهذا هو شأن المسلم: يسارع إلى طاعة ربِّه، والامتثال لأمره بدون تردُّدٍ، ولا اعتراضٍ، ولا تعليقٍ لهذه الطَّاعة على شيءٍ آخر من معرفة سبب الأمر، أو معرفة حكمته، أو موافقته لعقله، وهواه.

3 – قابلية الإنسان للوقوع في الخطيئة:

تعلَّم الصَّحابة من قصَّة وقوع آدم في الخطيئة: أنَّ الإنسان له قابليةٌ للوقوع في المعصية، وأنَّ هذه القابلية متأتِّيةٌ من طبيعة الإنسان، فقد خلقه الله تعالى على طبيعةٍ تجعل وقوعه في الخطيئة أمراً ممكناً؛ لما في طبيعته، وما جبله الله عليه من ميولٍ ورغباتٍ، وغرائز – هي جوانب الضَّعف في الإنسان – والَّتي من خلالها ينفذ الشَّيطان بوساوسه إليه، ويزيِّن له الوقوع في الخطيئة، فمن غرائز الإنسان الكامنة فيه: أنَّه يحبُّ أن يكون خالداً لا يموت، أو معمِّراً أجلاً طويلاً كالخلود، يحبُّ أن يكون له ملكٌ غير محدَّدٍ بالعمر القصير، فجاء إبليس إلى آدم عليه السلام من هذه الغريزة، فقال له، ولزوجته: ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ﴾ [الأعراف: 20]، وأكَّد لهما ادِّعاءه بالحلف بالله بأنَّه لهما لمن النَّاصحين.

وما قلناه لا يعني الاستسلام لهذه الغرائز والميول، والرَّغبات، بل لابدَّ للمسلم من أن يضبطها، ويكبح جماحها، ويجعلها تابعةً لأحكام الشَّرع الحنيف، وهذه الميول، والغرائز، والرَّغبات هي ما تهواه النَّفس، وغالباً ما تكون منفلتةً، ومتجاوزةً حدودها، ولا يمكن ضبطها إلا بالالتزام بأحكام الشَّرع، ولذلك يأتي ذمُّ (الهوى)، ويراد به ما تهواه النفس من أمرٍ مذمومٍ. قال تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى *فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 40 – 41]، فقد أطلق الهوى، ومدح من ينهى نفسه عن الهوى؛ لأنَّه ينصرف عند الإطلاق إلى ما هو مذموم.

4 – خطيئةُ آدم تُعَلِّم المسلمَ ضرورة التَّوكُّل على ربِّه:

إنَّ خطيئة آدم عليه السلام تظهر عظيم استعداد الإنسان للوقوع في الخطيئة، وتثير الخوف، والفزع في النُّفوس، وبالتالي تزيد من تَوَكُّل المسلم على ربِّه، واعتماده عليه؛ ليكفيه شرَّ الشَّيطان الرَّجيم، وبيان ذلك: أنَّ الله تعالى أَسْجَدَ الملائكة لآدم إظهاراً لفضله، وعلوِّ منزلته عند ربِّه، وطَرَد إبليس من الجنة؛ لامتناعه من السُّجود له، وأسكنه وزوجه في الجنَّة، وأمره بالأمر الصَّريح بعدم الاقتراب من شجرةٍ معيَّنةٍ وأباح له ما عداها من نعيم الجنَّة، وثمارها، قال تعالى: ﴿وَيَاآدم اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأعراف: 19].

وحذَّرهما من الشَّيطان، ومن خداعه وكيده؛ لئلا يخرجهما من الجنَّة. قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدم فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى *فَقُلْنَا ياآدم إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ﴾ [طه: 116 – 117] ومع هذا كلِّه فإنَّ الشَّيطان استزلَّهما، وغرَّهما، فأكلا من الشَّجرة، ووقعا في المعصية فأخرجهما ممَّا كانا فيه.

إنَّ خطيئة آدم عليه السلام آثارت في نفوس الصَّحابة الكرام الخوف، والفزع من هذا العدوِّ الخبيث، وهذا الخوف من الشَّيطان، وإغوائه دفعهم إلى الالتجاء الدَّائم إلى الله تعالى، والتَّوكُّل عليه، والاستعانة به على هذا الشَّيطان الرَّجيم، الَّذي لا همَّ له إلا إغواءُ الإنسان، وجرُّه إلى الخطيئة، وهذا هو الَّذي فهموه من قول الله تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ﴾ [الإسراء: 65]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [النحل: 99]؛ فلا تأثير، ولا قدرة للشَّيطان على إغواء الَّذين امنوا بالله إيماناً عميقاً؛ لأنَّ الله تعالى قد وجَّهَ قلوبهم إليه سبحانه، وحرَّكَ جوارحهم في طاعته، وجعل اعتمادهم وثقتهم به، فليس للشَّيطان على هؤلاء من سلطانٍ، فهم يحاربون أمانيه الباطلة، ويهدمون ما يُلقيه في نفوسهم؛ لأنَّ إيمانهم بالله يمنحهم النُّور الكاشف عن مكره، والتَّوكُّل عليه يفيدهم التقوية بالله؛ فيضعف الشَّيطان، وينخذل أمام قوَّة الإيمان بالله والتَّوكُّل عليه.

5 – ضرورة التَّوبة والاستغفار:

تعلَّم الصَّحابة رضي الله عنهم من هذه القصَّة ضرورة التَّوبة، والاستغفار عند الوقوع في الذَّنب أو المعصية، فقد سارع آدم وزوجه إلى المغفرة وطلب الرَّحمة من ربِّهم الكريم عندما وقعوا في المعصية: ﴿فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلـمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ *قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الاعراف: 22 – 23] فهذا اعترافٌ بالذَّنب سريعٌ، مقرونٌ بندمٍ شديدٍ، فندمٌ من قوله تعالى: ﴿ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا﴾، وتوبةٌ خالصةٌ مقرونةٌ برجاء قبولها؛ لئلا يكونا من الخاسرين الهالكين، وهذا يفهم من قولهما: ﴿وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾، فإذا كان آدم وزوجه لم يستغنيا عن التَّوبة، وطلب المغفرة من الله تعالى مع علوِّ منزلتهما؛ فغيرهما أولى بذلك.

6 – الاحتراز من الحسد، والكِبْر:

إنَّ إبليس وقع فيما وقع فيه بسبب الحسد، والكِبْر، فكان بدء الذُّنوب الكِبْر، استكبر إبليس أن يمتثل لأمر ربِّه بالسُّجود لآدم، ولهذا جاء التَّحذير من الكِبْر، والوعيد للمُتكبِّرين، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يدخلُ الجنَّةَ من كان في قلبه مثقالُ ذَرَّةٍ من كِبْرٍ» [أحمد (1/399 و451) ومسلم (91) وأبو داود (4091) والترمذي (1999) وابن ماجه (59)] .

وحقيقة الكبر: بَطَرُ الحقِّ، وغَمْطُ النَّاس، ومن أعظم مظاهر بطر الحقِّ رفضُ أوامر الله، والتَّمرُّد عليها؛ لأنَّ ما يأمر به الله هو الحقُّ، فالتَّمرُّد على هذا الحقِّ، ودفعه يمثِّل حقيقة الكِبْر، فكان الصَّحابة رضي الله عنهم أبْعَدَ خلق الله تعالى عن جراثيم الحسد والكِبْر، والابتعاد عن الحديث عن النَّفس وتزكيتها، وقد شعروا بخطورة ذلك من قوله تعالى:؛ لأنَّ فيها معنى ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾، والله قال لهم: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾ [النجم: 32]، وتعلَّموا: أنَّه لا فخر بالأصل والنَّسب؛ وإنَّما بالتَّقوى، والطَّاعات والخيرات؛ ابتغاء ربِّ الأرض والسَّموات؛ لأنَّ إبليس افتخر بسبب أصله ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾ [الأعراف: 12] .

7 – إبليس هو العدوُّ لآدم وزوجه وذريتهما:

تعلَّم الصَّحابة من القرآن المكِّيِّ: أنَّ إبليس هو عدوُّهم الأوَّل؛ لأنَّه بسبب امتناعه عن السُّجود لأبيهم آدم طرده الله من رحمته، ولعنه، فأصبح عدوَّاً لآدم، وزوجه وذرِّيَّته قال تعالى: ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الحجر: 43]، وقال تعالى: ﴿قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ آخرتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأََحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [الإسراء: 62].

وقد أعلن إبليس عزمه وتصميمه على إضلال بني آدم، وإغوائهم، وطلب من الله تعالى إمهاله، وإبقاءه إلى يوم القيامة؛ لتنفيذ ما عزم، وصمَّم عليه، ممَّا يدلُّ على شدَّة عداوته لآدم، وبنيه، قال تعالى حكاية عن قول إبليس: ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ *قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ *إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ *قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ *إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [الحجر: 36 – 40].

لقد أيقن الصَّحابة رضي الله عنهم من خلال المنهج القرآنيِّ: أنَّ طبيعة علاقة الشَّيطان بالبشر هي العداوة، ولا يمكن تبديلها، ولا تغييرها، ولا يمكن إجراء المصالحة بينهما لإزالة هذه العداوة؛ لأنَّ الشَّيطان لا همَّ له، ولا عمل، ولا غرض في حياته، سوى إضلال الإنسان، ودفعه إلى معصية الله، بواسطة تزيين الذُّنوب، كما قال تعالى: ﴿فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 43].

وقال تعالى حكايةً عمَّا قاله الهدهد لسليمان عليه السلام بشأن ملكة سبأ: ﴿وَجَدْتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ ﴾ [النمل: 24] وزيَّن لهم الشَّيطان أعمالهم: أي: حسَّن لهم ما هم فيه من الكفر، ﴿ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ﴾؛ أي: عن طريق التَّوحيد، ومن هذا الباب، وبهذا الأسلوب – أسلوب التَّزيين – يزيِّن الشَّيطان البدع في الدِّين في أعين المبتدعين.

ولذلك جعل الصَّحابةُ إبليسَ عدوَّهم الأكبر، وامتثلوا قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6] فعادوه، ولم يطيعوه، واحترزوا منه، وحذَّروا منه النَّاس.

8 – التَّخاطب بأحسن الكلام بين الصَّحابة الكرام:

من الوسائل التي استخدمها الصَّحابة الكرام لمحاربة الشَّيطان امتثالُهم قول الله تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِيناً﴾ [الإسراء: 53]، لقد أمر الله تعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ، أن يأمر المؤمنين بأن يقولوا في مخاطباتهـم، ومحاوراتهـم الكـلام الأحسن، والكلمـة الطَّيِّبـة؛ لأنَّهم إن لم يفعلوا ذلك، نزغ الشَّيطان بينهم؛ أي: أفسد فيما بينهم، وهيَّج الشَّرَّ، والِمراء؛ لـتـقـع بينهم العداوة والبغضـاء: أي: شديد العداوة للإنسان؛ ولذلك فهو ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِيناً﴾ يريد إلا الشَّرَّ لهم، والعداوة فيما بينهم.

وقد تربَّى الصَّحابة الكرام على خُلُقٍ رفيعٍ وأسلوبٍ جميلٍ في معاملة النَّاس من قوله تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ *وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ *وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ﴾ [المؤمنون: 96 – 98]، وقال الله تعالى: ﴿وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ *وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ *وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ باللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [فصلت: 34 – 36].

إنَّ المنهج القرآنيَّ الكريم وضَّح حقيقة العلاقة بين الإنسان والشَّيطان، وبيَّنَ سُبُلَ علاجها، ووسائل الشَّيطان لإغواء بني آدم، ومضى القرآن يتحدَّث عن الشَّيطان، وهو في جهنم، وقد تبرَّأ ممَّن أغواهم، وأضلَّهم من بني الإنسان، وهذه صورةٌ موجزةٌ عن حقيقة إبليس، وتصوُّر الصَّحابة رضي الله عنهم لهذا العدوِّ اللَّعين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى