بحوث ودراسات

“بيت الرب” في الكتاب المقدَّس بين العقائد الوثنيَّة والمصادر الإسلاميَّة 2 من 6

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

وضع سليمان أمام الهيكل عمودين نصبهما له رجل من صُور يُدعى حيرام، عُرف بـ “ابن الأرملة”. ورد في سفر الملوك الأول عن باقي الأوصاف:

 وَصَوَّرَ الْعَمُودَيْنِ مِنْ نُحَاسٍ، طُولُ الْعَمُودِ الْوَاحِدِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا. وَخَيْطٌ اثْنَتَا عَشَرَةَ ذِرَاعًا يُحِيطُ بِالْعَمُودِ الآخَرِ. وَعَمِلَ تَاجَيْنِ لِيَضَعَهُمَا عَلَى رَأْسَيِ الْعَمُودَيْنِ مِنْ نُحَاسٍ مَسْبُوكٍ. طُولُ التَّاجِ الْوَاحِدِ خَمْسُ أَذْرُعٍ، وَطُولُ التَّاجِ الآخَرِ خَمْسُ أَذْرُعٍ. وَشُبَّاكًا عَمَلًا مُشَبَّكًا وَضَفَائِرَ كَعَمَلِ السَّلاَسِلِ لِلتَّاجَيْنِ اللَّذَيْنِ عَلَى رَأْسَيِ الْعَمُودَيْنِ، سَبْعًا لِلتَّاجِ الْوَاحِدِ، وَسَبْعًا لِلتَّاجِ الآخَرِ. وَعَمِلَ لِلْعَمُودَيْنِ صَفَّيْنِ مِنَ الرُّمَّانِ فِي مُسْتَدِيرِهِمَا عَلَى الشَّبَكَةِ الْوَاحِدَةِ لِتَغْطِيَةِ التَّاجِ الَّذِي عَلَى رَأْسِ الْعَمُودِ، وَهكَذَا عَمِلَ لِلتَّاجِ الآخَرِ. وَالتَّاجَانِ اللَّذَانِ عَلَى رَأْسَيِ الْعَمُودَيْنِ مِنْ صِيغَةِ السُّوسَنِّ كَمَا فِي الرِّوَاقِ هُمَا أَرْبَعُ أَذْرُعٍ. وَكَذلِكَ التَّاجَانِ اللَّذَانِ عَلَى الْعَمُودَيْنِ مِنْ عِنْدِ الْبَطْنِ الَّذِي مِنْ جِهَةِ الشَّبَكَةِ صَاعِدًا. وَالرُّمَّانَاتُ مِئَتَانِ عَلَى صُفُوفٍ مُسْتَدِيرَةٍ عَلَى التَّاجِ الثَّانِي. وَأَوْقَفَ الْعَمُودَيْنِ فِي رِوَاقِ الْهَيْكَلِ. فَأَوْقَفَ الْعَمُودَ الأَيْمَنَ وَدَعَا اسْمَهُ «يَاكِينَ». ثُمَّ أَوْقَفَ الْعَمُودَ الأَيْسَرَ وَدَعَا اسْمَهُ «بُوعَزَ». وَعَلَى رَأْسِ الْعَمُودَيْنِ صِيغَةُ السُّوسَنِّ. فَكَمُلَ عَمَلُ الْعَمُودَيْنِ (إصحاح 7: 15-22).

2-نقش لأحد ملوك بابل

الصورة السابقة هي للوح من الحضارة البابلية، أسفل الصورة يوجد أحد ملوك بابل، وأعلاها بعض المذابح المنصوبة لتقديم القرابين، ويوضح اختيار الجزء العلوي لها أنَّ مكانها كان فوق المرتفعات.

3-الذَّبح فوق المرتفعات في بابل

ويتضح كذلك من مواصفات النقوش على ثوبه أنَّها تتفق بنسبة كبيرة مع مواصفات النقوش الأبواب في الهيكل، والجزء التالي من الصورة يوضح الأمر أكثر:

4-نقوش بابليَّة

صُنعت مكوِّنات الهيكل من “نحاس مصقول” أو “ذهب خالص“، ولكليهما لونٌ برَّاقٌ يُضاهي صفاء لون الشمس، حتَّى أنَّ الذهب كان يُعتبر لحم إله الشمس في البلدان التي عبدت الرب بعل.

نبدأ بتحليل النقوش التي فضَّلها سليمان لتزيين باب بيت الرب، وهي “كروبيم ونخيل وبراعم زهور“؛ الكروبيم-جمع كروب-هي ملائكة مجنَّحة أقامها الرب على أبواب جنَّة عدن عندما طرد منها آدم وحوَّاء. في تحدٍّ لإرادة الرب الذي أقام ملائكة لمنع آدم وزوجه من دخول الجنَّة، خشية أن يأكلا من شجرة الحياة فيخلدان مثله، يوضع على أبواب الهيكل نقوش للكروبيم لا يمكنها منع البشر من دخوله. ويشير الشكل التالي إلى تصوُّر لهيئة الكروبيم:

5-الكروبيم

سبقت الإشارة إلى رمز النخلة في العقائد الوثنية، وهو الخصوبة والوفرة في التكاثر، وكذلك جسد المرأة. وبما أنَّ الكروب له جسم طويل وجناحان، فهو يمثِّل ثالوث الرجل، ووجود النخل إلى جانبه يعني إمكانية اندماج العنصرين في عملية التكاثر. ولعلَّ في وجود “براعم زهور” ضمن النقوش ما يرمز إلى ثمرة عملية اندماج عنصري الكروبيم والنخل.

نأتي إلى عمودي الهيكل “بوعز وياكين“، ووصفهما لم يخرج عن مواصفات خنثويَّة الرب في العقائد الوثنية. فالعمود الطويل الذي يتجاوز طوله عرضه هو عبارة عن رمز لعنصر الذكورة، ووضع رمان على رأسه يرمز إلى رحم الأنثى، وإلى الخصوبة أيضًا. وما يؤكِّد الحرص على إبراز خنثويَّة الرب؛ فالسوسن زهرة خنثوية الجنس، أي تجمع بين الأعضاء الذكورية والأنثوية، أي رمز للاندماج الجنسي بين الربين الذكر والأنثى لإنتاج ذريَّة.

6-أحد عمودي الهيكل

أمَّا عن باقي المواصفات، فقد وُضع حوض الاغتسال-أو البحر المسبوك-على “اثني عشر ثورًا“-ثلاثة ثيران في كلِّ اتجاه من الاتجاهات الأربعة – (آية 25)، وكانت شفَّته تُشبه ورق زهر السوسن (آية 26). سبقت إلى أنَّ الثور كان من رموز إله الشمس بعل. يشير وضع الثيران في الاتجاهات الأربعة إلى الرباعي المقدَّس-باندماج ثالوث الذكر مع وحدة الأنثى.

7-ساحة الهيكل الخارجيَّة

وُصفت قواعد الحوض على النحو التالي: “على الأتراس التي بين الحواجب أسود وثيران وكروبيم وكذلك على الحواجب من فوق ومن تحت الأسود والثيران قلائد زهور عمل مدلى” (آية 29). أمَّا عن البَكَر، فقد “نقش على الواح اياديها وعلى أتراسها كروبيم وأسودًا ونخيلًا كسعة كل واحدة وقلائد زهور مستديرة” (آية 36) (سفر الملوك الأول: إصحاح 7: آيات 25-36).

بعد الإشارة إلى استعراض أسفار العهد القديم لتحريف سليمان الملك للشريعة الموسوية بإدخال طقوس بناء المرتفعات والذبح عليها، يجدر بنا استرجاع قصَّة أمر الرب لإبراهيم بذبح ابنه على مرتفَع المُريَّا، واختيار ذلك الموقع المرتفع للذبح، كما جاء في الإصحاح 22 من سفر التكوين (آيتان 1-2): “وَحَدَثَ بَعْدَ هذِهِ الأُمُورِ أَنَّ اللهَ امْتَحَنَ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ لَهُ: «يَا إِبْرَاهِيمُ!». فَقَالَ: «ها أَنَا ذَا». فَقَالَ: «خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ، الَّذِي تُحِبُّهُ، إِسْحَاقَ، وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ الْمُرِيَّا، وَأَصْعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً عَلَى أَحَدِ الْجِبَالِ الَّذِي أَقُولُ لَكَ».” يأمر الرب إبراهيم بذبح ابنه على أرض مرتفعة، فهل يدل ذلك على أنَّ “الله”-كما أخبرت عنه أسفار العهد القديم-يرضيه الذبح على المرتفعات؟ إذا صحَّ ذلك، فما إثم سليمان الملك وقتها في الذبح على المرتفعات؟

إذا ما تأمَّلنا ذكر الله تعالى لسيرة نبيِّه سليمان بن داود (عليهما وعلى سائر أنبياء الله أزكى الصلوات وأتم التسليم) في سورة النمل، لوجدناه استنكاره لعبادة أهل سبأ ومليكتهم الشمس من دون الله، لمَّا جاءه الخبر على لسان الهدهد في الآية 24 “وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ“. نفهم من هذه الآية الكريمة أنَّ عبادة الشمس هي في الأصل نتاج وساوس الشيطان، الذي أغرى البشر بعبادة النار التي خُلق هو منها. وكان ردُّ نبي الله سليمان قاطعًا في الآيات (28-31) “اذْهَب بِّكِتَابِي هَٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31).” بعد ذلك الموقف من نبي الله سليمان، هل يُعقل-في ضوء ما جاء في القرآن الكريم-أن يبني بيتًا لله ويزيِّنه بنقوش وتماثيل وزخارف مستمدَّة من عقائد عبادة الشمس؟

ذُكر في الآية 13 من سورة سبأ “يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ” أنَّ الجنَّ كانت تعمل بأمر نبي الله سليمان ما كان يأمرها به من منحوتات، وقول أهل التأويل في ذلك أنَّ المقصود بالمحاريب هنا مساجد للعبادة، وتماثيل زجاجية لم يُشر إلى الأشكال التي تشكَّلت عليها، وأحواض، وقدور ثابتة، أي بلا قواعد على أشكال الحيوانات.

لم يثبت أبدًا وجود أي هيكل أو كنيس في موقع المسجد الأقصى فوق هضبة موريا في القدس الشريف، ويروي الإمام البخاري حديثًا عن الصحابي أبي ذر الغفاري، رضي الله تعالى عنه، حيث قال: قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: “المسجد الحرام”، قال: قلت ثم أي؟ قال: “المسجد الأقصى”، قلت: كم كان بينهما؟ قال: “أربعون سنة، ثم أينما أدركتك الصلاة فصلِّ، فإنَّ الفضل فيه.” ويُقال أنَّ أب الأنبياء إبراهيم (عليه وعلى سائر أنبياء الله أزكى الصلوات وأتم التسليم) قد رمَّم المسجد الأقصى، وعهد إلى ابنه إسحق وذريَّته بترميم المسجد وتجديده، ويُقال أيضًا أنَّ نبي الله داود قد شرع في إعادة بنائه بعد فتح القُدس، وأتمَّ ابنه وخليفته نبي الله سليمان البناء، ويوجد حديث صحيح رواه ابن ماجة والنسائي وأحمد عن عبد الله بن عمرو (رضي الله عنهما) أنَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: “لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس سأل الله ثلاثًا: حُكمًا يصادف حكمه، وملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، وألَّا يأتي هذا المسجد أحدٌ لا يريد إلا الصلاة فيه إلَّا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه”، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): “أما اثنتين فقد أُعطيهما وأرجو أن يكون قد أُعطي الثالثة”. وقد عثرت بعثات التنقيب على آثار في أسوار المسجد الأقصى تعود إلى عام 3000 ق.م.، أي زمن اليبوسيين، مما يعني أنَّ المسجد قد وُجد قبل بعثة أب الأنبياء إبراهيم. تتنافى هذه الروايات تمامًا مع ما ورد في سفر الملوك وأخبار الأيام عن رفض الرب أن يبني داود الملك بيتًا لاسمه (الرب) لتلوُّث يديه بدماء القتل، وعن بناء سليمان الملك البيت، ثم انحرافه عن العقيدة الصحيحة بالذبح على المرتفعات وممارسة طقوس العبادات الوثنية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى