بحوث ودراسات

“بيت الرب” في الكتاب المقدَّس بين العقائد الوثنيَّة والمصادر الإسلاميَّة 4 من 6

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

ثانيًا: بشارة دانيال بالعودة إلى أورشليم وإعادة بناء بيت الربِّ مع بشارة أخرى بهلاك جديد لبني إسرائيل

يرد في سفر دانيال تضرُّع النبي إلى الربّ بعد 70 سنة من خراب أورشليم:

“فِي السَّنَةِ الأُولَى لِدَارِيُوسَ بْنِ أَحْشَوِيرُوشَ مِنْ نَسْلِ الْمَادِيِّينَ الَّذِي مُلِّكَ عَلَى مَمْلَكَةِ الْكَلْدَانِيِّينَ. فِي السَّنَةِ الأُولَى مِنْ مُلْكِهِ، أَنَا دَانِيآلَ فَهِمْتُ مِنَ الْكُتُبِ عَدَدَ السِّنِينَ الَّتِي كَانَتْ عَنْهَا كَلِمَةُ الرَّبِّ إِلَى إِرْمِيَا النَّبِيِّ، لِكَمَالَةِ سَبْعِينَ سَنَةً عَلَى خَرَابِ أُورُشَلِيمَ. فَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَى اللهِ السَّيِّدِ طَالِبًا بِالصَّلاَةِ وَالتَّضَرُّعَاتِ، بِالصَّوْمِ وَالْمَسْحِ وَالرَّمَادِ. وَصَلَّيْتُ إِلَى الرَّبِّ إِلهِي وَاعْتَرَفْتُ وَقُلْتُ: «أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلهُ الْعَظِيمُ الْمَهُوبُ، حَافِظَ الْعَهْدِ وَالرَّحْمَةِ لِمُحِبِّيهِ وَحَافِظِي وَصَايَاهُ. أَخْطَأْنَا وَأَثِمْنَا وَعَمِلْنَا الشَّرَّ، وَتَمَرَّدْنَا وَحِدْنَا عَنْ وَصَايَاكَ وَعَنْ أَحْكَامِكَ. وَمَا سَمِعْنَا مِنْ عَبِيدِكَ الأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ بِاسْمِكَ كَلَّمُوا مُلُوكَنَا وَرُؤَسَاءَنَا وَآبَاءَنَا وَكُلَّ شَعْبِ الأَرْضِ. لَكَ يَا سَيِّدُ الْبِرُّ، أَمَّا لَنَا فَخِزْيُ الْوُجُوهِ، كَمَا هُوَ الْيَوْمَ لِرِجَالِ يَهُوذَا وَلِسُكَّانِ أُورُشَلِيمَ، وَلِكُلِّ إِسْرَائِيلَ الْقَرِيبِينَ وَالْبَعِيدِينَ فِي كُلِّ الأَرَاضِي الَّتِي طَرَدْتَهُمْ إِلَيْهَا، مِنْ أَجْلِ خِيَانَتِهِمِ الَّتِي خَانُوكَ إِيَّاهَا. يَا سَيِّدُ، لَنَا خِزْيُ الْوُجُوهِ، لِمُلُوكِنَا، لِرُؤَسَائِنَا وَلآبَائِنَا لأَنَّنَا أَخْطَأْنَا إِلَيْكَ” (إصحاح 9: آيات 1-8).

ما حلَّ ببني إسرائيل من تأديب إنَّما هو تثبيت لما سبق أن أنبأ به على لسان موسى النبي منذ زمن بعيد. لقد سبق فحذر ليس فقط عامة الشعب، ولكن حتى الذين وهبهم حق القضاء؛ فإنه ليس أحد فوق القانون الربي. يواصل النبي دانيال التضرُّع، وإذا بـ “الرجل جبرائيل” يأتيه ليردَّ على دعائه:

“وَأَنَا مُتَكَلِّمٌ بَعْدُ بِالصَّلاَةِ، إِذَا بِالرَّجُلِ جِبْرَائِيلَ الَّذِي رَأَيْتُهُ فِي الرُّؤْيَا فِي الابْتِدَاءِ مُطَارًا وَاغِفًا لَمَسَنِي عِنْدَ وَقْتِ تَقْدِمَةِ الْمَسَاءِ. وَفَهَّمَنِي وَتَكَلَّمَ مَعِي وَقَالَ: «يَا دَانِيآلُ، إِنِّي خَرَجْتُ الآنَ لأُعَلِّمَكَ الْفَهْمَ. فِي ابْتِدَاءِ تَضَرُّعَاتِكَ خَرَجَ الأَمْرُ، وَأَنَا جِئْتُ لأُخْبِرَكَ لأَنَّكَ أَنْتَ مَحْبُوبٌ. فَتَأَمَّلِ الْكَلاَمَ وَافْهَمِ الرُّؤْيَا. سَبْعُونَ أُسْبُوعًا قُضِيَتْ عَلَى شَعْبِكَ وَعَلَى مَدِينَتِكَ الْمُقَدَّسَةِ لِتَكْمِيلِ الْمَعْصِيَةِ وَتَتْمِيمِ الْخَطَايَا، وَلِكَفَّارَةِ الإِثْمِ، وَلِيُؤْتَى بِالْبِرِّ الأَبَدِيِّ، وَلِخَتْمِ الرُّؤْيَا وَالنُّبُوَّةِ، وَلِمَسْحِ قُدُّوسِ الْقُدُّوسِينَ. فَاعْلَمْ وَافْهَمْ أَنَّهُ مِنْ خُرُوجِ الأَمْرِ لِتَجْدِيدِ أُورُشَلِيمَ وَبِنَائِهَا إِلَى الْمَسِيحِ الرَّئِيسِ سَبْعَةُ أَسَابِيعَ وَاثْنَانِ وَسِتُّونَ أُسْبُوعًا، يَعُودُ وَيُبْنَى سُوقٌ وَخَلِيجٌ فِي ضِيقِ الأَزْمِنَةِ. وَبَعْدَ اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ أُسْبُوعًا يُقْطَعُ الْمَسِيحُ وَلَيْسَ لَهُ، وَشَعْبُ رَئِيسٍ آتٍ يُخْرِبُ الْمَدِينَةَ وَالْقُدْسَ، وَانْتِهَاؤُهُ بِغَمَارَةٍ، وَإِلَى النِّهَايَةِ حَرْبٌ وَخِرَبٌ قُضِيَ بِهَا. وَيُثَبِّتُ عَهْدًا مَعَ كَثِيرِينَ فِي أُسْبُوعٍ وَاحِدٍ، وَفِي وَسَطِ الأُسْبُوعِ يُبَطِّلُ الذَّبِيحَةَ وَالتَّقْدِمَةَ، وَعَلَى جَنَاحِ الأَرْجَاسِ مُخَرَّبٌ حَتَّى يَتِمَّ وَيُصَبَّ الْمَقْضِيُّ عَلَى الْمُخَرِّبِ»” (إصحاح 9: آيات 21-27).

تقسيم السبعين أسبوعًا، نقلًا عن تفسير الإصحاح 9 من سفر دانيال على موقع St. Takla التبشيري:

تقسم السبعين أسبوعًا إلى 7 أسابيع + 62 أسبوعًا + أسبوع.

وتبدأ هذه النبوة ببناء أورشليم أي الأمر الصادر بهذا سنة 457 ق.م. وتنتهي بخراب أورشليم وقد تم خرابها بيد تيطس سنة 70م. فالمجيء الأول للمسيح صاحبه نهاية الكهنوت اليهودي وشق حجاب الهيكل ثم خراب أورشليم ذاتها، فهي التي صلبت ملكها. والمجيء الثاني للمسيح أيضًا سيصاحبه نهاية العالم وأورشليم ضمنًا، أو يسبقه خراب أورشليم لاستمرار رفضها للمسيح، بل أنهم سيكملون المعصية بقبولهم لضد المسيح. وحيثما يوجد الشيطان فهذا يعني الخراب. نهاية النبوة قد تتكرر مرتين بخراب أورشليم.

الفترة الأولي

هي فترة = 7 أسابيع أي 49 سنة من سنة 457 ق.م إلى سنة 408 ق.م وخلالها تم ترميم الأسوار وعمل السوق والخليج.

الفترة الثانية

هي فترة = 62 أسبوعًا أي 434 سنة تبدأ من سنة 408 ق.م. إلى سنة 26 م.

الفترة الثالثة:

هي فترة = أسبوع أي 7 سنين. وهو ينقسم إلى نصفين كل منهم = 3 سنة بعد اثنين وستين أسبوعًا يخرج المسيح. وفي وسط الأسبوع يبطل الذبيحة. يرى البعض أن الـ 69 أسبوعًا قد انتهت بتقديم السيِّد المسيح نفسه ذبيحة حب فريدة، والآن تنتقل بنا رؤيا دانيال إلى نهاية العالم، وهي مدة السبع سنوات الأخيرة التي خلالها يأتي ضد المسيح ليملك ثلاثة سنوات ونصف حيث الضيقة العظيمة التي قال عنها المسيح (عليه وعلى نبيِّنا أزكى الصلاة وأتم التسليم).

وقد ورد على لسان المسيح نفسه في إنجيل متَّى نبوءة بهلاك بني إسرائيل وخراب القدس، مطلقًا على ذلك “رجسة الخراب“: “«فَمَتَى نَظَرْتُمْ «رِجْسَةَ الْخَرَابِ» الَّتِي قَالَ عَنْهَا دَانِيآلُ النَّبِيُّ قَائِمَةً فِي الْمَكَانِ الْمُقَدَّسِ، لِيَفْهَمِ الْقَارِئُ. فَحِينَئِذٍ لِيَهْرُب الَّذِينَ فِي الْيَهُودِيَّةِ إِلَى الْجِبَالِ، وَالَّذِي عَلَى السَّطْحِ فَلاَ يَنْزِلْ لِيَأْخُذَ مِنْ بَيْتِهِ شَيْئًا…لأَنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ ضِيقٌ عَظِيمٌ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ مُنْذُ ابْتِدَاءِ الْعَالَمِ إِلَى الآنَ وَلَنْ يَكُونَ. وَلَوْ لَمْ تُقَصَّرْ تِلْكَ الأَيَّامُ لَمْ يَخْلُصْ جَسَدٌ. وَلكِنْ لأَجْلِ الْمُخْتَارِينَ تُقَصَّرُ تِلْكَ الأَيَّامُ ” (إصحاح 24: آيات 15-22).

تحدث سفر دانيال عن هذا الضيق في موضع آخر: “وَيَكُونُ زَمَانُ ضِيقٍ لَمْ يَكُنْ مُنْذُ كَانَتْ أُمَّةٌ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ” (دانيال، إصحاح 12: آية 1). وفي ارميا: “آهِ! لأَنَّ ذلِكَ الْيَوْمَ عَظِيمٌ وَلَيْسَ مِثْلُهُ. وَهُوَ وَقْتُ ضِيق عَلَى يَعْقُوبَ، وَلكِنَّهُ سَيُخَلَّصُ مِنْهُ” (ارميا، إصحاح 30: آية 7)؛ وجاء في سفر صفنيا: “لاَ فِضَّتُهُمْ وَلاَ ذَهَبُهُمْ يَسْتَطِيعُ إِنْقَاذَهُمْ في يَوْمِ غَضَبِ الرَّبِّ، بَلْ بِنَارِ غَيْرَتِهِ تُؤْكَلُ الأَرْضُ كُلُّهَا، لأَنَّهُ يَصْنَعُ فَنَاءً بَاغِتًا لِكُلِّ سُكَّانِ الأَرْضِ” (صفنيا، إصحاح 1: آية 18).

نفهم مما ورد في أسفار العهد القديم أنَّ الربَّ قد توعَّد بني إسرائيل بهلاك جديد. قد يظنُّ من يراجع الآيات التي سبقت الإشارة إليها في أسفار دانيال وارميا وصفنيا أنَّ “الضيق” المقصود هنا هو التالي لتكذيب بني إسرائيل للمسيح ووعيده بدمار الهيكل في إنجيل متَّى “خَرَجَ يَسُوعُ وَمَضَى مِنَ الْهَيْكَلِ، فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ لِكَيْ يُرُوهُ أَبْنِيَةَ الْهَيْكَلِ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَمَا تَنْظُرُونَ جَمِيعَ هذِهِ؟ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لاَ يُتْرَكُ ههُنَا حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ” (إصحاح 24: آيتان 1-2). مع ذلك، فالإصحاح 24 ينقل الحديث إلى أمور مستقبلية تتجاوز الإطار الزمني للأحداث كثيرًا، وهي ظهور مسحاء كذبة (آيات 3-5، وقيام حروب وكوارث (آيتان 6-7)، وحدوث مضايقات (آيات 8-10)، وظهور أنبياء كذبة (آيات 11-14). وما يؤكِّد ذلك أنَّ الحديث يعود إلى الوراء، إلى نبوءة دانيال بأنَّ خراب الهيكل يكون في مقدِّمة دمار واسع “فمتى نظرتم رجسة الخراب التي قال عنها دانيال النبي في المكان المقدس. ليفهم القارئ” (آية 15). قد يعجز المتابع عن تحديد أي خراب يقصده المسيح في هذه الحالة: خراب أورشليم وهيكلها علم 70 ميلاديًّا على يد الرومان، أم خرابها المتوقَّع في آخر الزمان، وفق ما جاء في الآية 7 من سورة الإسراء “فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ ليسوؤوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا”؟

كما لم توضح الآية 5 من سورة الإسراء هوية مهلكي بني إسرائيل أو مكان مجيئهم، لم توضح النبوءة في الإصحاح 24 من إنجيل متَّى أي خراب مقصود في هذه الآيات، التالي لمقتل المسيح، أم السابق لمجيئه. ينبئ المسيح في الإصحاح 24 عن ظهور مسيح كاذب-يُعرف بضد المسيح-سيظهر قبل، وربَّما يبقى السنين الثلاث ونصف الباقية من السبع أسابيع-الـ 490 سنة-التي أُخبر دانيال أنَّها ستشهد ضيقًا عظيمًا. قبل ظهور المسيح، وفق إصحاح 24، سيشهد التالي: “لأَنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ ضِيقٌ عَظِيمٌ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ مُنْذُ ابْتِدَاءِ الْعَالَمِ إِلَى الآنَ وَلَنْ يَكُون. وَلَوْ لَمْ تُقَصَّرْ تِلْكَ الأَيَّامُ لَمْ يَخْلُصْ جَسَدٌ. وَلكِنْ لأَجْلِ الْمُخْتَارِينَ تُقَصَّرُ تِلْكَ الأَيَّامُ. حينَئِذٍ إِنْ قَالَ لَكُمْ أَحَدٌ: هُوَ ذَا الْمَسِيحُ هُنَا! أَوْ: هُنَاكَ! فَلاَ تُصَدِّقُوا. لأَنَّهُ سَيَقُومُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وَأَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ وَيُعْطُونَ آيَاتٍ عَظِيمَةً وَعَجَائِبَ، حَتَّى يُضِلُّوا لَوْ أَمْكَنَ الْمُخْتَارِينَ أَيْضًا” (21-24). حذَّر المسيح من هول مفاجأة ظهور ضدِّ المسيح، الذي أسماه “ابن الإنسان”، وقال في ذلك “وَكَمَا كَانَتْ أَيَّامُ نُوحٍ كَذلِكَ يَكُونُ أَيْضًا مَجِيءُ ابْنِ الإِنْسَانِ. لأَنَّهُ كَمَا كَانُوا فِي الأَيَّامِ الَّتِي قَبْلَ الطُّوفَانِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَزَوَّجُونَ وَيُزَوِّجُونَ، إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ نُوحٌ الْفُلْكَ. وَلَمْ يَعْلَمُوا حَتَّى جَاءَ الطُّوفَانُ وَأَخَذَ الْجَمِيعَ، كَذلِكَ يَكُونُ أَيْضًا مَجِيءُ ابْنِ الإِنْسَانِ” (37-39).

من الثابت لدى جمهور المسلمين أنَّ الذي يأتي قبل المسيح الحقيقي اثنان، أوَّلهما المهدي وثانيهما الدجال (ضد المسيح)، ويبدو من هذه النبوءة أنَّ هناك خلط بين الاثنين لطمس ملامح أحدهما ودمجها في ملامح الآخر. لن يقول المهدي أنَّه المسيح ولكن ابن إنسان وليس ابن الله، إنَّما هو الذي يكون مجيئه وبالًا على بني إسرائيل وسيتبع ظهوره “ضِيقٌ عَظِيمٌ“؛ أمَّا الذي سيقول أنَّه المسيح فهو الدجَّال، لكنَّه هو الذي ينتظره بنو إسرائيل بالفعل، فهو الذي سيقول أنَّه ابن الله-وفق ما ورد في الأحاديث الصحيحة. على أيِّ حالٍ، فقد أكدَّت نبوءة دانيال ونذير المسيح أنَّ أول هلاك لبني إسرائيل ودمار للهيكل يكون بعد مقتل المسيح، وأنَّ هناك هلاك ودمار مماثل في مرحلة أخرى قبيل عودة المسيح.

ما يعني بخصوص وعد الآخرة في هذا الصدد هو أنَّ دمار هيكل بني إسرائيل وهلاكهم قد بشَّر به دانيال والمسيح مرَّتان تتبعان الدمار والهلاك الأول على يد البابليين الوثنيين. وتمَّ الوعد الأول عام 70 ميلاديًّا بعد صراع طويل لبني إسرائيل مع الرومان، انتظر فيه بنو إسرائيل المخلِّص الذي سينصرهم على أعدائهم. والسؤال الهام، كيف ينطبق ما جاء في الآية 6 من سورة الإسراء التي تقول “ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا” على حال بني إسرائيل وقت الغزو الروماني على يد تيطس وهادريان؟

من المفترض أنَّ بني إسرائيل كانوا أمَّة مؤمنة عبدت ربَّها على حسب الشريعة الموسويَّة، ثم انحرفت بإدخال طقوس وثنية لعبادة الشمس، ثم عادت إلى صوابها بعد محنة السبي البابلي وخراب أورشليم والسامرة. ويروي سفر المكابيين الأول عن ثورة عارمة قادها رؤساء سبط يهوذا ضد الرومان لرفض بني إسرائيل الاستجابة لطلب الحُكَّام السلوقيين تقديم ذبائح للأوثان. قاد الثورة متاثياس (أو متتيا)، وخلفه ابنه يهوذا المكابي، أي صار لبني إسرائيل أبطال يواجهون المستعمر في صراعات دموية طاحنة، أي صار لهم بنون أشدَّاء. وبعد التشتت في البلدان، صار لليهود جاليات في كلِّ مكان (أي أصبحوا أكثر نفيرًا). لم يبقَ من المواصفات التي أخبرت عنها الآية 6 من سورة الإسراء سوى الأموال، فمن أي جاءهم المال؟ لنتأمل الآيات التَّالية في إنجيل متَّى:

وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تُغْلِقُونَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ قُدَّامَ النَّاسِ، فَلاَ تَدْخُلُونَ أَنْتُمْ وَلاَ تَدَعُونَ الدَّاخِلِينَ يَدْخُلُونَ. وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تَأْكُلُونَ بُيُوتَ الأَرَامِلِ، ولِعِلَّةٍ تُطِيلُونَ صَلَوَاتِكُمْ. لِذلِكَ تَأْخُذُونَ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ. وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تَطُوفُونَ الْبَحْرَ وَالْبَرَّ لِتَكْسَبُوا دَخِيلاً وَاحِدًا، وَمَتَى حَصَلَ تَصْنَعُونَهُ ابْنًا لِجَهَنَّمَ أَكْثَرَ مِنْكُمْ مُضَاعَفًا. وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْقَادَةُ الْعُمْيَانُ! الْقَائِلُونَ: مَنْ حَلَفَ بِالْهَيْكَلِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلكِنْ مَنْ حَلَفَ بِذَهَب الْهَيْكَلِ يَلْتَزِمُ. أَيُّهَا الْجُهَّالُ وَالْعُمْيَانُ! أَيُّمَا أَعْظَمُ: ألذهب أَمِ الْهَيْكَلُ الَّذِي يُقَدِّسُ الذَّهَبَ؟ وَمَنْ حَلَفَ بِالْمَذْبَحِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلكِنْ مَنْ حَلَفَ بِالْقُرْبَانِ الَّذِي عَلَيْهِ يَلْتَزِمُ. أَيُّهَا الْجُهَّالُ وَالْعُمْيَانُ! أَيُّمَا أَعْظَمُ: أَلْقُرْبَانُ أَمِ الْمَذْبَحُ الَّذِي يُقَدِّسُ الْقُرْبَانَ؟” (إصحاح 23: آيات 13-19).

يملي المسيح في مواجهته الأخيرة مع كهنة هيكل أورشليم لائحة اتهامات تبرر استحقاقهم للهلاك واستحقاق هيكلهم للدمار. وأبرز اتَّهام هو أكل أموال الناس “تَأْكُلُونَ بُيُوتَ الأَرَامِلِ“، نشر تعاليم دينية فاسدة تخرج عن الشريعة السماوية وتقود صاحبها إلى الجحيم “تَطُوفُونَ الْبَحْرَ وَالْبَرَّ لِتَكْسَبُوا دَخِيلاً وَاحِدًا، وَمَتَى حَصَلَ تَصْنَعُونَهُ ابْنًا لِجَهَنَّمَ أَكْثَرَ مِنْكُمْ مُضَاعَفًا“، والرياء التام ببيع المغفرة والجنَّة مقابل المال “ألذهب أَمِ الْهَيْكَلُ الَّذِي يُقَدِّسُ الذَّهَبَ؟ … أَلْقُرْبَانُ أَمِ الْمَذْبَحُ الَّذِي يُقَدِّسُ الْقُرْبَانَ؟”. يختتم المسيح خطابه بعبارة تلخِّص سبب استحقاق بني إسرائيل للعذاب: قتل الأنبياء ممن لا يرضون بحُكم هوى النفس ويقضون بشريعة الربِّ، كما جاء في الآية 37 “يا أُورُشَلِيمُ، يَا أُورُشَلِيمُ! يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا، كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا!”. ونتيجة ذلك ترد باختصار في الآية التالية “هُوَ ذَا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَابًا“. استحقَّ بنو إسرائيل الهلاك على يد الوثنيين القادمين من بابل بسبب كفرهم، واستحقُّوه على يد الرومان بسبب ريائهم، ولعلَّ في هذا ما يفسِّر قوله تعالى في الآية 6 من سورة الإسراء “ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ“، فبعد أن اتَّبع بنو إسرائيل ملَّة الكفر البواح بعبادة آلهة الشمس، واتِّخاذ أصنامهم، وبناء المعابد فوق المرتفعات مثلهم، دمج علماؤهم من الكتبة والكهنة الشريعة السماوية بالعقائد الوثنية، وقد أشرنا إلى تعارُض الكثير مما ورد في أسفار العهدين القديم والجديد بشأن عهد الربِّ مع إبراهيم، وعقيدة المخلِّص آخر الزمان، وبناء بيت الربِّ مع ما جاء في المصادر الإسلامية، من كتاب وأحاديث شريفة، فقد ورد في صحيح البخاري “حدَّثنا عبد الوهاب بن نجدة، حدَّثنا أبو عمرو بن كثير بن دينار، عن حريز بن عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي عوف، عن المقدام بن معدي كرب، عن رسول الله “صلى الله عليه وسلم” أنَّه قال (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه).”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى