مقالات

الذكاء الغبي في مواجهة الربيع العربي

الدكتور عزت السيد أحمد

كاتب ومفكر سوري
عرض مقالات الكاتب

للحديث في الرَّبيع العربيِّ شؤونٌ وشجونٌ. صدرت عنه عشرات بل مئات الكتب، ناهيك عن عشرات آلاف المقالات والأبحاث، حَتَّىٰ ليظنَّ الظَّان أنَّك بالكاد تخطر في بالك فكرة لم تكتب عليها عشرات الصَّفحات في الكتب والأبحاث والمقالات. ومع ذٰلكَ ستجد أنَّ الكثير من المجال للقول ما زال مفتوحاً.

لا شكَّ في أنَّ الأنظمة العربيَّة قد واجهت انتفاضات الشُّعوب وثوراتها بذكاء ودهاء تجاوز قدرات الشُّعوب وذكائها، ولا عجب في ذٰلكَ فالأنظمة لديها قواعدُ بيانات هائلةٌ ومختصون خبراء تحت سلطتها ورغبتها وأوامرها، وانتظام في القرار والتزام وتسلسلية، ناهيك عن الإرث السياسي والإداري… وهٰذا كلُّه ما افتقرت إليه الشُّعوب مع ما تمتلكه من قدرات خلاقة.

في زحمة هٰذا الذَّكاء والدَّهاء كانت هناك أربع علامات فارقة في الذَّكاء الغبي مارستها هٰذه الأنظمة العربيَّة مع الشُّعوب التي ثارت، وستمارسها الأُخْرَىٰ مع شعوبها عندما تثور عليها. هي فيما يبدو ماركة مسجلة باسم الأنظمة العربيَّة علىٰ أقلِّ تقديرٍ وليس فقط. مارستها الأنظمة العربيَّة التي ثارت شعوبها من دون استثناء. هي في ظاهرها غباءٌ محض، وفي باطنها دهاءٌ محض، وفي حقيقتها استغباء رخيص مفضوح ممجوج إلىٰ درجة عدم إمكان وصفها إلا بأغبى الذَّكاء الغبي.

الدهاء أو الذكاء الغبي الأول هو الاعتراف بسلميَّة المظاهرات والاحتجاجات والتَّرحيب بسلميَّة المظاهرات. باستثناءٍ واحدٍ سأعود إليه فإنَّ الأنظمة العربيَّة جميعها التي قامت فيها ثوارات قد أعلنت عن ترحيبها بهٰذه المظاهرات السِّلميَّة وتأييدها للمظاهرات السِّلميَّة… وبعضها أوشك يعلن تعاطفه مع المظاهرات السِّلميَّة وحمايتها… وفي لبنان فإنَّ المسؤولين الذين أفسدوا لبنان وخرَّبوه يذرفون الدَّمع لا ندماً بل تعاطفاً مع مظلوميَّة الشَّعب الثَّائر… ولولا الخوف لنزلوا وتظاهروا مع الثوار.

ولٰكن في الوقت ذاته فإنَّ السُّلطة بحكم كونها سلطة فإنَّها لا تقبل ولا توافق ولن تسمح بالعنف ولا بالشَّغب ولا بالأعمال التَّخريبيَّة… لأنَّ هٰذه الأفعال والسلوكات والمظاهر ليست مظاهر حضاريَّة، ونحن دول حضاريَّة سوبر ديلوكس، وهٰذه السُّلوكات تضرُّ بسمعتنا بَيْنَ الشُّعوب الرَّاقية ونحن من نحن إذا خربت سمعتنا أمام الأجانب؟! وفوق ذٰلكَ فإنَّ هٰذه الأفعال تضرُّ بمصالح الوطن والمواطنين المتظاهرين أنفسهم… وتخرِّب البلد وتدمِّر الاقتصاد… وهلم جرًّا ودحراً بهٰذه الذَّرائع.

وبناء عليه وعليه البناء فإنَّ من يقوم بمثل هٰذه الأفعال الهمجيَّة العنفيَّة التَّخريبيَّة ليس من أبناء الوطن، أبناء الوطن لا يفعلون ذٰلكَ… ولذٰلك أطلقت الأنظمة عليهم أوصافاً أو تسميات هي واحدة في المبدأ وإن اختلفت صور كتابتها أو لفظها بَيْنَ هٰذه الأنظمة فهم تارة المندسون، وأُخْرَىٰ الجراثيم، وأُخْرَىٰ العملاء، وأُخْرَىٰ المأجورون وهلم جرًّا وجرجرة في هٰذه المسخرة.

ما العمل إذن؟

في الوقت ذاته كانت السُّلطة ترسل رسائل شفهيَّةً للمتظاهرين بأن عودوا إلىٰ بيوتكم الآن ريثما نتخلَّص من المخرِّبين الذين يريدون أن يفسدوا عليكم سلميَّة التَّظاهر، وبعد ذٰلكَ يمكنكم أن تتظاهروا من جديدٍ، وأن السُّلطة ستستجيب لكم وتحقق مطالبكم التي تريدون…

الأنظمة كلُّها أرسلت مثل هٰذه الرَّسائل بمختلف وسائل إيصال الرسائل. ولٰكنَّهَا لم تنتظر أبداً تجاوب الجماهير وإن كانت تأمل بل تستميت علىٰ استجابتها لمثل هٰذه الرسائل، لم تنتظر أيَّ استجابة لأنَّهَا علىٰ الفور كانت تبدأ بالاعتقالات وعرض المعتقلين علىٰ شاشات التَّلفزة وصفحات الجرائد والمجلات مع اعترافاتهم والأموال التي قبضوها والأدوات التي استخدموها والمشاريع التي يخططون لها…

المعتقلون الأجانب أمرهم لله، ولٰكن لا بُدَّ منهم مهما كان الثمن لتعزيز طبخة المؤامرة، ولذٰلك في كلِّ الدُّول العربيَّة التي ثارت تمَّ اعتقال أجانب وعرضهم مع اعترافاتهم علىٰ شاشات التلفزة المحلية تحديداً…

ولٰكن المعتقلين المحليين معرفون مهما كانوا مجهولين من ذويهم وأقاربهم وجيرانهم وحَتَّىٰ لو كانوا عناصر مخابرات سريَّة، وتعرف الناس علىٰ الفور أنَّ اعترافاتهم كلها كذب ودجل لا أساس لها من الصحة حَتَّىٰ ولو لم تبدو علامات تعذيب عليهم… ومع ذٰلكَ تستمرُّ الأنظمة في محاولات قمعها الثَّورات بهٰذه الكذبة الغبيَّة غباء مضحكاً من كل الأطراف والجهات.

أعود إلىٰ الاستثناء، النِّظام السُّوري وحده استثناء منقطعُ النَّظير في كلِّ شيء. لم يقل بوجود مخربين بَيْنَ المتظاهرين لأنَّ النِّظام حَتَّىٰ هٰذا اليوم وبعد مرور تسع سنوات لم يعترف بأنه وجد أو يوجد في سوريا متظاهرين أو مظاهرات أو احتجاجات أو اعتراضات… حَتَّىٰ الآن لا يعترف النِّظام بأنَّ هناك ثورة أو مظاهرات في سوريا، كلُّ المظاهرات كانت مؤيِّدة للنظام وتمَّ تزويرها وفبركتها لتبدو مظاهرات، أمَّا في الحقيقة فلا يوجد مظاهرات، وإنَّمَا يوجد إرهابيون ومخربون ومندسون فقط… وكل ما كان من اعترافات من النِّظام أو المدافعين بوجود مظاهرات فكان تحت الضَّغط والإكراه الإعلامي في المجادلات الخارجيَّة وحسب.

السُّؤال المهم والخطير هو: إذا تمَّ القبض علىٰ المتآمرين والخونة والعملاء فهل يستطيع الشَّعب أن يتظاهر من جديد؟

طبعاً بكلِّ تأكيدٍ، ولٰكنَّ المشكلة هي أنَّ المخربين والعملاء سيظهرون من جديد. هناك نبع من الخونة والعملاء لا ينتهي طالما هناك شعب يريد أن يعترض علىٰ السُّلطة. في إيران أعلنت السُّلطة أمسَ أنَّها ألقت القبض علىٰ الخونة والمتآمرين وعرضتهم علىٰ شاشات التلفزة. قالوا مئتين ولا ندري حقيقة كم عددهم، ففي سوريا مثلاً عرضوا علىٰ التلفزيون نحو خمسين شخصاً مرتهناً للمؤامرة الخارجيَّة والتَّخربيَّة ولٰكنَّ الذين ذاقوا الاعتقال في الثَّورة يفوق المليون معتقل ما زال نحو نصفهم رهن الاعتقال، وبشار الأسد شخصيًّا قال إنَّ الإرهابيين السوريين وليس الأجانب عددهم بالملايين، عشرات الملايين وليس ثَمَّة خطأ، لا أعرف كم عشرة ملايين ولٰكن هم عشرات ملايين الإرهابيين بالآلة الحاسبة والورقة والقلم.

الدهاء أو الذكاء الغبي الثاني هو الاعتراف بشرعية مطلب المتظاهرين، والتعاطف مع هٰذه المطالب، ولٰكن يجب أن يتمَّ ذٰلكَ في ظلِّ القانون والدُّستور.

نوع من الكوميديا السوداء، بل الأصح نوع من السريالية الهستيرية. كيف يستوي معهم ذٰلكَ؟! كيف لا يستحون وهم يعلقون هٰذا التَّعليق والمظاهرات والاحتجاجات في أساسها وجوهرها وشكلها من أجل نسف الدستور وتغيير القوانين هٰذه التي أوصلتهم إلىٰ المجازفة والثَّورة؟! قكيف يمكن تحقيق مطالبهم تحت سقف الدستور أو القوانين التي ثاروا عليها لينسفوها؟!

قبل اندلاع الثَّورة الإيرانيَّة بأيَّام، الثَّورة الحالية، فثَمَّةَ عدَّة ثوارت سابقة تمَّ سحقها إلا ثورة الخميني بمصادفةٍ غير عجيبةٍ، تربع الخامنئي أمام الميكرفونات وتعاطف مع مطالب الشَّعبين العراقي واللبناني ودعا إلىٰ تحقيق مطالبهم ضمن القوانين والدستور… وبعد أن اندلعت الثَّورة الإيرانيَّة التي سيتمُّ سحقها بكلِّ تأكيد، عاد نفسه وحسن روحاني رئيس الجمهورية إلىٰ التَّريُّع أمام الميكروفونات من جديد ليعلن كلٌّ منهما علىٰ حدةٍ تعاطفه مع مطالب الشَّعب الإيراني المحقَّة ودعا الحكومة إلىٰ تحقيق مطالب الشَّعب واتخاذ الإجراءات التي تحول دون تضرُّر الشَّعب من رفع أسعار البنزين التي كانت فتيل الثَّورة… أراد أن يكحلها فأعماها، وليس هٰذا مكان مناقشة سفاهة الطلب.

ولٰكن بعد يومين كلاهما عاد وأنكر وجود مظاهرات وأكَّد أنَّ كلَّ ما دار كان مؤامرة خارجيَّة وكل الخارجين في المظاهرات عملاء ومأجورين!!

الأنظمة العربيَّة كلُّها مارست هٰذه الكذبة الغبيَّة. بل إنَّ النِّظام السُّوري سارع إلىٰ تعديل الدُّستور بلجنةٍ طويلةٍ عريضةٍ لإرضاء الشَّعب بدستورٍ جديدٍ كان أسوأ من الدستور القديم في خصوص المطالب الشَّعبية ذاتها التي ثار الشَّعب ضدَّها، وبعد ذٰلكَ دعا الجميع إلىٰ الاحتكام للدستور.

ثالثة الأثافي في الدهاء أو الذكاء الغبي هي بدعة الطَّرف الثَّالث التي حيَّرت العلماء والخبراء والحكماء في الفلك والجغرافيا والفيزياء والبيولوجيا والكيمياء وغيرها مما للعلوم من أسماء؛ هٰذا الطَّرف الثَّالث الذي يطلق النَّار علىٰ الثَّوار وعلىٰ رجال الجيش والشرطة حسب المتوافر والموجود. ولا يستطيع أيُّ أحدٍ أن يعرف من هو هٰذا الطَّرف الثَّالث، ولا يوجد أيُّ بيان باسم الطَّرف الثَّالث يشرح ماذا يفعل ولماذا يفعل أو يتبنى أو ينكر!!! والأطرف من ذٰلكَ هو إعلان ساسة الغرب إيمانهم بوجود طرف ثالث وتصديقهم ذٰلكَ ومطالبتهم هٰذه الأنظمة بتحقيق حيادي في الموضوع!!!

بطبيعة الحال لا يمكن أن يكون الطَّرف الثَّالث إلا بهٰذه الطَّريقة الازداوجيَّة الوقحة؛ يطلق النار علىٰ الطرفين. فلو اكتفى الطَّرف الثَّالث بإطلاق النار أو الاعتداء علىٰ طرفٍ واحدٍ فقط لما جاز أن يسمَّى طرفاً ثالثاً، فيما يجب حسب الوصفة الطبية أن يكون اسمه الطرف الثالث. ولو اكتفي بإطلاق النار أو الاعتداء علىٰ طرف واحدٍ لانفضح بسرعة، وحسب الوصفة الطبية فإنَّهُ لا يجوز أن ينفضح، يجب أن يظلَّ سرًّا مجهولاً.

ولٰكن في الوقت ذاته لا يوجد أبداً أبداً ما يقنع بهٰذه الازدواجيَّة التي يمارسها الطَّرف الثالث. لا يوجد ما يسوِّغ وجود طرف ثالث بَيْنَ الثوار والسُّلطة ويكون عدوًّا للطَّرفين، ولا حَتَّىٰ إثارة الفتنة بَيْنَ الثُّوَّار والسُّلطة كما يزعمون… ولا يمكن بحال من الأحوال أن نجد سبباً واحداً مقنعاً لهٰذا الطَّرف الثَّالث بفلسفته هٰذه. وعلىٰ أيِّ حالٍ قد ناقشت بلاهة وجود هٰذا الطَّرف الثَّالث في مقال نشرته أواسط عام 2012م، وضمنته كتابي الثَّورة السورية والنِّظام السوري الذي صدر عام 2014م.

لا أحد يجهل في الدول العربيَّة الثَّائرة كلِّها أنَّ هٰذا الطَّرف الثالث هو النِّظام بتفاصيل إرادته ورغبته وإدارته حَتَّىٰ لو كان هٰذا الطرف بعضه أو كله من الجماعات الموالية للنِّظام كما في بعض الدُّول العربيَّة.

في بدايات ظهور ظاهرة الطَّرف الثالث كان الناس بسطاء ويتعاملون بطيبة ظاهرة مع الظاهرة. أحد المتظاهرين في المدينة أخرج المسدس وراح يطلق النار يمنة ويسرى ثمَّ يلعن النِّظام ويطلق النار علىٰ رجال الأمن الذين يحاصرون المظاهرة فأمسكه الناس وسلمون للمخفر مبتهجين بهٰذا الإنجاز في فضح الطرف الثَّالث وعدم سماحهم للمندسِّين بالوجود بَيْنَ صفوفهم. وفي اليوم التالي أمسك الناس شخصاً آخر في المدينة ذاتها ولٰكن في مكان آخر وسلموه للمخفر مبتهجين أيضاً بوطنيتهم وسلميتهم. وفي اليوم الثالث أمسكوا في مكانٍ آخر في المدينة عابثاً ثالثاً من الطرف الثالث… ولٰكنَّ الحقيقة لا بُدَّ أن تظهر حَتَّىٰ ولو لم يكن موجوداً الهاتف النقال الذي يتيح التصوير أشكالاً وألواناً في كل وقت وظرف ومكان… ولذٰلك سرعان ما كانت الجميع يقارن بَيْنَ صور المدسوس في الأماكن المختلفة ليتبيَّنوا أنَّهُ هو ذاته: كانوا يسلمونه للمخفر من هنا ويخرجه المخفر بعد دقائق من الباب الخلفي ويذهب إلىٰ مكان جديد.

أمَّا الذكاء الغبي الأعجب فهو المؤامرة الخارجية، فتلك الكذبة لعمري من أعجب الكذب وأكثرها هزليَّة، وفيها من القول الكثير الكثير…

والعجيب الغريب المريب الرهيب أنهم كلهم يتهمون أمريكا وإسرائيل بقيادة هٰذه المؤامرة، والأعجب أنَّهُ حَتَّىٰ الأنظمة العميلة لأمريكا وإسرائيل صراحةً وجهاراً نهاراً ـ كنظام حسني ومبارك والسيسي علىٰ سبيل  المثال ـ اتهموا أمريكا وإسرائيل بقيادة المؤامرة ضدَّ النِّظام؛ تخيلوا أنَّ أحداً لا يجهل التمويل الأمريكي والدعم الإسرائيلي للنظام المصري منذ السَّادات علىٰ الأقل إلىٰ السِّيسي والعلاقة الحميمية مع إسرائيل التي وصلت إلىٰ ما يفوق الخيال والتوقعات الإسرائيلية ذاتها في أيام السِّيسي فإنهم اتهموا أمريكا وإسرائيل بقيادة الثَّورة/ المؤامرة ضد نظام مبارك وثُمَّ ضدَّ السِّيسي!!!

علىٰ أيِّ حالٍ، لم تكن الأنظمة العربية الأُخْرَىٰ أقل من مصر مسافة من إسرائيل وأمريكا وإن بدت في تصريحاتها خلاف ذٰلكَ، ولم تكن أبداً إسرائيل وأمريكا أقل حرصاً علىٰ أيٍّ منها من النِّظام المصري. وقد أثبتت الوقائع والحقائق والوثائق كلها بما لا يقبل الشَّكَّ أنَّها كلها علىٰ قدم المساواة مع النِّظام المصري، ويوماً بعد يوم تتكشَّف الحقائق والوثائق التي تكشف كيف أنَّ أمريكا وإسرائيل وبريطانيا هي التي أوصلت هٰؤلاء الحكام إلىٰ سدَّة السُّلطة وحمتهم ورعتهم… وهٰذه الأنظمة في حقيقة الأمر منقسمة في العلاقة مع أمريكا وإسرائيل إلىٰ قمسين: قسم يقبض وقسم يدفع. والذين يقبضون كان بعضهم بالسر وصار بالعلن، وبقي بعضهم بالسر ورُبَّما يختلف نوع القبض المأخوذ من أمريكا وإسرائيل. ومع ذٰلكَ فإنهم كلهم يتهمون أمريكا بالتآمر عليهم في تحريك الشارع ضدَّ النِّظام.

الخامنئي، وليست إيران من الدول العربية ولٰكنَّهَا في السلة ذاتها محسوبة علىٰ الإسلام ومحسوبة علىٰ العرب لأسباب كثيرة، بعد أن تفهم قبل أمس مطالب المحتجين والمتظاهرين الإيرانيين أعلن اليوم 19/ 11/ 2019م أن الحراك الجماهيري ليس حراكاً جماهيريًّا من أجل مطالب وإنما حسبما وصله من بيانات ومعلومات ووثائق هو مؤامرة خارجية. مثلما فعل قواد العرب تماماً. وينتصب السؤال الذي طرحه الإيرانيون مثلما طرحة العرب السابقون: هل أمريكا هي التي رفعت سعر البنزين الذي أشعل الشرارة الأخيرة؟ علماً أنَّ إيران أحد أبرز ثلاث دول منتجة للنفط في العالم!!! رفع سعر البنزين كان الشرارة الآن ولٰكنَّ قبل ذٰلكَ هل أمريكا وإسرائيل هي التي كمَّمت أفواه الإيرانيين وملأت السجون الإيرانية بالإيرانيين لأنهم يعترضون علىٰ سياسة السُّلطة؟!

وبالمثل أيضاً ما حدث في لبنان: هل أمريكا أو إسرائيل هي التي سرقت لبنان ونشرت فيه الفساد وملأت المعتقلات بالأبرياء من اللبنانيين ولن نتحدث عن غير اللبنانين؟ وهل أمريكا هي التي تزرع المخدرات لبنان وتنشرها في لبنان ودول الجوار؟

وهل أمريكا أو إسرائيل هي التي داست كرامة الجزائريين وأهانتهم بتنصيب بوتفليقة رئيساً عليهم وهو بحكم الميت سريريًّا ليحكم أربع سنوات لا ينطق فيها بكلمة ولا يتحرك فيها حركة وفوق ذٰلكَ يعاد ترشيحه للرئاسة بحالة أسوأ مما كان عليه في الدورة السابقة التي كانت الرابعة؟!!

وفي سوريا وثورة العراق عام 2013م تم اتهام الشَّعب الثَّائر كله بالخيانة والعمالة لأمريكا وإسرائيل لتبقى السُّلطة وحدها وحاشيتها هي الوطنيَّة!!

الطريف في الأمر، والشَّعب يعرف نفسه بطبيعة الحال، أنَّ الحقائق انكشفت بالأدلة والوثائق والبراهين والحقائق وتبيَّن أنَّ الحامي الحقيقي والأكبر لهذه الأنظمة هو إسرائيل وأمريكا، وأن هٰذه الأنظمة العربية هي الخادم المخلص الأمين لأمريكا وإسرائيل. أنَّ أمريكا وإسرائيل هي التي اخترقت هٰذه الثورات العربية من خلال أنظمة عربية أُخْرَىٰ لتحقيق أمريين:

أولها: إحباط الثورات العربية وإجهاضها.

ثانيها: المحافظة علىٰ الأنظمة الحاكمة بأشخاصها حَيْثُ لا بديل عن الأشخاص كما في سوريا مثلاً، وببنيتها حَيْثُ البنية تحل بديلاً عن الأشخاص كما في مصر مثلاً.

ثالثها: إعادة الجماهير العربية مرغمة إلىٰ حضن هٰذه الأنظمة بمختلف الطرق والوسائل الممكنة.

رابعها: الإسهام في تصوير هٰذه الثورات بأنها عميلة لإسرائيل كما حدث في سوريا علىٰ نحو الخصوص إذ بتعاون إسرائيل والنِّظام الأردني تم إجبار الجرحى السوريين علىٰ الذهاب إلىٰ إسرائيل، وبعضهم لا يعلم أين يذهب من أجل العلاج، ليذهب إليهم نتن يهاهو ويلتقط الصُّور المتلفزة ويتمَّ نشرها، ويتم القول بناء عليها أنَّ إسرائيل تتبنَّى الثوار وتعالجهم… ومثل هٰذا تقريباً تَمَّ مع الثَّورة العراقيَّة الأولى 2013م.

ولا نطيل في التفاصيل فكلها اليوم معروفة مشهورة بالكاد يجهلها متابع في صورها وأنواعها وشواهدها. ونتساءل مع المتسائلين:

ـ أيعقل أنَّ الأنظمة العربية لا تدرك أنَّها تمارس لعبة مكشوفة إلىٰ هٰذا الحد، وأنَّها تمارس غباءً مضحكاً كما كان وما زال يعلق الكثيرون ومنهم عنوان هٰذا المقال فيما يبدو؟

من الخطأ الظن أنَّها لا تدرك ذٰلكَ تمام الإدراك، ومن الخطأ تمام  الخطأ الظنُّ أنَّها كانت تمارس ذٰلكَ من دون وعي أو قصد. ولٰكنَّهَا في حقيقة الأمر لا حلَّ أمامها ولا بديل ولا حيلة غير ذٰلكَ، فهي ليست ديمقراطية، ولا نزيهة، ولا شرعية أصلاً… ولذٰلك لا تستطيع ترك السُّلطة لما في رقابها من ديون ومستحقات ستدفعها في حالها ترجلها عن السُّلطة. ودعك من مكاسب السُّلطة الشرعية ومفاتنها. أتحدث عن ديون من السِّرقة والفساد والإفساد والجرائم التي ارتكبتها هٰذه الأنظمة والتي ستدفعها بالضرورة فيما لو ترجلت عن السُّلطة كما دفع القذافي الثمن، أو بطرائق أُخْرَىٰ موازية. ولذٰلك لم يقبل أي رئيس أي ضمانات بعدم المحاسبة مقابل الرحيل.

وفي الوقت ذاته فإنَّ هٰذه الأنظمة تدرك أنَّها غالباً ما ستستفز الشَّعب الثَّائر والصامت من خلال هٰذه الممارسات وتسهم في إضرام نار الثَّورة والاحتجاجات أكثر وأكثر… ولٰكنَّهَا لا حل أمامها ولا حيلة لها إلا المضي في سياسة حافة الهاوية وعدم التراجع؛ فلسان حال الحاكم ومن معه يقول: ميت ميت فحاول أن تعيش ساعة زيادة. هم علىٰ يقين تامٍّ بأنَّ المشانق أو أشباهها تنتظرهم فيما لو تركوا السُّلطة حَتَّىٰ ولو هربوا في بعض الاحتمالات التي لا يمكن استبعادها.

بينما لو كنا في فرنسا مثلاً أو بريطانيا أو ألمانيا وخرجت المظاهرات الاحتجاجية بهٰذه الحجم الثَّورة فلن تجد أي من هٰذه الذرائع مستخدماً، ستماطل السُّلطة أو الرئيس قدر الإمكان ولٰكنَّ في النهاية سيقدِّم المسؤول المقصود الاستقالة شاء أم أبى… وتنتهي بؤرة الاحتجاج.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى