بحوث ودراسات

ابن عربي وكتابه الفصوص (9)

محمد عبد الحي عوينة

كاتب وداعية إسلامي. إندونيسيا.
عرض مقالات الكاتب

عقيدة وحــــدة الـوجــــود (ب)
قال ملا علي القاري بعد ذلك في كتابه “مرتبة الوجود ومنزلة الشهود”(صـ20،21)
وَقد قَالَت الصُّوفِيَّة: الجمعية بِدُونِ التَّفْرِقَة زندقة، والتفرقة بِدُونِ الجمعية كفر ومفسقة، وَقَالُوا إِن المريد فِي مقَام الْمَزِيد يَنْبَغِي أَن يَقُول فِي بَاطِنه عِنْد كلمة التَّوْحِيد أَولاً: لَا معبود إِلَّا الله، وَهَذِه شَرِيعَة، ثمَّ يَقُول: لَا مَوْجُود إِلَّا الله وَهَذِه طَريقَة، ثمَّ لَا مشهود إِلَّا الله وَهَذِه حَقِيقَة، وَلَا يلْزم مِنْهُ الِاسْتِهْلَاك من عين الأحدية مَا توهمه الوجودية من عكس الْقَضِيَّة؛ فَإِذا عرفت ذَلِك مَا يعْتد الوجودية على مَا هُنَالك من نِسْبَة القَوْل الْبَاطِل الَّذِي صدر من الْقلب الغبي، إِلَى الشَّيْخ مُحي الدّين بن عَرَبِيّ، الله أعلم بِصِحَّة النِّسْبَة فِي الرِّوَايَة ليحكم بِكفْر قَائِله بِنَاء على مَا تَقْتَضِيه الدِّرَايَة.
وَهُوَ أَنه ذكر فِي الفتوحات المكية بالعبارة الردية وَهِي قَوْله: “سُبْحَانَ من أظهر الْأَشْيَاء وَهُوَ عينهَا” وَهَذَا كَمَا ترى مُخَالف لجَمِيع أَرْبَاب النَّحْل والملل الإسلامية وموافق لما عَلَيْهِ الطبيعية والدهرية.
وَلذَا كتب الْعَارِف الرباني الشَّيْخ عَلَاء الدولة السمناني فِي حَاشِيَة على هَذِه الْعبارَة الدنية: أَيهَا الشَّيْخ لَو سَمِعت من أحد أَنه يَقُول فضلَة الشَّيْخ عينه لَا تسامحه بل تغْضب عَلَيْهِ فَكيف يسوغ الْعَاقِل أَن ينْسب إِلَى الله تَعَالَى هَذَا الهذيان، تُب إِلَى الله تَعَالَى تَوْبَة نصُوحًا، لتنجو من هَذِه الورطة الوعرة، الَّتِي يستنكف مِنْهَا الدهريون والطبيعيون واليونانيون والشكمانيون، ثمَّ قَالَ(أي الشيخ السمناني): وَمن لم يُؤمن بِوُجُوب وجوده فَهُوَ كَافِر حَقِيقِيّ، وَمن لم يُؤمن بوحدانيته فَهُوَ مُشْرك حَقِيقِيّ، وَمن لم يُؤمن بنزاهته من جَمِيع مَا يخْتَص بالممكن فَهُوَ ظَالِم حَقِيقِيّ لِأَنَّهُ ينْسب إِلَيْهِ مَا لَا يَلِيق بِكَمَال قدسه وَالظُّلم وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه وَلذَلِك قَالَ تَعَالَى فِي مُحكم كِتَابه {أَلا لعنة الله على الظَّالِمين} وسبحانه وَتَعَالَى عَن وصف الْجَاهِلين.
وفي صـ 27 من المرجع السابق
ثمَّ هَؤُلَاءِ الجهلة بعقولهم الكاسدة وآرائهم الْفَاسِدَة يَزْعمُونَ أَنهم يُرِيدُونَ التَّوْفِيق بَين الدَّلَائِل الَّتِي عِنْدهم مِمَّا يسمونها العقليات، وَهِي فِي الْحَقِيقَة مَحْض الجهليات، وَبَين الدَّلَائِل النقلية المنقولة عَن الْكتاب وَالسّنة، وَقد يتفوهون أَنهم يُرِيدُونَ التَّحْقِيق والتدقيق، بالتوفيق بَين الشَّرِيعَة والفلسفة، كَمَا يَقُول كثير من المبتدعة من المتنسكة، والجهلة من المتصوفة، حَيْثُ يَقُولُونَ إِنَّمَا نُرِيد الْإِحْسَان بِالْجمعِ بَين الْإِيمَان والإتقان، والتوفيق بَين الشَّرِيعَة والحقيقة، ويدسون فِيهَا دسائس مذاهبهم الْبَاطِلَة ومشاربهم العاطلة من الِاتِّحَاد والحلول والإلحاد والاتصال، وَدَعوى الْوُجُود وَالْمُطلق، وَأَن الموجودات عين الْحق، ويتوهمون أَنهم فِي مقَام الجمعية، وَالْحَال أَنهم فِي عين التَّفْرِقَة والزندقة، وكما يَقُول كثير من الْمُلُوك والحكام والأمراء إِذا خالفوا فِي بعض أَحْكَام الْإِسْلَام: إِنَّمَا نُرِيد الْإِحْسَان بالسياسة الْحَسَنَة، والتوفيق بَينهمَا وَبَين الشَّرِيعَة المستحسنة؛ فَكل من طلب أَن يحكم فِي شَيْء من أَمر الدّين غير مَا هُوَ ظَاهر الشَّرْع الْمُبين لَهُ نصيب من ذَلِك وَهُوَ هَالك فِيمَا هُنَالك.
وفيه صـ 34 وما بعدها
وَقَالَ شيخ مَشَايِخنَا الْعَلامَة الْجَزرِي: وَأحسن مَا عِنْدِي فِي أَمر هَذَا الرجل أَنه لما ارتاض غلبت عَلَيْهِ السَّوْدَاء فَقَالَ مَا قَالَ فَلهَذَا اخْتلف كَلَامه اخْتِلَافاً كثيراً، وتناقض تناقضاً ظَاهراً، فَيَقُول الْيَوْم شَيْئا وَغداً بِخِلَافِهِ، قلت: (أي ملا علي القاري): وَيُؤَيّد مَا نقل عَنهُ أَنه قَالَ (أي الشيخ الجزري): من لم يقل بِكُفْرِهِ (أي ابن عربي) فَهُوَ كَافِر، قَالَ(أي الشيخ الجزري): والظانون بِهِ خيرًا أحد رجلَيْنِ:
إِمَّا أَن يكون سليم الْبَاطِن لَا يتَحَقَّق معنى كَلَامه وَيَرَاهُ صوفياً، ويبلغه اجْتِهَاده وَكَثْرَة علمه فيظن بِهِ الْخَيْر.
وَإِمَّا أَن يكون زنديقاً إباحياً حلولياً يعْتَقد وحدة الْوُجُود وَيَأْخُذ مَا يُعْطِيهِ كَلَامه من ذَلِك مُسلماً، وَيُظْهِر الْإِسْلَام، وَاتِّبَاع الشَّرْع الشريف فِي الْأَحْكَام.
وَلَقَد جرى بيني وَبَين كثير من عُلَمَائهمْ بحث أفْضى إِلَى أَن قلت: اجْمَعُوا بَين قَوْلكُم وَبَين التَّكْلِيف وَأَنا أكون أول تَابع لكم.
وَلَقَد نقل الإِمَام عماد الدّين بن كثير، عَن الْعَلامَة تَقِيّ الدّين السُّبْكِيّ، عَن شيخ الْإِسْلَام ابْن دَقِيق الْعِيد، الْقَائِل فِي آخر عمره: لي أَرْبَعُونَ سنة مَا تَكَلَّمت كلمة إِلَّا وأعددت لَهَا جَوَابا بَين يَدي الله تَعَالَى، وَقد سَأَلت شَيخنَا سُلْطَان الْعلمَاء عبد الْعَزِيز بن عبد السَّلَام عَن ابْن عَرَبِيّ فَقَالَ: شيخ سوء، كَذَّاب، يَقُول بقدم الْعَالم، وَلَا يحرم فرجاً.
وَقَالَ الْجَزرِي: وَبِالْجُمْلَةِ فَالَّذِي أقوله وأعتقده، وَسمعت من أَثِق بِهِ من شيوخي، الَّذين هم حجَّة بيني وَبَين الله تَعَالَى، أَن هَذَا الرجل إِن صَحَّ هَذَا الْكَلَام الَّذِي فِي كتبه مِمَّا يُخَالف الشَّرْع المطهر، وَقَالَهُ وَهُوَ فِي عقله، وَمَات وَهُوَ مُعْتَقد ظَاهره، فَهُوَ أنجس من الْيَهُود وَالنَّصَارَى، فَإِنَّهُم لَا يسْتَحلُّونَ أَن يَقُولُوا ذَلِك، ثمَّ إِنَّمَا يؤول كَلَام الْمَعْصُوم وَلَو فتح بَاب تَأْوِيل كل كَلَام ظَاهره الْكفْر لم يكن فِي الأَرْض كَافِر، مَعَ أَن هَذَا الرجل يَقُول فِي فتوحاته وَهَذَا كَلَام على ظَاهره لَا يجوز تَأْوِيله انْتهى.
وَقد صنف الْعَلامَة ابْن نور الدّين مجلداً كَامِلاً فِي الرَّد على ابْن عَرَبِيّ سَمَّاهُ “كشف الظلمَة عَن هَذِه الْأمة”، أَقُول والعاقل تكفيه الْإِشَارَة وَلَا يحْتَاج إِلَى تَطْوِيل الْعبارَة، وَأما مَا ذكره صَاحب الْقَامُوس فِي فتواه عِنْد مدح ابْن عَرَبِيّ؛ فبناء على حسن ظَنّه بِهِ، لعدم الِاطِّلَاع على كَلَامه، وَفهم مرامه، أَو لموافقة مشربه، ومطابقة مذْهبه، وَأما قَوْله إِن إِنْكَار جمَاعَة من فُقَهَاء الظَّاهِر العاجزين عَن فهم شَيْء من مَعَاني كَلَام الشَّيْخ وحقائقه فَإِنَّهُم مَتى سمعُوا كَلَامه أَنْكَرُوا وبدعوا وشنعوا لعدم فهم مرامه أَلَيْسَ حَافظ الْأمة أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ يَقُول حفظت من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعاءين من الْعلم فبثثت أَحدهمَا فِيكُم وَأما الآخر فَلَو بثثته لقطع مني هَذَا البلعوم كَذَا فِي صَحِيح البُخَارِيّ أَرَادَ بِهِ عُلُوم الْحَقِيقَة الَّتِي لَيست من شَأْن أهل الظَّاهِر لِأَن ذَلِك خَاص بِمَا خصّه الله تَعَالَى من الصديقين والأدباء المقربين، فَهُوَ خطأ ظَاهر، وَغلط باهر من وَجْهَيْن أَحدهمَا: أَن الْمَشَايِخ المعتبرين قد أَنْكَرُوا عَلَيْهِ كَمَا ثَبت واشتهر من إِنْكَار الشَّيْخ الرباني عَلَاء الدولة السمناني.
وَالثَّانِي: استدلاله بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور فَإِنَّهُ لَا شكّ فِي صِحَة مبناه وَإِنَّمَا أَخطَأ فِيمَا ذكره من بَيَانه مَعْنَاهُ، لِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خصّه بِعلمٍ لَا يجوز إفشاؤه، لكَونه مُخَالفا لظَاهِر الشَّرِيعَة، وَقد أجمع الْفُقَهَاء والصوفية والعرفاء أَن كل حَقِيقَة تخَالف ظَاهر الشَّرِيعَة فَهِيَ زندقة مَعَ أَن أَبَا هُرَيْرَة غير مَشْهُور بِهَذَا الْعلم، وَلَا أحد أَخذ عَنهُ من طرق الْمَشَايِخ، وَرِجَال أسانيدهم، وَإِنَّمَا الْمَشْهُور من الصَّحَابَة فِي هَذَا الْفَنّ بِاعْتِبَار الْحَال الصّديق الْأَكْبَر، وَبِاعْتِبَار الْمقَال عَليّ رَضِي الله عَنهُ، وَقد انْتهى إِلَيْهِمَا طرق الصُّوفِيَّة المرضية.
وَالصَّوَاب فِي معنى الحَدِيث المسطور هُوَ أَنه سمع مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعض أَحَادِيث فِي مذمة بني أُميَّة وَكَانَ يخَاف على نَفسه من يزِيد وَزِيَادَة بعض أذيته فَمَا أظهر شَيْئا من ذَلِك لعذره هُنَالك ذكره لبَعض الْخَواص من أَصْحَابه لِئَلَّا يدْخل تَحت قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من كتم علما ألْجم بلجام من نَار) وَقد بيّنت فِيمَا بسطت الْكَلَام بِذكر فتاوي الْعلمَاء الْأَعْلَام فِي رسالتي الْمُسَمَّاة “فر العون مِمَّن يَدعِي إِيمَان فِرْعَوْن”………
ثم قال (صـ 38)
وَتحرم مطالعة كتبه لِأَنَّهَا مشحونة بِمَا يُخَالف عقائد الْمُسلمين، فِي مقَام الْإِيمَان والتصديق، ثمَّ أعلم أَن القَوْل بالحلول والاتحاد الْمُوجب لحُصُول الْفساد والإلحاد شَرّ من الْمَجُوس والثنوية والمانوية الْقَائِلين بالأصلين النُّور والظلمة وَأَن الْعَالم صدر عَنْهُمَا وهم متفقون على أَن النُّور خير من الظلمَة، وَهُوَ الْإِلَه الْمَحْمُود، وَأَن الظلمَة شريرة مذمومة، وهم متنازعون فِي الظلمَة هَل هِيَ قديمَة أَو محدثة، فَلم يثبتوا بَين متماثلين وَقد قَالَ تَعَالَى رداً عَلَيْهِم {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} وَقَالَ {الْحَمد لله الَّذِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَجعل الظُّلُمَات والنور} فَمن أَصَابَهُ ذَلِك النُّور فقد اهْتَدَى، وَمن أخطأه فقد ضل واعتدى، وَكَذَا شَرّ من النَّصَارَى الْقَائِلين بالتثليث.
ثم يقول في “مرتبة الوجود ومنزلة الشهود” (صـ 39)
وَهَذَا دأب أهل الْبَاطِن، أَنهم يروجون مَذْهَبهم بانتسابه إِلَى بعض أهل الْحق عِنْد الْجُهَّال، مِمَّن لَا تَمْيِيز لَهُ بَين الْأَقْوَال، كالشيعة ينتسبون إِلَى الإِمَام جَعْفَر الصَّادِق، وَهُوَ بَرِيء مِنْهُم، ومتنزه عَنْهُم، عِنْد من يعرف مقَامه، ويتبين لَهُ مرامه، حِين يسمع كَلَامه، وكالملحدين يتعلقون بأشعار الْعَطَّار، والحافظ، ومير قَاسم الْأَنْوَار، وأمثالهم من أَرْبَاب الْأَسْرَار، وكما أَنا المبتدعة كلهم يستدلون على مدعائهم بِالْآيَاتِ القرآنية، وَبَعض الْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة.
ثم يكمل في صـ 40
وَقد ثَبت بضرورة الْعقل وأدلة النَّقْل وجود موجودين أَحدهمَا وَاجِب، وَالْآخر مُمكن، أَحدهمَا قديم، وَالْآخر حَادث، أَحدهمَا غَنِي، وَالْآخر فَقير إِلَى الله، أَحدهمَا خَالق، وَالْآخر مَخْلُوق
ونحو هذ أيضاً في (صـ 101)
قَالَ فِي الفتوحات: من أَن التخلي عِنْد الْقَوْم اخْتِيَار الْخلْوَة والإعراض عَن الْأُمُور المشغلة من الحضرة، وَعِنْدنَا هُوَ التخلي من الْوُجُود الْمُسْتَفَاد، لِأَن فِي اعْتِقَاد الْعَوام أَن وجود الْغَيْر حق، وَفِي نفس الْأَمر لَيْسَ إِلَّا وجود الْحق جلّ وَعلا. انْتهى
وَلَا يخفى أَن هَذَا أَيْضا يُشِير إِلَى وحدة الْوُجُود وَهُوَ مُخَالف لما عَلَيْهِ أَرْبَاب الشُّهُود من أَن العابد غير المعبود، وَالشَّاهِد غير الْمَشْهُود، وَغَايَة الْأَمر أَن ظُهُور الْخلق يخفى أَو يفنى عِنْد نور الْحق كغيبة الْكَوَاكِب الثواقب فِي حَضْرَة شمس الْمَشَارِق والمغارب، وَكَذَا شمس الجوانب منخسفة ومنكسفة عِنْد تجلي رب الْمَشَارِق والمغارب، فَكُن من الْأَقَارِب لَا من الْأَجَانِب كَيْلا يَقع لَك خطأ فِي تَحْقِيق الْمَرَاتِب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى