دين ودنيا

الحلقة السادسة (6) : تجارة النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة وزواجه منها

د. علي محمّد الصلابيّ

عرض مقالات الكاتب

كانت خديجة بنت خويلد – رضي الله عنها – أرملةً ذات شرفٍ، ومالٍ، تستأجر الرِّجال ليتَّجروا بمالها، فلـمَّا بلغها عن محمَّد صلى الله عليه وسلم  صدق حديثه، وعظم أمانته، وكَرَم أخلاقه، عرضت عليه أن يخرج في مالها إلى الشَّام تاجراً، وتعطيه أفضل ما تعطي غيره من التُّجار، فقبل، وسافر معه غلامها ميسرةُ، وقدما الشَّام، وباع محمَّد صلى الله عليه وسلم  سلعته الَّتي خرج بها، واشترى ما أراد من السِّلع، فلـمَّا رجع إلى مكَّة، وباعت خديجة ما أحضره لها؛ تضاعف مالها.

وقد حصل الرَّسول صلى الله عليه وسلم  في هذه الرِّحلة على فوائد عظيمة بالإضافة إلى الأجر الَّذي ناله؛ إذ مرَّ بالمدينة الَّتي هاجر إليها من بعد، وجعلها مركزاً لدعوته، وبالبلاد التي فتحها، ونشر فيها دينه، كما كانت رحلته سبباً لزواجه من خديجة، بعد أن حدَّثها ميسرة عن سماحته، وصدقه، وكريم أخلاقه ، ورأت خديجة في مالها من البركة ما لم تر قبل هذا، وأُخبرت بشمائله الكريمة، ووجدت ضالَّتها المنشودة، فتحدثت بما في نفسها إلى صديقتها نفيسة بنت منبِّه، وهذه ذهبت إليه تفاتحه أن يتزوَّج خديجة، فرضي بذلك، وعرض ذلك على أعمامه، فوافقوا كذلك، وخرج معه عمُّه حمزة بن عبد المطلب، فخطبها إليه، وتزوَّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصدقها عشرين بَكرةً، وكانت أوَّل امرأةٍ تزوَّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتزوَّج غيرها؛ حتَّى ماتت رضي الله عنها ، وقد وَلَدَتْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلامين، وأربع بنات. وابناه هما: القاسم، وبه كان صلى الله عليه وسلم  يُكنى، وعبد الله، ويلقَّب بالطَّاهر، والطَّيِّب.

وقد مات القاسم بعد أن بلغ سناً تمكنه من ركوب الدَّابة، ومات عبد الله وهو طفل، وذلك قبل البعثة. أمَّا بناته فهنَّ: زينب، ورقيَّة، وأمُّ كلثوم، وفاطمة. وقد أسلمن، وهاجرن إلى المدينة، وتزوجن رضي الله عنهن . هذا وقد كان عُمرُ الرَّسول صلى الله عليه وسلم  حين تزوَّج خديجة رضي الله عنها خمساً وعشرين سنةً، وكان عمرها أربعين سنةً .

– دروسٌ وعبرٌ وفوائد:

  1. إنَّ الأمانة، والصِّدق أهمُّ مواصفات التَّاجر النَّاجح، وصفة الأمانة، والصِّدق في التِّجارة في شخصية النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، هي الَّتي رغَّبت السَّيدة خديجة في أن تعطيه مالها ليتاجر به، ويسافر به إلى الشَّام، فبارك الله لها في تجارتها، وفتح الله لها من أبواب الخير ما يليق بكرم الكريم.
  2. إنَّ التِّجارة موردٌ من موارد الرِّزق الَّتي سخَّرها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم  قبل البعثة، وقد تدرَّب النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم  على فنونها، وقد بيَّن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: أنَّ التَّاجر الصَّدوق الأمين في هـذا الدِّيـن يُحشر مع النَّبيِّين، والصدِّيقين، والشُّهـداء، وهـذه المهنة مهمَّـة للمسلمين، ولا يقع صاحبها تحت إرادة الآخرين، واستعبادهم، وقهرهم، وإذلالهم؛ فهو ليس بحاجة إليهم، بل هم في حاجة إليه، وبحاجةٍ إلى خبرته، وأمانته، وعفَّته.
  3. كان زواج الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم  للسَّيدة خديجة بتقدير الله تعالى، ولقد اختار الله – سبحانه وتعالى – لنبيِّه زوجةً تناسبه، وتؤازره، وتُخفِّف عنه ما يصيبه، وتعينه على حمل تكاليف الرِّسالة، وتعيش همومه .

قال الشَّيخ محمَّد الغزالي – رحمه الله! -: وخديجة مَثلٌ طيِّبٌ للمرأة الَّتي تكمِّل حياة الرَّجل العظيم. إنَّ أصحاب الرِّسالات يحملون قلوباً شديدة الحساسية، ويلقون غبْناً بالغاً من الواقع الَّذي يريدون تغييره، ويقاسون جهاداً كبيراً في سبيل الخير الَّذي يريدون فرضه، وهم أحوج ما يكونون إلى من يتعهَّد حياتهم الخاصَّة بالإيناس، والتَّرفيه، وكانت خديجة سبَّاقةً إلى هذه الخصال، وكان لها في حياة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم  أثرٌ كريم .

  • إنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم  ذاق مرارة فقد الأبناء، كما ذاق من قبل مرارة فقد الأبوين، وقد شاء الله – وله الحكمة البالغة – ألا يعيش له صلى الله عليه وسلم  أحدٌ من الذُّكور، حتَّى لا يكون مدعاةً لافتتان بعض النَّاس بهم، وادِّعائهم لهم النُّبوَّة، فأعطاه الذُّكور تكميلاً لفطرته البشرية، وقضاءً لحاجات النَّفس الإنسانيَّة، ولئلا يتنقَّص النَّبيَّ في كمال رجولته شانئ، أو يتقـوَّل عليه متقوِّلٌ، ثمَّ أخذهم في الصِّغر، وأيضاً ليكون ذلك عزاءً، وسلوى لِلَّذين لا يُرزقون البنين، أو يُرزقون ثمَّ يموتون، كما أنَّه لونٌ من ألوان الابتلاء، وأشدُّ النَّاس بلاءً الأنبياء [الترمذي (2398) وابن ماجه (4023)] ، وكأنَّ الله أراد للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  أن يجعل الرِّقَّة الحزينة جزءاً من كيانه؛ فإنَّ الرِّجال الذين يسوسون الشُّعوب لا يجنحون إلى الجبروت، إلا إذا كانت نفوسهم قد طبعت على القسوة، والأثرة، وعاشت في أفراحٍ لا يخامرها كدر، أمَّا الرَّجل الَّذي خبر الآلام؛ فهو أسرع النَّاس إلى مواساة المحزونين، ومداواة المجروحين .
  • يتَّضح للمسلم من خلال قصَّة زواج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  من السَّيدة خديجة، عدم اهتمـام النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  بأسباب المتعة الجسديَّـة، ومكمِّلاتها، فلو كان مهتماً بذلـك – كبقيَّة الشَّباب – لطمع فيمن هي أقلُّ منه سناً، أو فيمن لا تفوقه في العمر، وإنَّما رغب النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم  لشرفها، ومكانتها في قومها؛ فقد كانت تلقَّب في الجاهلية بالعفيفة الطَّاهرة.
  • في زواج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  من السَّيدة خديجة ما يلجم ألسنة وأقلام الحاقدين على الإسلام، من المستشرقين وعبيدهم العلمانيِّين، الَّذين ظنُّوا أنَّهم وجدوا في موضوع زواج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  مقتلاً يصاب منه الإسلام، وصوَّروا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم  في صورة الرَّجل الشَّهوانيِّ الغارق في لذَّاته، وشهواته، فنجد: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم  عاش إلى الخامسة والعشرين من عمره في بيئةٍ جاهليَّةٍ عفيف النَّفس، دون أن ينساق في شيءٍ من التَّـيَّـارات الفاسدة؛ الَّتي تموج حوله، كما أنَّه تزوَّج من امرأةٍ لها ما يقارب ضعف عمره، وعاش معها دون أن تمتدَّ عيناه إلى شيءٍ ممَّا حوله، وإنَّ ما حوله الكثير، وله إلى ذلك أكثر من سبيل، إلى أن يتجاوز مرحلة الشَّباب، ثمَّ الكهولة، ويدخل في سن الشُّيوخ، وقد ظلَّ هذا الزَّواج قائماً حتَّى توفِّيت خديجة رضي الله عنها عن خمسةٍ وستين عاماً، وقد ناهز النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم  الخمسين من العمر، دون أن يفكِّر خلالها بالزَّواج بأيِّ امرأةٍ أخرى، وما بين العشرين والخمسين من عمر الإنسان هو الزَّمن الَّذي تتحرَّك فيه رغبة الاستزادة من النِّساء، والميل إلى تعدُّد الزَّوجات للدَّوافع الشَّهوانية؛ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم  لم يفكر في هذه الفترة في أن يضمَّ إلى خديجة مثلها من النِّساء، زوجةً، أو أمَةً، ولو أراد؛ لكان الكثير من النِّساء، والإماء طوعَ بنانه.

أمَّا زواجه صلى الله عليه وسلم  بعد ذلك من السَّيدة عائشة، وغيرها من أمَّهات المؤمنين رضي الله عنهن، فإنَّ لكلٍّ منهن قصَّةً، ولكلِّ زواج حكمةً وسبباً، يزيدان في إيمان المسلم بعظمة محمَّد صلى الله عليه وسلم ، ورفعة شأنه، وكمال أخلاقه .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى