بحوث ودراسات

بطلان نظريَّة “الإمامة” ووريثتها “ولاية الفقيه” في ضوء “تطوُّر الفكر السياسي الشيعي” 6 من 7

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

يؤكِّد الكاتب أنَّ افتراض أنَّ أئمة آل البيت النبوي اثنا عشر إمامًا جاء في وقت متأخِّر بعد وفاة الحسن العسكري، خاصَّة وأنَّ خطاب الأئمة الأوائل نصَّ على دوام الإمامة إلى قيام السَّاعة، كما أشار الكاتب في الجزء الأوَّل (ص63). ويضيف الكاتب أنَّ غموض شخصيَّة المهدي يثبته وجود أكثر مهدي مفترض لكل فرقة من فرق الشِّيعة. يستعرض الكاتب ما قيل عن مهدويَّة العديد من أئمة آل البيت، بدءً بأمير المؤمنين عليٍّ بن أبي طالب ذاته، ومرورًا بالصَّادق والكاظم وذي النَّفس الزكيَّة، وختامًا بالحسن العسكري ذاته، ثمَّ ابنه المزعوم. من هنا، يستنتج الكاتب (ص92):

يتَّضح من هذا الاستنتاج للكاتب اعتقاده بأنَّ شخصيَّة المهدي القائم في سرداب سامرَّاء، محمَّد بن الحسن العسكري، مجرَّد فرضيَّة فلسفيَّة خلقتها حاجة أتباع الشِّيعة الإماميَّة إلى زعيم يلتفُّون حوله، يمتلك مواصفات تفوق ما يستوعبه العقل البشري، مما أغراه بالقول بأنَّ بن الحسن العسكري ما هو إلَّا “فرضيَّة اجتهاديَّة ظنيَّة سريَّة”، ساعد انتشار الفِكر الباطني بين معتنقي عقيدة الشِّيعة على نشأته واستمراريَّة تصديقه (ص155). ويؤكِّد الكاتب في قسم مفصَّل في دراسته على ارتباط حركات المهدويَّة، التي تزيد على عشرين حركةً، في ظهور بالفرق الباطنيَّة المغالية، وعلى رأسها السبئيَّة، التي جعلت من عليٍّ بن أبي طالب ذاته إلهًا، وادَّعت فناء الإله في شخصه. يرى الكاتب أنَّ التفسير الباطني للآيات القرآنيَّة والأحاديث النبويَّة كان وسيلة الفرق المغالية في إقناع العامَّة بمزاعمها، واختلاق أكاذيب عن الأحداث، مثل ادِّعاء غيبة الأئمة المشهود بموتهم، وافتراض تمتُّع بعض الأئمة بصفات خارقة لا يستقيم أن يتمتَّع بها بنو البشر، وفي ذلك يقول الكاتب (ص158):

ويتَّهم الكاتب أصحا الفِكر الباطني باختلاق أكاذيب غيَّرت مسار الإماميَّة، وزرعت بها شبهات أسهمت في تضليل الكثيرين، معتبرً أنَّ الادِّعاء بإخفاء الحقائق تحت مُسمَّى التقيَّة كان أهم وسائل إحكام الكذب (ص158-159):

لا ينكر الكاتب رفض مشايخ الطائفة، مثل الطُّوسي والصدُّوق والنعماني والمفيد والمرتضى، المنهج الباطني المعترف به لدى غلاة الشِّيعة، ممن لا يؤمنون بغيبة مَن مات من الأئمة، لما في تلك الأفكار من مخالفة للظاهر. مع ذلك، فالكاتب يرى أنَّ بتصديق مشايخ الطائفة لفكرة غيبة الإمام الثاني عشر، ووجوده بلا بيِّنة ودليل واضح يثبت ما روي عنه، فهم يؤمنون بذلك بنفس الفكر الباطني الذي يعيبونه على غيرهم، خاصَّة وأنَّهم يدَّعون، مثل غلاة الشِّيعة، أنَّ إنكار وجود ابن للحسن العسكري كان من باب الخوف والتقيَّة. ويشير الكاتب إلى أنَّ الروايات المرتبطة بميلاد محمَّد بن الحسن العسكري تعكس نفس الفكر الباطني لغلاة الشِّيعة، حيث “تتضمن معاني الغلو الفاحشة والعلم بالغيب وما إلى ذلك، من مقولات الغلاة المتطرفين” (ص159). ويضرب الكاتب المثل في ذلك بالحركة النميريَّة، وهي حركة مغالية نشأت لإظهار الولاية للإمام عليٍّ الهادي بن محمَّد الجوَّاد، وادَّعى زعيمها، محمد بن نصير النميري، عن الهادي الألوهيَّة، وادَّعى لنفسه النبوّة، واعتبر نفسه الباب، أو النائب عن الإمام الغائب. يُذكر أنَّ النميري هذا كان من أشهر المروِّجين لفكرة وجود ابن للحسن العسكري. ويشير الكاتب إلى فريق آخر من غلاة الشِّيعة الإماميَّة (ص159):

وقد ذكر الأشعري في الفرق والمقالات أنَّ فئة الباطنيين من الشِّيعة اتَّخذوا من التشيُّع تقيَّةً لإخفاء اعتناقهم المجوسيَّة؛ فزعموا فيما بينهم أنَّ سلمان الفارسي هو الإله ذاته، متجسِّدًا في صورة رجل، وأنَّ النبيَّ مُحمَّدًا (ﷺ) كان داعيًا إليه (ص62). وأشار الأشعري في الكتاب ذاته إلى فرقة أخرى من الغلاة، هي المفوِّضة، وهي التي آمنت بأنَّ الله تعلى قد أقام شخصًا واحدًا خوَّله بتدبير شؤون الخَلْق، وهو النبيُّ مُحمَّدٌ (ﷺ) والإمام عليٌّ وفاطمة والحسن والحسين معًا، ومعه سائر الأئمة، وكأنَّما الرُّوح تتناسخ. ومن منطلق هذه العقيدة، افترض الشِّيعة من هذه الفرقة أنَّ للحسن العسكري ابن يباشر مهمَّة أسلافه في تدبير شؤون النَّاس. يُذكر أنَّ باقي أتباع الإماميَّة لم يؤمنوا بهذا الغلو، الذي وصلت إليه فرقة المفوِّضة، فاحتكموا إلى نائب الإمام الغائب، محمَّد بن عثمان العمري، الذي أخرج لهم رسالة من الإمام تنفي مزاعم المفوِّضة، لكنَّ الرسالة ذكرت عن “تدخل الأئمة في السؤال من الله أن يخلق فيخلق، أو يرزق فيرزق”، كما يشير الكاتب (ص161)، نقلًا عن الطُّوسي في الغيبة (ص178). ويرى الكاتب أنَّ في هذا التعليق في الرسالة المنسوبة إلى المهدي إقرارًا من الشِّيعة الإماميَّة بتدخُّل الأئمة في تسيير الكون، ما يعتبره تفويضًا غير كامل.

وعن دور الإعلام في ترسيخ عقيدة المهدويَّة وتحويلها إلى حقيقة، رغم ما يعتريها من ضعف ويرتبط بها من خرافات، يقول الكاتب (ص167):

تحليل الفكر السياسي الشِّيعي خلال مرحلة الغيبة والانتظار

يشير الكاتب في الجزء الثالث من كتابه إلى تأثُّر الفِكر السياسي الشِّيعي بنظريَّة وجود المهدي بن الحسن العسكري، في سرداب سامرَّاء، وترقُّب خروجه عند اكتمال الأسباب. وفق نظريَّة المهدي المنتظر، لا يمكن لأتباع الشِّيعة الإماميَّة الاثني عشريَّة انتخاب إمام من دونه؛ لأنَّه لن يكون معصومًا ولا مُلهمًا ولا صاحب معاجز، مثل المنتظر. ومن أهم نتائج الإيمان بتلك النظريَّة، تحريم الثورة وإقامة الدولة، وتعطيل جباية الزكاة والخُمس المخصص لآل بيت النبيِّ (ﷺ)، والذي اعتادوا جبايته تأويلًا منهم للآية 41 من سورة الأنفال “وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ”، رغم أنَّ الآية يقول باقيها “وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ”. وامتدَّ التعطيل إلى صلاة الجمعة، والعمل وفق نظريَّة ولاية الفقيه، والسبب، كما يذكره الكاتب أنَّها “تفتقد إلى شروط الإمامة، من العصمة، والنَّص، والسلالة العلويَّة الحسينيَّة” (ص168).

ترتَّب على الإيمان بهذه العقيدة إيقاف العمل السياسي، وعدم تنظيم أيِّ حركة ثوريَّة، واقتصر الالتزام بذلك على أتباع الإماميَّة الاثني عشريَّة. فقد عمل أتباع الفرقتين، الزيديَّة والإسماعيليَّة، على تأسيس دول لهما في اليمن وشمال إفريقيا وطبرستان، كما يشير الكاتب بمزيد من التفاصيل في الجزء الأول من الكتاب، الصادر بعنوان تطوُّر الفكر الشِّيعي عام 1998، (ص271). وقد ظهرت كذلك الفرقة البويهيَّة الشِّيعيَّة في القرن الرابع الهجري، وسيطرت على الدولة العبَّاسيَّة، لكنَّ هذا لم يثنِ أتباع الإماميَّة الاثني عشريَّة عن الالتزام باعتزال السياسة لحين خروج الإمام.

وكان محمَّد بن أبي زينب النعامي من أشدِّ مشايخ الطائفة الإماميَّة تعنُّتًا في مواجهة مسألة دخول أتباع الطائفة في عمل سياسي يسبق ظهور الإمام. وقد نُسب إليه في كتابه الغيبة قوله “إنَّ أمر الوصيَّة والإمامة بعهد من الله تعالى وباختياره، لا من خَلقه ولا باختيارهم، فمَن اختيار غير مختار الله وخالف أمر الله سبحانه وتعالى، وَرَد مورد الظالمين الحالِّين في ناره” (ص57). واستند النعماني إلى عدد من الأقوال المنسوبة إلى الإمام محمَّد الباقر، وردت في الغيبة للطُّوسي (ص201)، ووردت في كتاب الكاتب (ص272):

واعتبر النعماني مَن خرج عن التقيَّة، وبايع إمامًا غير المهدي ليس من أتباع الفرقة الإماميَّة الاثني عشريَّة، واستشهد كذلك بقول نسبه إلى جعفر الصَّادق، يقول “مَن مات منكم على هذا الأمر منتظرًا كان كمَن في فسطاط القائم”، كما جاء في الغيبة (ص357). واحتجَّ النعماني بقوله تعالى في الآية 93 من سورة هود “وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ”، والآية 71 من سورة الأعراف “فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ”. ويتَّفق الصدُّوق مع هذا الاعتقاد، في كتاب الاعتقادات، حيث قال “لا قائم غير المهديِّ، وإن طالت الغيبة بعمر الدنيا، لأنَّ النبيَّ أشار إلى اسمه وبشَّر به”، واعتبر الصدُّوق، بناءً على ذلك، أنَّ الالتزام بالتقيَّة كان واجبًا، وأنَّ تركها غير جائز، وهو نفس ما قاله في كتابه الهداية (ص47)، حيث جاء فيه “التقيَّة فريضة واجبة علينا في دولة الظَّالمين، فمن تركها فقد خالف دين الإماميَّة وفارقه”، ويستشهد في ذلك بقول الإمام الصَّادق “خالطوا النَّاس بالبرَّانيَّة، وخالفوهم بالجوَّانيَّة، ما دامت الإمارة صبيانيَّة”. يؤكِّد الصدُّوق على عدم جواز ترك أتباع الإماميَّة الاثني عشريَّة للتقيَّة. ولم يتوقَّف الأمر عند حد الانتظار، بل امتدَّ إلى استبعاد الاعتماد على الشُّورى في تعيين الإمام المهدي. فقد قال الحلِّي في كتابه الألفين، أنَّ اختيار الإمام هو لله تعالى، ولا يمكن للبشر التدخُّل في مثل ذلك اختيار، مستندًا إلى الآية 36 من سورة الأحزاب “وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا”، ومعتبرًا أنَّ فتح باب اختيار إمام سيسفر عن أزمة وصراع بين الأمم، وكأنَّه باب فتنة لن تهدأ.

يشير الكاتب في الجزء الثاني من مؤلَّفه الضخم، إلى أنَّ حياة الشِّيعة الإماميَّة في ظلِّ الدولة البويهيَّة في القرنين الرابع والخامس للهجرة، لم تؤثِّر على إيمانهم بعقيدة الانتظار، وبقوا على تمسُّكهم بمقاطعة الحياة السياسيَّة. غير أنَّ الأمر تبدَّل في القرن العاشر الهجري، حينما نشأت الدولة الصفويَّة، واحتاج إلى سَنَد شرعي يدعمها، وحينها خرج الشيخ على الكركي بنظريَّة “نيابة الفقهاء العامَّة عن الإمام الغائب”. ومع ذلك، اعتبرت الفرقة الإماميَّة المتمسِّكة بعدم جواز الخروج على التقيَّة، في نظريَّة النيابة تلك “انقلابًا على أسس النظريَّة الإماميَّة”؛ لأنَّ في ذلك استلابًا لمكانة الإمام المعصوم، على يد شخص عاديٍّ لا يتمتَّع بالمقوِّمات الخارقة للعادة، المرتبطة بالإمام الغائب (ص171).

تطرَّق الكاتب إلى مسألة هامَّة تتعلَّق بمسألة الخُمس والأنفال في عصر الغيبة والانتظار؛ كون هذه المسألة لا تخصُّ إلَّا المهدي وحده، وهو الوحيد المخوَّل باستلامها وتوزيعها. وفي ظلِّ غيبة المهدي وعدم وجود نصٍّ يشير إلى كيفيَّة التصرُّف في ذلك الأمر، نشأ خلاف بين أهل الرأي من مشايخ الطائفة، مما أسفر عن حالة من الغموض والحيرة. وكما يروي الكاتب، ظهر رأي ينصح بدفن الخُمس، أو التخلُّص منه بأي طريقة لعدم جواز استحلاله للنفس، بينما ظهر رأي ينصح بالاستفادة من الخُمس واستحلاله في ظلِّ غيبة صاحبه، وفق ما ورد في كتاب جواهر الكلام، لمحمَّد الحسن النجفي. وتسبب الإيمان بغيبة المهدي القائم في تحريم إقامة صلاة الجمعة، التي يشترط إقامتها وجود الإمام العادل، وإذنه، ولم يزل هذا الرأي قائمًا لدى بعض فقهاء الشِّيعة إلى اليوم، كما يُخبر الكاتب (ص175):

كان الاجتهاد في الردِّ على المسائل الملحَّة من بين الأمور الواجب تعطيلها، بموجب نظريَّة الغيبة والانتظار، لكنَّ طول زمن الغيبة، و “انقطاع الاتصال بـ ’’ مصدر العلم الإلهي ‘‘”، دفع بعض فقهاء الشِّيعة إلى التراجُع عن ذلك الاتجاه، والإفتاء بجواز فتح باب القياس، وكان الحسن بن عقيل العماني أوَّل من طبَّق الاجتهاد في القرن الرابع الهجري، ثمَّ لحقه المفيد في القرن الخامس، بتأسيسه مدرسة أصوليَّة دأبت على الاجتهاد، مستعينًا بتلميذيه الطُّوسي والمرتضى (ص175-176). ويعتبر الكاتب أنَّ من أهم تبعات فتح باب الاجتهاد تطوير نظريَّة أو فرضيَّة مارست تأثيرًا كبيرًا على الفكر السياسي للشِّيعة الإماميَّة، وهي “فرضيَّة النيابة الواقعيَّة للفقهاء عن الإمام المهدي”. وتكمن أهميَّة هذه الفرضيَّة في إتاحة التحرُّر من شرط العصمة والنصِّ في الإمامة، مما استتبع التخلِّي عن الالتزام بالتقيَّة والانتظار، وفتح المجال أمام نظريَّة ولاية الفقي (ص176). بموجب النيابة العامَّة عن الإمام، يمكن للولي الفقيه الإفتاء بوجوب الثورة، أو الاقتتال، إذا ما لزم الأمر؛ وبموجب هذه النيابة، أصبح للولي الفقيه الحق في استلام الخُمس والأنفال، والتصرُّف فيها لحين خروج الإمام؛ وبموجب نفس الفرضيَّة، وجد الفقهاء مخرجًا لإباحة إقامة صلاة الجُمعة، دون إذن من الإمام الغائب، وكان الفقيه الشِّيعي زين الدين بن علي الجبعي العاملي، المعروف بـ ‘‘الشَّهيد الثَّاني’’، من أهم الدَّاعين إلى إقامة صلاة الجُمعة، والمفتين بوجوبها، ما اعتبره الكاتب “خطوة كبيرة نحو الأمام في سبيل التحرُّر من نظريَّة ‘‘الانتظار ’’”، وقد أسهمت تلك الخطوة في الحض على إقامة صلاة الجُمعة في إيران، منذ تأسيس الجمهوريَّة الإسلاميَّة عام 1979 ميلاديًّا (ص181).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى