دين ودنيا

الحلقة الحادية عشر (11): بداية الدعوة السرية للنبي صلى الله عليه وإسلام أهل بيته

د. علي محمّد الصلابيّ

عرض مقالات الكاتب

عرف النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم معرفة اليقين أنَّه أصبح نبياً لله الرَّحيم الكريم، وجاءه جبريل عليه السلام للمرَّة الثَّانية، وأنزل الله على نبيِّه قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ *قُمْ فَأَنْذِرْ *وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ *وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر:1 – 4].

كانت هذه الآيات المتتابعة إيذاناً للرَّسول صلى الله عليه وسلم بأنَّ الماضي قد انتهى بمنامه، وهدوئه، وأنَّه أمامه عملٌ عظيمٌ، يستدعي اليقظة، والتَّشْمير، والإنذار، والإعذار، فليحمل الرِّسالة، وليوجِّه الناس، وليأنس بالوحي، وليقوَ على عنائه؛ فإنَّه مصدر رسالته، ومدد دعوته.

وتعدُّ هذه الآيات أوَّل أمرٍ بتبليغ الدَّعوة، والقيام بالتَّبعة، وقد أشارت هذه الآيات إلى أمور هي خلاصة الدَّعوة المحمَّدية، والحقائق الإسلاميَّة؛ الَّتي بُني عليها الإسلام كلُّه، وهي: الوحدانيَّة، والإيمان باليوم الآخر، وتطهير النُّفوس، ودفع الفساد عن الجماعة، وجلب النَّفع .

كانت هذه الآيات تهييجاً لعزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لينهض بعبء ما كُلِّفه من تبليغ رسالات ربِّه، فيمضي قُدُماً بدعوته، لا يبالي العقبات، والحواجز. كان هذا النِّداء مُتلطِّفاً إيذاناً بشحذ ﴿يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ﴾، وتوديعاً لأوقات النَّوم، والرَّاحة، وجاء عقب هذا النداء الأمر الجازم بالنُّهوض في عزيمةٍ ﴿قُمْ﴾، وقوَّةٍ حازمةٍ، تتحرَّك في اتجاه تحقيق واجب التَّبليغ، وفي مجيء الأمر بالإنذار منفرداً عن التَّبشير. في أوَّل خطابٍ وُجِّه إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  بعد فترة الوحي – إيذانٌ بأنَّ رسالته تعتمد على الكفاح الصَّبور، والجهاد المرير، ثمَّ زادت الآيات في تقوية عزيمة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وشدِّ أزره، وحَضِّه على المضيّ قُدُماً إلى غاية ما أُمر به، غير عابئ بما يعترض طريقه من عقبات، مهما يكن شأنها، فقيل له: أي: لا تعظم شيئاً من أمور الخلق، ولا يتعاظمك منهم شيءٌ، فلا تتهيَّب فعلاً من أفعالهم، ولا تخشَ أحداً منهم، ولا تعظِّم إلا ربَّك، الَّذي تعهَّدك وأنت في أصلاب الاباء، وأرحام الأمَّهات، فربَّاك على موائد فضله، ورعاك بإحسانه وجوده حتَّى أخرجك للنَّاس نبياً، ورسولاً، بعد أن أعدَّك خلْقاً وخُلُقاً؛ لتحمل أمانة أعظم رسالاته : فكلُّ تعظيمٍ وتكبيرٍ وإجلال حقٌّ لله تعالى ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ﴾، لا يشاركه فيه أحد، أو شيءٌ من مخلوقاته .

وفي قوله تعالى: فكأنَّه قيل له ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ : فأنت على طهرك وتطهُّرك بفطرتك في كمال إنسانيَّتك، بما جبلك الله عليه من أكرم مكارم الأخلاق، وبما حباك به من نبوَّته؛ ليعدَّك بها ليومك هذا – أحوج إلى أن تزداد في تطهُّرك النَّفسيِّ، فتزداد من المكارم في حياتك مع الناس والأشياء، فأنت اليوم رسول الله إلى العالمين، وكمال الرِّسالة في كمال الخُلق الاجتماعيِّ؛ صبراً، وحلماً، وعفواً، وإحساناً، ودأباً على الجدِّ في تبليغ الدَّعوة إلى الله تعالى، ولا يثنيك إيذاءٌ ولا يقعدك عن المضي إلى غايتك فادح البلاء .

وفي قوله تعالى: فكأنَّه قيل له ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴾ : ليكن قصدك، ونيَّتك في تركك ما تركت فطرةً، وطبعاً؛ هجره تكليفاً، وتعبُّداً؛ لتكون قدوة أمَّتك، وعنوان تطهُّرها بهداية رسالتك .

بعد نزول آيات المدثر، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم  يدعو إلى الله، وإلى الإسلام سراً، وكان طبيعياً أن يبدأ بأهل بيته، وأصدقائه، وأقرب النَّاس إليه.

1. إسلام السَّيدة خديجة رضي الله عنها:

كان أوَّل من آمن بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  من النِّساء، بل أوَّل من آمن به على الإطلاق، السَّيدة خديجة رضي الله عنها، فكانت أوَّل من استمع إلى الوحي الإلهي من فم الرَّسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وكانت أوَّل من تلا القرآن بعد أن سمعته من صوت الرَّسول العظيم صلى الله عليه وسلم، وكانت كذلك أوَّل من تعلَّم الصَّلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبيتُها هو أوَّل مكان تُلي فيه أوَّل وحيٍ نزل به جبريل على قلب المصطفى الكريم بعد غار حراء .

كان أوَّل شيءٍ فرضه الله من الشرائع بعد الإقرار بالتَّوحيد، إقامة الصَّلاة، وقد جاء في الأخبار حديث تعليم الرَّسول صلى الله عليه وسلم  زوجه خديجة الوضوء، والصَّلاة، حين افتُرضت على رسول الله: أتاه جبريل وهو بأعلى مكَّة، فهمز له بعَقبهِ في ناحية الوادي، فانفجرت منه عينٌ، فتوضَّأ جبريلُ عليه السلام، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم  ينظر ليُرِيَه كيفية الطُّهور للصَّلاة، ثمَّ توضَّأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم  كما رأى جبريل توضَّأ، ثمَّ قام جبريل عليه السلام فصلَّى به، وصلَّى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم  بصلاته، ثمَّ انصرف جبريل عليه السلام، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم  خديجة رضي الله عنها، فتوضَّأ لها يريها كيف الطُّهور للصَّلاة، كما أراه جبريل عليه السلام، فتوضَّأت كما توضَّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ صلَّى بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، كما صلَّى به جبريل عليه السلام، فصلَّت بصلاته. [ابن هشام (1/260 – 261)] .

2. إسلام عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه:

وبعد إيمان السَّيدة خديجة، دخل عليُّ بن أبي طالب في الإسلام، وكان أوَّل من آمن من الصِّبيان، وكانت سنه إذ ذاك عشر سنين على أرجح الأقوال، وهو قول الطَّبريِّ، وابن إسحاق، وقد أنعم الله عليه بأن جعله يتربَّى في حجر رسوله صلى الله عليه وسلم  قبل الإسلام، حيث أخذه من عمِّه أبي طالب وضمَّه إليه، وكان عليٌّ رضي الله عنه ثالث من أقام الصَّلاة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد خديجة رضي الله عنها .

وقد ذكر بعض أهل العلم: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم  كان إذا حضرت الصَّلاة؛ خرج إلى شعاب مكَّة، وخرج معه عليُّ بن أبي طالبٍ مستخفياً من أبيه، ومن جميع أعمامه، وسائر قومه، فيصلِّيان الصَّلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا ليضمَّهما ذلك البيت الطَّاهر التَّقيُّ بالإيمان، المفعم بصدق الوفاء، وكرم الْمَنْبِتِ .

3. إسلام زيد بن حارثة رضي الله عنه:

هو أوَّل من آمن بالدَّعوة من الموالي، حِبُّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومولاه، ومُتَبنَّاه: زيد ابن حارثة الكلبيُّ، الَّذي آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم  على والده، وأهله؛ عندما جاؤوا إلى مكَّة لشرائه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم  الأمر لزيدٍ، فقال زيدٌ لرسول الله: ما أنا بالذي أختار عليك أحداً، وأنت منِّي بمنزلة الأب، والعمِّ، فقال له والده، وعمُّه: ويحك! تختار العبوديَّة على الحرِّيَّة، وعلى أبيك، وعمِّك، وأهل بيتك! قال: نعم! وإنِّي رأيت من هذا الرَّجل شيئاً ما أنا بالَّذي أختار عليه أحداً أبداً .

4. إسلام بنات النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم :

وكذلك سارع إلى الإسلام بنات النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، كلٌّ من: زينب، وأمِّ كلثوم، وفاطمة، ورقيَّة، فقد تأثَّرْنَ قبل البعثة بوالدهنَّ صلى الله عليه وسلم  في الاستقامة، وحسن السِّيرة، والتَّنزُّه عمَّا كان يفعله أهل الجاهليَّة، من عبادة الأصنام، والوقوع في الآثام، وقد تأثَّرن بوالدتهنَّ؛ فأسرعن إلى الإيمان . وبذلك أصبح بيت النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  أوَّل أسرةٍ مؤمنةٍ بالله تعالى، منقادةٍ لشرعه في الإسلام، ولهذا البيت النَّبويِّ الأوَّل مكانةٌ عظمى في تاريخ الدَّعوة الإسلاميَّة؛ لما حباه الله به من مزايا، وخصَّه بشرف الأسبقية في الإيمان، وتلاوة القرآن، وإقام الصَّلاة؛ فهو:

  • أوَّل مكانٍ تلي فيه وحي السَّماء بعد غار حراء.
  • وأوَّل بيتٍ ضمَّ المؤمنة الأولى سابقة السَّبق إلى الإسلام.
  • وأوَّل بيت أقيمت فيه الصَّلاة.
  • وأول بيت اجتمع فيه المؤمنون الثَّلاثة السَّابقون إلى الإسلام: خديجة، وعليٌّ، وزيد.
  • وأوَّل بيت تعهَّد بالنُّصرة، ولم يتقاعس فيه فردٌ من أفراده – كباراً، أو صغاراً – عن مساندة الدَّعوة .

يحقُّ لهذا البيت أن يكون قدوةً، ويحقُّ لربَّته أن تكون مثالاً، ونموذَجاً حيّاً لبيوت المسلمين، ولنسائهم، ورجال المؤمنين كافَّةً؛ فالزَّوجة فيه طاهرةٌ، مؤمنةٌ، مخلصةٌ، وزيرة الصِّدق، والأمان، وابن العمِّ المحضون، والمكفول مستجيبٌ، ومعضِّد، ورفيقٌ، والْمُتَبَنَّى مؤمنٌ، صادقٌ، مساعدٌ، ومعينٌ، والبنات مصدِّقاتٌ، مستجيباتٌ، مؤمناتٌ، ممتثلات .

لقد اكتسى هذا البيت بأبهى حُلل الإيمان، وأضاء أركانَه قبسُ نور التَّصديق، فكان بين الزَّوجين التَّجاوب، والتَّكافل، وتمَّ بذلك تجسيد معنى قوله تعالى في محكم تنزيله: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلـمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ  فَلـمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [الأعراف: 189] .

وفيه أيضاً تجسيد ما رُوي عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  في مجال التَّربية في قوله: «ما من مولودٍ إلا يُولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدانه، أو يُنصِّرانه، أو يُمَجِّسانه» [البخاري (1358) ومسلم (2658)] ومن استقامة التَّربية كان بناته رضي الله عنهن من السَّابقات إلى التَّصديق، والإيمان، وهكذا كان للبيت النَّبويِّ مكانته الأولى، والواجب يدعو إلى أن يكون قدوتنا، والأنموذج الَّذي نسير على هديه، في المعاشرة، ومثاليَّة السُّلوك بالصِّدق، والتَّصديق، في الاستجابة، والعمل لكلِّ من آمن بالله رباً، وبمحمَّدٍ نبياً، ورسولاً . إنَّ الحقيقة البارزة في المنهج الرَّبانيِّ تشير إلى أهميَّة بناء الفرد الصَّالح، والأسرة الصَّالحة كأوَّل حلقةٍ من حلقات الإصلاح، والبناء، ثمَّ المجتمع الصَّالح، ولقد تجلَّت عناية الإسلام بالفرد المسلم، وتكوينه، ووجوب أن يسبق أيَّ عمل آخر، فالفرد المسلم هو حجر الزَّاوية في أي بناءٍ اجتماعيٍّ، ولهذا كانت الأسرة هي التي تستقبل الفرد منذ ولادته، وتستمرُّ معه مدَّةً طويلةً من حياته، بل هي الَّتي تحيط به طوال حياته، هي المحضن المتقدِّم الَّذي تتحدَّد به معالم الشَّخصيَّة، وخصائصها، وصفاتها، كما أنَّها الوسيط بين الفرد، والمجتمع، فإذا كان هذا الوسيط سليماً قويّاً؛ أمدَّ طرفيه – الفرد والمجتمع – بالسَّلامة، والقوَّة .

ولهذا اهتمَّ الإسلام بالأسرة، واتَّجه إليها، يضع لها الأسس الَّتي تكفل قيامها، ونموَّها نمواً سليماً، ويوجِّهها الوجهة الرَّبَّانيَّة؛ لتكون حلقةً قويَّةً في بناء المجتمع الإسلاميِّ، والدَّولة الإسلاميَّة الَّتي تسعى لصناعة الحضارة الرَّبَّانيَّة في دنيا النَّاس .

ويظهر هذا الاهتمام بالأسرة من حركة الدَّعوة الإسلاميَّة منذ ساعتها الأولى؛ إذ كان من قدر الله تعالى أن يكون أوَّل السَّابقين إلى الإسلام امرأةٌ (خديجة رضي الله عنها)، إشادةً بمنزلة المرأة في الإسلام، وأنَّه يرسي قواعده على الأسرة، وصبيٌّ (علي رضي الله عنه)، إشارةً لحاجة الدَّعوة إلى البراعم الجديدة، واهتمامها بالجيل النَّاشئ؛ لتسير في مراحلها الصَّحيحة لبناء المجتمع، ثمَّ الدَّولة، ثمَّ الحضارة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى