بحوث ودراسات

حرية العبد في اختياره الهدى والضلال

د. علي محمّد الصلابيّ

عرض مقالات الكاتب

إنّ الضلال و الهدى متضادان، حيث يُقال ضللت بعيري: إذا كان معقولاً فلم تهتد لمكانه، وضل عني: ضاع، وضللته: أنسيته، ويقال لكل عدول عن المنهج عمداً، أو سهواً، يسيراً كان أو كثيراً: ضلال، فإن الطريق المستقيم الذي هو المرتضى صعب جداً، وإضلال الله للإنسان على وجهين:

إحداهما: أن يكون سببه وهو أن يضل الإنسان فيحكم الله عليه بذلك في الدنيا، ويعدل به عن طريق الجنة إلى النار في الآخرة.

الثاني: من إضلال الله: وهو أن الله تعالى وضع جبلة الإنسان على هيئة إذا راعى طريقاً محموداً كان أو مذموماً ألفه واستطابه وتعسر عليه صرفه وانصرافه.

والمقصود بإضلال الله للعبد هو خذلانه وعدم توفيقه وإعانته وعدم خلق المشيئة المستلزمة للهداية. والله سبحانه وتعالى يجعل ذلك في عباده ويخلقه فيهم بأسباب تكون من قبلهم، فهم إذا سدوا على أنفسهم باب الهدى إرادة منهم واختياراً، سده عليهم اضطراراً، فخلاهم وما اختاروا لأنفسهم وولاهم ما تولوا، فيكون ذلك عقوبة لهم، كما يعاقبهم في الآخرة بدخولهم النار.

ومن رحمة الله بعباده، أن ما يفعله الله عز وجل من إضلال بعض عباده بالطبع والغشاوة والختم وغير ذلك، لا يفعله بالعبد لأول وهلة حين يأمره بالإيمان ويبينه له، وإنما يفعله به بعد تكرار الدعوة به سبحانه، والتأكيد في البيان والإرشاد وتكرار الإعراض منه، والمبالغة في الكفر والعناد، فحينئذ يطبع الله على قلوب هؤلاء العباد، ويختم عليهم، فلا يقبل الهدى بعد ذلك، والإعراض والكفر الأول لم يكن معه ختم وطبع، بل كان اختياراً، فلما تكرر منهم صار طبيعة وسجية. فتأمل هذا المعنى في قوله تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ  لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ” (البقرة : 6 ـ 7) .

ويقوم الإنسان بالأعمال وفقاً لإرادته الحرة وإختياره ورضاه، فالإنسان كائن عاقل مدرك مفكر، ويتميز عن غيره من المخلوقات بحرية الاختيار. قال تعالى: “أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ  إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء” (الحج : 18) .

فهذه الكائنات جميعها لا حرية لها ولا إختيار، بينما الإنسان الذي يعمل بمحض إرادته الحرة ومشيئته المختارة، قد يطيع وقد يعصي، وأكد القرآن أن الإنسان الذي تحمل الأمانة والتكليف زوده الله بقوى وملكات وإستعدادات لتحقيق تلك الخلافة ولأداء الأمانة، فخلق لديه الاستعداد للخير والشر، للتقوى والفجور، والهدى والضلال، ومنحه العقل الذي يميز به بين الحق والباطل، والخير والشر، ووهبه القدرة التي لا يمكن عن طريقها أن يحق الحق ويبطل الباطل، أن يأتي الخير ويدع الشر، وأنزل الله الكتب، وأرسل الرسل لهداية الإنسان وإرشاده لمنهج الحق والخير، وجعل في الإنسان قوة ذاتية واعية مدركة يمكن أن يستخدمها في تزكية النفس وتطهيرها، وتنمية إستعداد الخير فيها وتغليبه على إستعداد الشر، فيفلح الإنسان بهذا.

وقد يظلم هذه القوة ويغطيها ويضعفها فيخيب، قال تعالى: ” قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا” (الشمس : 9 ـ 10) .

وقد نطق القرآن الكريم، بإسناد الفعل إلى العبد في الكثير من آياته، مثل قوله تعالى: ” جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” (الأحقاف : 14) . قال تعالى: ” مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ” (فصلت : 46) . وقال تعالى: ” كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ” (المدثر : 38) .

وأثبت القرآن للعبد في غير ما آية منه في المشيئة الاختيار، فقال تعالى: ” إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا” (الإنسان : 3) . إن الإنسان حر، لقد زوده الله بالعقل والإرادة، يختار ما يراه من حق أو باطل، ويفعل ما يروق له من خير أو شر، فهو مزود بوسائل الإدراك، يدرك ما في الأشياء من قيم ويحكم عليها ويختار، وهو بالخيار أن يسلك طريق الحق والخير فيكون شاكراً، أو يعوج في طريقه فيجنح نحو الشر والباطل، فيكون كفوراً.

فالإنسان حر في دائرة أعماله الإختيارية والمرتبطة بالتكليف والمسئولية، وهذه الحرية يؤكدها ما يلي:

أ ـ واقع حياة الإنسان، الذي يشعر بالفرق الواضح بين الأعمال الإختيارية وبين الأعمال التي تقع عليه اضطراراً.

ب ـ كما يؤكدها العقل الذي يقضي بأن المسئولية والتكليف، لا بد أن تكون منوطة باستطاعة الإنسان على الفعل أو الترك لأن من لا يملك هذه الإستطاعة فلا يصح عقلاً أن تتوجه إليه المسئولية أصلاً.

ج ـ وإضافة إلى ذلك لو لم يكن الإنسان مختاراً، لما كان ثمة فرق بين المحسن والمسئ، إذ أن كلاً منهما مجبر على ما قاله، ولبطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا فائدة لهما، حيث أن الإنسان مسلوب الإرادة، ولما كان ثمة معنى لتكليف الله للعباد، لأن تكليفه إياهم مع سلب إختيارهم يتنافى مع العدل الإلهي الذي أثبته لنفسه، بل لو كان الإنسان مجبراً على أفعاله، لضاعت فائدة القوانين، ولبطل معنى الجزاء من الثواب والعقاب.

د ـ وقبل هذا كله، جاءت النصوص الشرعية تنسب العمل والإختيار إلى الإنسان، وما يكتسبه نتيجة لجهده، وثبت الجزاء بالجنة لمن أطاع، والنار لمن عصى. قال تعالى: ” وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوعَن كَثِيرٍ” (الشورى : 30) . وقال تعالى: ” ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ  أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ” (الروم : 41) . وقال تعالى: ” وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ” (الكهف : 29) . وقال تعالى: ” لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ” (التكوير : 28) .

ولكن هذه المشيئة الإنسانية محدودة مرتبطة بمشيئة الله المطلقة وتابعة لها، إذ أن الإنسان يعمل أعماله الإختيارية ويمارس حريته في العمل داخل دائرة صغرى تقع ضمن دائرة كبرى، هي نطاق النظام الكوني العام، إذ أن أعماله مهما كانت، وإختياره مهما كان خيراً أم شراً حقاً أم باطلاً، لن يخرج في أدائه الأخير عن السنن الكونية التي وضعها الله في الكون، وتقوم عليها قوانين الحياة البشرية ” لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ” (التكوير : 28 ـ 29) .

فمشيئة الله ليست منفصلة عن مشيئة الله تعالى، ولا مستقلة عنها، بل أن الله قد شاء للإنسان أن يختار أحد الطريقتين:  طريق الهداية وطريق الضلال، فإن إختار الطريق الأول، وفي نطاق المشيئة الإلهية، وإذا إختار الثاني ففي نطاقها أيضاً.

مراجع البحث:

  1. د. علي محمد محمد الصّلابيّ، الإيمان بالقدر، دار ابن كثير، بيروت، ص (126: 129).
  2. د. أحمد محمد جلي، العقيدة الإسلامية دار الكتاب الجامعي، العين، 2010م،  ص 363: 365.
  3. د. شريف الشيخ صالح أحمد الخطيب، السنن الإلهية في الحياة الإنسانية وأثر الإيمان بها في العقيدة والسلوك، الدار العثمانية، عمان. الأردن، الطبعة الأولى، 2004م، (1 / 100 – 101 – 102) .
  4. ابن القيم، شفاء العليل،  دار المعرفة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1398هـ/1978م،  ص 173 – 186 – 209.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى