بحوث ودراسات

السُّلطان محمود الثَّاني ودوره في إحياء الدولة العثمانية من جديد

د. علي محمّد الصلابيّ

عرض مقالات الكاتب

تولَّى الحكم وعمره أربع وعشرون سنة، استفاد من إِقامته الجبريَّة مع سليم الثَّالث؛ حيث أطلعه الأخير على خطط الإِصلاح؛ إِلا أنَّ السلطان الجديد أُرغم في البداية على الانحناء أمام رغبات الإِنكشاريَّة، فأمر بإِلغاء كلِّ الإِصلاحات حتَّى يرضيهم إِلى أن تحين الفرصة لتطبيق، وتنفيذ خطط الإِصلاح. وكان محمود يتذرَّع بالصَّبر انتظاراً لساعة الخلاص من الإِنكشاريَّة الَّذين هدَّدوا كيان الدَّولة العثمانيَّة ولكنَّ الفرصة لن تتح له قبل مرور عدَّة سنوات؛ خاصَّةً أنَّ عهده قد امتلأ بالحروب، والتَّطوُّرات المهمَّة الَّتي استنزفت معظم جهوده، وجميع إِمكانياته.

1. حربه مع روسيا:

عقد السُّلطان محمود الثَّاني صلحاً مع إِنجلترا عام 1224هـ/1809م، وحاول أيضاً عقد اتِّفاق مماثل مع روسيا، ولكنَّه فشل، واشتعلت نار الحرب بينهما، وهُزم العثمانيُّون، واستولى الرُّوس على بعض المواقع، وعزل الصَّدر الأعظم ضياء يوسف باشا، وتولَّى مكانه أحمد باشا الَّذي انتصر على الرُّوس، وأجلاهم عن المواقع الَّتي دخلوها، وساءت العلاقات بين فرنسا، وروسيا، وكادت تقع الحرب بينهما، فطلبت روسيا الصُّلح مع الدَّولة العثمانيَّة، وعقدت بين الطَّرفين معاهدة بخارست عام 1237هـ/1812م والَّتي نصَّت على بقاء الأفلاق، والبغدان، وبلاد الصِّرب تابعةً للدَّولة العثمانيَّة. وقد مكَّن الصُّلح السُّلطان محمود من القيام ببعض الإِصلاحات، والقضاء على الثَّورات، والتمرُّدات في الدَّولة.

ولما علم الصِّربيُّون بمعاهدة بخارست، وإِعادة خضوعهم للدَّولة العثمانيَّة؛ قاموا بالثَّورة، غير أنَّ القوَّات العثمانيَّة أخضعتهم بالقوَّة، وفرَّ زعماء الحركة إِلى النِّمسا، ولكنَّ أحدهم وهو ثيودور فتش أظهر الولاء للعثمانيِّين، وخضع للسُّلطة العثمانيَّة، وحصل على امتيازات خاصة من الدَّولة.

2. إِلغائه الإِنكشاريَّة:

فسدت طبيعة الإِنكشاريِّين، وتغيَّرت أخلاقهم، وتبدَّلت مهمَّتهم، وأصبحوا مصدراً للبلاء للدَّولة، والشُّعوب التابعة لها، وصاروا يتدخَّلون في شؤون الدَّولة، وتعلَّقت أفئدتهم بشهوة السُّلطة، وانغمسوا في الملذَّات، والمحرَّمات، وشقَّ عليهم أن ينفروا في برودة الشِّتاء، وفرضوا العطايا السُّلطانيَّة، ومالوا إِلى النَّهب، والسَّلب حين غزوا البلاد، وتركوا الغاية الَّتي من أجلها وُجِدُوا، وغرقوا في شرب الخمور، وأصبحت الهزائم تأتي من قبلهم بسبب تركهم للشَّريعة، والعقيدة، والمبادئ، وبعدهم عن أسباب النَّصر الحقيقيَّة، وقاموا بخلع وقتل السَّلاطين من أمثال عثمان الثَّاني، واستمرَّ الإِنكشاريُّون في عهد السُّلطان مراد الرَّابع سنواتٍ عشراً سائرين في طريق الضلال سادرين في غيِّهم، وطغيانهم، فهم الَّذين نصبوه، فأصبح الأمر، والنَّهي لهم، وهم الَّذين قاموا بقتل السُّلطان إِبراهيم الأوَّل خنقاً حينما حاول التخلُّص منهم، وهم الَّذين أربكوا الدَّولة؛ إِذ وضعوها في حالةٍ من الفوضى بقتلهم السَّلاطين، وتولية أولادهم الصِّغار السِّنِّ من بعدهم كالسُّلطان محمَّد الرَّابع، فقام الإِفرنج باحتلال أجزاءٍ من البلاد، فاضطرَّ الصَّدر الأعظم والعلماء إِلى عزله.

ثمَّ ثارت الإِنكشاريَّة في عهد السُّلطان سليم الثَّاني، ودخلت جيوش الأعداء بعضاً من أراضي الدَّولة، واحتلَّتها. وخلع الإِنكشاريَّة السلاطين: مصطفى الثَّاني، أحمد الثَّالث، مصطفى الرَّابع، إِلى أن قيَّض الله السُّلطان محمود الثَّاني عام 1241هـ للتخلُّص منهم.

فجمع السُّلطان مجموعة من أعيان الدَّولة، وكبار ضباط الإِنكشاريَّة في بيت المفتي، وقام الصَّدر الأعظم سليم أحمد باشا خطيباً؛ فبيَّن الحالة الَّتي وصلت إِليها الإِنكشاريَّة من الضَّعف، والانحطاط، وبيَّن ضرورة إِدخال النُّظم العسكريَّة الحديثة، فاقتنع الحاضرون، ثمَّ أفتى المفتي بجواز العمل للقضاء على المتمرِّدين. وقد أعلن الموافقة كلُّ من حضر من ضباط الإِنكشاريَّة من حيث الظَّاهر، وأبطنوا خلاف ذلك، ولما شعروا بقرب ضياع امتيازاتهم، وبوضع حدٍّ لتصرُّفاتهم أخذوا يستعدِّون للثَّورة، واستجاب لهم بعض العوامِّ.

وفي 8 ذي القعدة عام 1241هـ بدأ بعض الإِنكشاريِّين بالتحرُّش بالجنود أثناء أدائهم تدريباتهم، ثمَّ بدؤوا في عصيانهم، فجمع السُّلطان العلماء، وأخبرهم بنيَّة المتمرِّدين، فشجعوه على استئصالهم، فأصدر الأوامر للمدفعيَّة حتَّى تستعدَّ لقتالهم ملوِّحاً باللِّين، والتَّساهل في الوقت نفسه خوفاً من تزايد لهيب شرورهم، وفي صباح 9 ذي القعدة تقدَّم السُّلطان ووراءه جنود المدفعيَّة وتبعهم العلماء، والطَّلبة إِلى ساحة (آت ميداني) حيث اجتمع العصاة هناك يثيرون الشَّغب، وقيل: إِنَّ السُّلطان سار معه شيخ الإِسلام قاضي زادة طاهر أفندي، والصَّدر الأعظم سليم باشا أمام الجموع الَّتي كانت تزيد على 000ر60 نفس.

ثمَّ أحاطت المدفعيَّة بالميدان واحتلت المرتفعات، ووجَّهت قذائفها على الإِنكشاريَّة فحاولوا الهجوم على المدافع، ولكنَّها صبَّت حممها فوق رؤوسهم فاحتموا بثكناتهم هروباً من الموت، فأحرقت، وهدِّمت فوقهم، وكذلك تكايا البكتاشيَّة، وبذلك انتصر عليهم. وفي اليوم التَّالي صدر مرسومٌ سلطاني قضى بإِلغاء فئتهم، وملابسهم، واصطلاحاتهم، واسمهم من جميع بلاد الدَّولة، وإِعدام من بقي منهم هارباً إِلى الولايات، أو نفيه، ثمَّ قلَّد حسين باشا الَّذي كانت له اليد الطُّولى في إِبادتهم قائداً عاماً (سرعسكر) وبدأ بعدها نظام الجيش الجديد.

ثمَّ أصبح السُّلطان محمود بعد ذلك حرَّاً في تطوير جيشه، فترسَّم خطى الحضارة الغربيَّة، فاستبدل الطُّربوش الرُّوميَّ بالعمامة، وتزيَّا بالزِّيِّ الأوربيِّ، وأمر أن يكون هو الزِّيَّ الرَّسميَّ لكلِّ موظفي الدَّولة العسكريِّين، والمدنيِّين، وأسَّس وساماً دعاه وسام الافتخار، فكان أوَّل من فعل ذلك من سلاطين آل عثمان. وما قام به السُّلطان محمود من استبدال العمامة بالطَّربوش، وفرض اللِّباس الأوربي على جميع المجموعات العسكريَّة يدلُّ على شعوره العميق بالهزيمة النَّفسيَّة.

3. إصلاحه التعليم:

عُنِي محمود الثاني بتنظيم التعليم حيث أنشأ المدارس الابتدائية المسماة “صبيان مكتبي” لتعليم الهجاء التركي وقراءة القرآن، ومبادئ اللغة العربية، والمدارس الثانوية “مكتب رشدية” لتعليم الرياضيات والتاريخ والجغرافيا، إلى جانب المدارس الملحقة بالمساجد، كما أنشئت مدارس تُعِدّ طلابها للالتحاق بمدارس البحرية والطب والزراعة والهندسة والمدفعية، وكانت المدرسة الإعدادية لمدرسة الطب ملحقة بها.

واعتنى محمود الثاني بمدرسة تعليم اللغات التي أنشئت في عصر السلطان محمود الرابع لتخريج المترجمين، وكان يلتحق خريجو هذه المدارس بالسفارات المختلفة، وقد أكثر محمود الثاني من إرسال البعثات العلمية إلى لندن وباريس لتحصيل الفنون والعلوم الحديثة، وكلف سفيره في باريس “أحمد باشا” بمرافقتهم وكتابة تقارير عنهم.

حاول السلطان إصلاح أجهزة الدولة المركزية، فوضع الأوقاف تحت إشرافه وألغى الإقطاعات الصغيرة وضمها إلى أملاك السلطان، وأجرى أول إحصاء للأراضي الزراعية التركية في العصر الحديث، وأدخل تحسينات على شبكة المواصلات، وأنشأ طرقا جديدة وأدخل البرق، وخطوط السكك الحديدية، كما أنشأ جريدة رسمية للدولة.

وشهد عصر السلطان محمود نشاطا في حركة التعمير، وصيانة المرافق القديمة التي أصابها الإهمال، فأنشأ في سنة (1241هـ = 1825م) “جامع نصرت” أي جامع النصر في إستانبول، وأعاد تعمير مسجد “آيا صوفيا” وغيره من مساجد العاصمة. ودعا إلى بناء المنازل من الحجر بدلا من الخشب، وكانت العاصمة كثيرا ما تتهدد بالحرائق التي تنشب في البيوت الخشبية، وأقام برج الحريق من الرخام، وكان مرتفع البناء لاكتشاف الحرائق ورفع راية وإضاءة مصباح عند رؤية الحريق مباشرة.

4. وفاته:

امتاز السلطان محمود الثاني بالتوجه للغرب العلماني، أنهكته الحروب مع روسيا، وشغلته حروبه مع محمد علي والي مصر الطموح الذي تطلع إلى ضم بلاد الشام إلى ولايته في مصر، ووقعت الجزائر تحت الاحتلال الفرنسي في سنة (1245 هـ – 1830م)، وتعرض السلطان للإصابة بعدوى السل، ولما اشتد به المرض نُقل إلى إحدى ضواحي إستانبول للاستشفاء بهوائها النقي، ثم لم يلبث أن عاجلته المنية وتوفي في (19 ربيع الآخر 1255 هـ / 2 يوليو 1839م) وهو في الرابعة والخمسين من العمر وخلفه ابنه السلطان عبد المجيد.

مراجع البحث:

  1. د. علي محمّد الصلابي، الدولة العثمانية، عوامل النهوض وأسباب السقوط، الطبعة الأولى 2003م، ص (276: 279).
  2. د. إِسماعيل ياغي، الدَّولة العثمانيَّة في التاريخ الإِسلامي الحديث، مكتبة العبيكان، الطَّبعة الأولى، 1416هـ/1996م، ص (127، 128).
  3. د. علي حسون، تاريخ الدَّولة العثمانيَّة، المكتب الإِسلامي، الطَّبعة الثَّالثة، 1415هـ/1994م، ص (107- 108- 169).
  4. عبد الله بن حمد الشَّبانة، المسلمون وظاهرة الهزيمة النَّفسيَّة، دار طيبة، الطَّبعة الثَّالثة، 1417هـ/1997م، ص (73).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى