دين ودنيا

الحلقة الخامسة عشر (15): صفات الرعيل الأول من المسلمين وانتشار الدَّعوة في بطون قريش

د. علي محمّد الصلابيّ

عرض مقالات الكاتب

كانت الفترة الأولى من عمر الدَّعوة تعتمد على السِّرِّيَّة، والفرديَّة، وكان التَّخطيط النَّبويُّ دقيقاً، ومنظَّماً، وسياسية محكماً، فما كان اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم لدار الأرقم لمجرَّد اجتماع المسلمين فيها لسماع نصائح، ومواعظ، وإرشادات؛ وإنَّما كانت مركزاً للقيادة، ومدرسةً للتَّعليم، والتَّربية، والإعداد، والتَّأهيل للدَّعوة، والقيادة، بالتَّربيَة الفرديَّة العميقة الهادئة، وتعهُّد بعض العناصر، والتَّركيز عليها تركيزاً خاصَّاً؛ لتأهيلها لأعباء الدَّعوة، والقيادة، فكأنَّ الرَّسول المربِّي صلى الله عليه وسلم  قد حدَّد لكلِّ فردٍ من هؤلاء عمله بدقَّةٍ، وتنظيمٍ حكيمٍ، فالكلُّ يعرف دوره المنوط به، والكلُّ يدرك طبيعـة الدَّعـوة، والمرحلة الَّتي تمرُّ بهـا، والكلُّ ملتزمٌ جانب الحيطة، والحذر، والسِّرِّيَّة والانضباط التَّامِّ .

كان بنـاء الجماعة المؤمنـة في الفترة المكِّيَّة يتمُّ بكلِّ هدوءٍ وتدرُّجٍ وسرِّيَّـةٍ، وكان شعار هذه المرحلة هو توجيه المولى – عزَّ وجلَّ – المتمثِّل في قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ﴾ ﴿تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾[الكهف: 28].

إنَّ الآية الكريمة تأمر النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم  بأن يصبر على تقصير، وأخطاء المستجيبين لدعوته، وأن يصبر على كثرة تساؤلاتهم، خاصَّةً إن كانت خطأً، وأن يصبر على تردُّدهم في قبول التَّوجيهات، وأن يجتهد في تصبيرهم على فتنة أعداء الدَّعوة، وأن يوضِّح لهم طبيعة طريق الدَّعوة، وأنَّها شاقَّةٌ، وألا يغرِّر به مغرِّرٌ ليبعده عنهم، وألا يسمع فيهم منتقِصاً، وألا يطيع فيهم متكبِّراً أغفل اللهُ قلبَه عن حقيقة الأمور، وجوهرها .

1. صفات الرعيل الأول من المسلمين:

إنَّ الآية الكريمة السَّابقة من سورة الكهف تصف لنا بعض صفات الجماعة المسلمة الأولى، والَّتي من أهمِّها:

أ- الصبر في قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ﴾

إنَّ كلمة الصَّبر تتردَّد في القرآن الكريم، وفي أحاديث النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ويوصي النَّاس بها بعضُهم بعضاً، وتبلغ أهمِّيَّتُها أن تصير صفةً من أربعٍ للفئة النَّاجية من الخسران، قال تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ *إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ *إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر] ؛ فحكم المولى – عزَّ وجلَّ – على جميع النَّاس بالخسران إلا من أتى بهذه الأمور الأربعة:

  • الإيمان بالله.
  • العمل الصَّالح.
  • التَّواصي بالحقِّ.
  • التَّواصي بالصَّبر.

لأنَّ نجاة الإنسان لا تكون إلا إذا أكمل الإنسان نفسه بالإيمان، والعمل الصالح، وأكمل غيره بالنُّصح، والإرشاد، فيكون قد جمع بين حقِّ الله، وحقِّ العباد، والتواصي بالصَّبر ضرورةٌ؛ لأنَّ القيام على الإيمان، والعمل الصَّالح، وحراسة الحقِّ، والعدل من أعسر ما يواجه الفرد، والجماعة، ولا بدَّ من الصَّبر على جهاد النَّفس، وجهاد الغير، والصَّبر على الأذى والمشقَّة، والصَّبر على تبجُّح الباطل، والصَّبر على طول الطَّريق، وبطء المراحل، وانطماس المعالم، وبُعْدِ النِّهاية .

ب- كثرة الدُّعاء والإلحاح على الله:

وهذا يظهر في قوله تعالى:؛ فالدُّعاء بابٌ ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾، فإذا فتح للعبد؛ تتابعت عليه الخيرات، وانهالت عليه البركات، فلا بدَّ من تربية الأفراد الَّذين يُعَدُّون لحمل الرِّسالة، وأداء الأمانة، على حسن الصِّلة بالله، وكثرة الدُّعاء؛ لأنَّ ذلك من أعظم، وأقوى عوامل النَّصر .

ج- الإخلاص:

ويظهر في قوله تعالى:؛ فلا بدَّ عند إعداد الأفراد إعداداً ربَّانيّاً أن يتربَّى ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ على أن تكون أقواله، وأعماله، وجهاده كلُّه، لوجه الله، وابتغاء مرضاته، وحسن مثوبته من غير نظرٍ إلى مغنمٍ، أو جاهٍ، أو لقبٍ، أو تقدُّمٍ، أو تأخر، وحتَّى يصبح جنديّاً من أجل العقيدة والمنهج الرَّبانيِّ، ولسان حاله قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162 – 163] .

إنَّ الإخلاص ركنٌ من أركان قبول العمل، ومعلومٌ: أنَّ العمل عند الله لا يُقبل إلا بالإخلاص، وتصحيح النِّيَّة، وبموافقة السُّنَّة، والشَّرع.

د- الثَّبات:

ويظهر في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الكهف: 28].

وهذا الثبات المذكور فرعٌ عن ثباتٍ أعمَّ ينبغي أن يتَّسم به الدَّاعية الرَّبانيُّ، قال تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ﴾ [الأحزاب: 23].

ففي الآيات الكريمة ثلاث صفاتٍ: إيمانٌ، ورجولةٌ، وصدقٌ. وهذه العناصر مهمَّةٌ للثَّبات على المنهج الحقِّ؛ لأنَّ الإيمان يبعث على التمسُّك بالقيم الرَّفيعة، والتشبُّث بها، ويبعث على التَّضحيـة بالنَّفس؛ ليبقى المبدأ الرَّفيع. والرُّجولة محرِّكةٌ للنَّفس نحو هذا الهدف، غير مهتمةٍ بالصَّغائر، والصَّغار، وإنَّما دائماً دافعةٌ نحو الهدف الأسمى، والمبدأ الرَّفيع. والصِّدق يحول دون التحوُّل، أو التغيير، أو التبديل، ومن ثَمَّ يورث هذا كلُّه الثبات الذي لا يتلوَّن معه الإنسان، وإن رأى شعاع السَّيف على رقبته، أو رأى حبل المشنقة ينتظره، أو رأى دنيا يصيبها، أو امرأةً ينكحها.

ولا شكَّ أنَّ اللَّبنات الَّتي تعدُّ لحمل الدَّعوة، وإقامة الدَّولة، وصناعة الحضارة، تحتاج إلى الثَّبات الَّذي يعين على تحقيق الأهداف السَّامية، والغايات الجميلة، والقيم الرَّفيعة، فهذه من أهمِّ الصِّفات الَّتي اتصفت بها الجماعة المؤمنة الأولى.

2. انتشار الدَّعوة في بطون قريش، وعالميَّتها:

كان انتشار الإسلام في المرحلة السِّرِّيَّة، في سائر فروع قريش بصورةٍ متوازنةٍ ، دون أن يكون ثقلٌ كبيرٌ لأيِّ قبيلة، وهذه الظاهرة مخالفةٌ لطبيعـة الحياة القبليَّة آنذاك. وهي إذا أفقدت الإسلام الاستفادة الكاملة من التكوين القبليِّ، والعصبية لحماية الدَّعوة الجديدة، ونشرها، فإنَّها في الوقت نفسه لم تؤلِّب عليه العشائر الأخرى؛ بحجَّة: أنَّ الدَّعوة تحقِّق مصالح العشيرة الَّتي انتمت إليها، وتعلي من قدرها على حساب العشائر الأخرى، ولعلَّ هذا الانفتاح المتوازن على الجميع أعان على انتشار الإسلام في العشائر القرشيَّة العديدة دون تحفُّظاتٍ متَّصلةٍ بالعصبيَّة.

فأبو بكر الصِّدِّيق من «تَيْم»، وعثمان بن عفان من «بني أميَّة»، والزُّبير بن العوَّام من «بني أسد»، ومصعب بن عمير من «بني عبد الدَّار»، وعليُّ بن أبي طالب من «بني هاشم»، وعبد الرَّحمن بن عوف من «بني زُهرة»، وسعيد بن زيد من «بني عَدِيّ»، وعثمان بن مظعون من «بني جُمَح»؛ بل إنَّ عدداً من المسلمين في هذه المرحلة لم يكونوا من قريش؛ فعبد الله بن مسعودٍ من هُذَيل، وعتبة بن غزوان من مازنٍ، وعبد الله بن قيس من الأشعريين، وعمَّار بن ياسر من عنس من مَذْحِج، وزيد بن حارثة من كلب، والطُّفيل بن عمرو من دَوْسٍ، وعمرو بن عبسة من سليم، وصهيب النَّمَري من بني النَّمِر بن قاسِط. لقد كان واضحاً: أنَّ الإسلام لم يكن خاصّاً بمكَّة .

لقد شقَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم  طريقه بكلِّ تخطيطٍ ودقَّـةٍ، وأخذ بالأسبـاب مع التوكُّل على الله تعالى؛ فاهتمَّ بالتَّربية العميقة، والتَّكوين الدَّقيق، والتَّعليم الواسع، والاحتياط الأمني، والانسياب الطَّبيعي في المجتمع، والإعداد الشَّامل للمرحلة التي بعد السِّرِّيَّة؛ لأنَّه – عليه الصَّلاة والسَّلام – يعلم: أنَّ الدَّعوة إلى الله لم تنزل لتكون دعوةً سرِّيَّةً، يخاطب بها الفرد بعد الفرد، بل نزلت لإقامة الحجَّة على العالمين، وإنقاذ من شاء الله إنقاذه من النَّاس، من ظلمات الشِّركِ، والجاهليَّة إلى نور الإسلام والتَّوحيد، ولذلك كشف الله تعالى عن حقيقة هذه الدَّعوة، وميدانها، منذ خطواتها الأولى؛ حيث إنَّ القرآن المكيَّ بيَّن شمول الدَّعوة، وعالميتها:

قال تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ﴾ [ص: 87] .

وقال تعالى: ﴿وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ﴾ [القلم: 52] .

إنَّ الدَّعوة جاءت لتخاطب البشر، كلَّ البشر، ولتنقذ منهم من سبقت له من الله الحسنى، وهذا يعني: أنَّ الدَّعوة جاءت ومن خصائصها الإعلان، والصَّدع، والبلاغ، والبيان، والإنذار، وتَحمُّل ما يترتَّب على هذا من التَّكذيب، والإيذاء، والقتل.

إن استسرار النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  في دعوته أوَّل الأمر إنَّما هو حالٌ استثنائيٌّ لظروفٍ وملابساتٍ خاصَّة، وهي ظروف بداية الدَّعوة، وضعفها، وغربتها، وينبغي أن يُفهم ضمن هذا الإطار.

وإن كان الكتمان والاستسرار سياسةً مصلحيَّةً في كثيرٍ من أمور الإسلام في الحرب، والسَّلام؛ فهو كذلك في موضوع الدَّعوة؛ فالاستسرار بها كان لضرورة فرضها الواقع، وإلا فالأصل هو بيان دين الله، وشرعه، وحكمه لكلِّ النَّاس، أمَّا الاستسرار بما سوى ذلك من الوسائل، والخطط، والتَّفصيلات؛ فهو أمرٌ مصلحيٌّ خاضعٌ للنَّظر، والاجتهاد البشريِّ؛ إذ لا يترتَّب عليه كتمانٌ للدِّين، ولا سكوتٌ عن حقٍّ، ولا يتعلَّق به بيانٌ، ولا بلاغٌ، ومن ذلك – مثلاً – معرفة عدد الأتباع المؤمنين بالدَّعوة، فهـذا أمـرٌ مصلحيٌّ لا يخلُّ بقضية البلاغ، والنذارة، الَّتي نزلت الكتب، وبعثت الرُّسل من أجلها، فيمكن أن يظلَّ سرّاً متى كانت المصلحة في ذلك، مع القيام بأمر الدَّعوة، والتبليغ، ولهذا فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم  حتَّى بعد أن صدع بدعوته، وأنذر النَّاس، وأعلن النُّبوَّة ظلَّ يخفي أشياء كثيرةً لا تؤثِّر على مهمة البلاغ والبيان، كعدد أتباعه، وأين يجتمع بهم، وما هي الخطط الَّتي يتَّخذونها إزاء الكيد الجاهليِّ .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى