بحوث ودراسات

بطلان نظريَّة “الإمامة” ووريثتها “ولاية الفقيه” في ضوء “تطوُّر الفكر السياسي الشيعي” 1 من 7

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

يتناول أحمد الكاتب، الباحث السياسي الشيعي الإمامي، في كتابه تطوُّر الفكر السياسي الشيعي من الشُّورى إلى ولاية الفقيه (1998) تطوُّر المشهد السياسي في الجمهوريَّة الإسلاميَّة في إيران، التي حرصت منذ نشأتها عام 1979 ميلاديًّا، على تعزيز الديموقراطيَّة وفتح المجال أمام الشعب للمشاركة في صُنع القرار. غير أنَّ مسيرة النهوض الديموقراطي تلك تعطَّلت منذ إعلان آية الله الخميني عن مفهوم “ولاية الفقيه”، ونيابة الإمام المُلهَم. ومن هنا، نشأ الخلاف بين طرفين متنافرين في إيران، يطالب أحدهما بمزيد من الديموقراطيَّة والشُّورى من خلال تفعيل مؤسسة الرئاسة والبرلمان، بينما يطالب الآخر بفرض قيود على المشاركة الشعبيَّة في العمليَّة السياسيَّة، وقصرها على النُّصح للولي الفقيه؛ استنادًا إلى الاعتقاد بوجود فراغ سياسي وفِكري في غيبة الإمام، لا يمكن أن يملأه سوى نائبه، الذي يتواصل معه باطنيًّا. من هنا، يخصص الكاتب في الطبعة الثانية من هذا الكتاب (2008) قسمًا تحت عنوان ‘‘محمَّد بن الحسن العسكري’’ حقيقة تاريخيَّة أم فرضيَّة فلسفيَّة، يحلِّل فيه نظريَّة غيبة الإمام، ويطرح فكرة استغلال الحوزات الشيعيَّة تلك النظريَّة في تحقيق مآرب سياسيَّة وماديَّة.

من هو ‘‘أحمد الكاتب’’؟

تعريفًا بأحمد الكاتب، فهو باحث عراقي شيعي وُلد عام 1953 ميلاديًّا، من أتباع الفرقة الإماميَّة الاثني عشريَّة، اسمه الحقيقي عبد الرَّسول عبد الزُّهرة الأسدي. نشأ الكاتب في كربلاء، وتربَّى في حوزاتها العلميَّة، ثمَّ انتقل إلى إيران بعد الثورة الخمينيَّة، وتأثَّر بنظريَّة ولاية الفقيه، وشرع في ترويجها. تراجع الكاتب عن موقفه تجاه النظريَّة بعد حرب العراق وإيران؛ حيث آثر العودة إلى بلاده، وعمل على إعادة قراءة النظريَّة، التي نقضها فيما بعد في دراساته، بعد أن وجد أنَّ النظام الخميني شكَّل بولاية الفقيه انقلابًا على التقيَّة ونظريَّة الانتظار في غيبة الإمام الثاني عشر، المهدي.

تربَّى الكاتب على أقاصيص كانت أمُّه تتلوها عليه، عن معجزات الإمام المهدي، وظهوره للمخلصين من أتباعه، وإنقاذه المبتلين منهم، خاصَّة قصَّة نجدته لشيعة البحرين، لمَّا تعرَّضوا إلى محنة قاسية على يد أحد حُكَّامهم. التحق الكاتب بمدرسة دينيَّة بالكامل، تدرِّس القرآن الكريم، والتفسير، والفقه الإسلامي، والحساب. وبعد سماع خُطبة للإمام كاظم القزويني، نصح فيها بإعداد أحد أبناء جيل الدَّارسين لنشر الدعوة في الغرب، عزم الكاتب على أن يسلك هذا المسلك مستقبلًا. بالفعل، انتقل الكاتب إلى لندن في تسعينات القرن الماضي، ولكن بعد تجربة غنيَّة قضاها في دراسة نظريَّة الإمامة الإلهيَّة، والفرضيَّات المرتبطة بها، وعلى رأسها الإماميَّة الاثني عشرية، وغيبة الإمام المهدي، والتقيَّة والانتظار، ثمَّ النيابة العامَّة عن الإمام، وأخيرًا ولاية الفقيه. وجد الكاتب تناقضًا جليًّا في مراحل تطوُّر نظريَّة الإمامة، علاوة على صعوبة إثباتها بأدلَّة تاريخيَّة وعقليَّة لا تقبل الجدال. وبعد تهرُّب ملالي الحوزات العلميَّة في العراق من الردِّ على نقده النظريَّة في كتابه تطوُّر الفكر الشِّيعي من الشُّورى إلى ولاية الفقيه، استقرَّ في ذهن الكاتب أنَّ هذه النظريَّة سببٌ في تكريس الديكتاتوريَّة باسم الدِّين.

ما هو هدف ‘‘الكاتب’’ من وراء هذا المؤلَّف؟

فتح نظام ولاية الفقيه أمام المرجعيَّات الشيعيَّة المجال لممارسة صلاحيات واسعة في السياسة والتشريع، استنادًا إلى الاعتقاد بأنَّ هؤلاء الفقهاء هم نوَّاب عامِّين للإمام الغائب. أصبحت مشاركة غير المتَّصلين بالحوزات العلميَّة الشيعيَّة في صناعة القرار غير مبررة؛ إذ أنَّ ذلك يقتضي الإلمام بعلوم تُستمدُّ من الإمام الغائب، يُستعان بها في تصريف الأمور، وهذا لا يتسنَّى لأيِّ شخص عاديٍّ. ويتعنَّت الفقهاء في تشبُّثهم بالسُّلطة، وبخاصَّة فيما يتعلَّق بتقليص صلاحيَّات الولي الفقيه، أو إلغاء منصب رئيس الجمهوريَّة. ويعتبر الكاتب هذا السلوك في إدارة البلاد نموذجًا للثيوقراطيَّة، أو حُكم الدولة الدينيَّة، مشبِّهًا الوضع في إيران بـ “نظام الباباوات في القرون الوسطى” في الإمبراطوريَّة الرومانيَّة، بإقامة “نظام ثيوقراطي…يمارس الديكتاتوريَّة باسم الدِّي، ويلغي دور الشَّعب” (ص11).

ما أراد الكاتب رصده في هذا المؤلَّف هو مدى مشروعيَّة مفاهيم “ولاية الفقيه”، و “المرجعيَّة الدينيَّة”، و “النيابة العامَّة”، في ظلِّ عقيدة أهل البيت، القائمة على الشُّورى ومنح الأمَّة الحق في اختيار أئمتها. وجد الكاتب أنَّ المرجعيَّة الدينيَّة “غير دينيَّة”، وأنَّ النيابة العامَّة ليست نظريَّة، إنَّما “فرضيَّة وهميَّة مُستحدثة، لا أساسًا شرعيًّا لها” (ص10). ويترتَّب على ذلك أنَّ نظريَّة ولاية الفقيه، التي هي نتاج فرضيَّة النيابة العامَّة، ما هي سوى “نظريَّة ضعيفة لا يجوز أن تقف عقبة أمام المؤسسات الديموقراطيَّة، أو تحدَّ من ممارسة الأمَّة دورها في التشريع والتنفيذ” (ص11). ويزيد الكاتب على ذلك التشكيك في شرعيَّة ولاية الفقيه تشكيكه في مسألة الإمام الثاني عشر، التي تثير الجدل منذ القرن الثالث الهجري، ولا توجد عليه أدلَّة ثابتة يمكن الأخذ بها. ويستغلُّ الكاتب ذلك في الدعوة إلى نبذ الخلافات بين السُّنَّة والشيعة من أبناء المسلمين، والتغاضي عمَّا أسماه “القراءات المتطرِّفة للتاريخ الإسلاميِّ”، وما يتضمَّنه ذلك من افتراض وجود صراعات بين آل النبي مُحمَّد(ﷺ) وصحابته الكرام حول الأحقيَّة في الإمامة والخلافة (ص11).

وجد الكاتب من خلال البحث علاقة وثيقة بين نظريَّة الانتظار، القائمة على مبدأ تعليق النشاط السياسي إلى حين انتهاء عصر الغيبة، ونظريَّة نيابة الإمام وولاية الفقيه، التي تمنح المرجعيَّات الدينيَّة سُلطة مُطلَقة في ممارسة العمل السياسي. وقد رصد الكاتب كذلك تطوُّر الفِكر الشيعي في الإمامة، الذي بدأ بالشورى في القرن الأوَّل الهجري، وانتقل إلى الإمامة القائمة على العصمة والقدرات المعجزة في القرن الثاني، وتطوُّر ذلك الفكر في القرن الثالث الهجري، بعد وفاة الإمام الحسن العسكري، وعدم وجود نائب ووليٍّ ظاهر له.

الشورى…الإمامة من منظور آل بيت النبي

يرى الكاتب أنَّ آل بيت النبي(ﷺ) لم يعارضوا الشورى في اختيار خليفة له بعد أن لقي ربَّه، لكنَّهم اعترضوا على تسلُّط الأمويين على الحُكم، وانتقالهم من الشورى إلى الوراثة؛ فاعتقد الشيعة الموالون لآل البيت في ضرورة انتقال الحُكم إلى نسل النبي؛ فهم أولى وأكثر قدرةً على استمداد العلم الشافي من النبي والأئمة الصالحين. ويشكِّك الكاتب في صحَّة مزاعم الشيعة الإماميَّة بأنَّ النبي(ﷺ) قد عهِد إلى عليٍّ بن أبي طالب بخلافته، مشيرًا إلى أنَّ النبي الكريم طالما آثر الشورى في اتخاذ القرار. ومن بين الرايات الشيعيَّة التي روَّجت فكرة حصر النبي (ﷺ) الإمامة في أفراد أسرته، ما جاء به الكليني في كتاب الكافي، نقلًا عن جعفر الصَّادق، أنَّه قال أنَّ النبي(ﷺ) لمَّا حضرته الوفاة، دعا العبَّاس عمَّه، وعليًّا صهره وابن عمِّه أبي طالب، فقال ” يا عم محمد تأخذ تراث محمد وتقضي دينه وتنجز عداته؟ فرد عليه فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي إني شيخ كثير العيال قليل المال من يطيقك وأنت تباري الريح، قال: فأطرق صلى الله عليه وآله هنيئة ثم قال: يا عباس أتأخذ تراث محمد وتنجز عداته وتقضي دينه؟ فقال بأبي أنت وأمي شيخ كثير العيال قليل المال وأنت تباري الريح. قال: أما إني سأعطيها من يأخذها بحقها؛ ثم قال: يا علي يا أخا محمد أتنجز عدَّات محمد وتقضي دينه وتقبض تراثه؟ فقال: نعم، بأبي أنت وأمي ذاك علي ولي، قال: فنظرت إليه حتى نزع خاتمه من أصبعه فقال: تختم بهذا في حياتي، قال: فنظرت إلى الخاتم حين وضعته في أصبعي فتمنيت من جميع ما ترك الخاتم“.   

يذكر بعض مؤرِّخي السُّنَّة والشيعة أنَّ الإمام عليًّا لم يكن راضيًا في بداية الأمر على تولِّي أبي بكر الصدِّيق الخلافة، معتبرًا نفسه أحق؛ ومن هؤلاء الشريف الرضي في نهج البلاغة. غير أنَّ عليًّا بايع أبا بكر بعد فترة اعتزل فيها القوم، بعد أن شعر وكأنَّما قُطِّع رحمه، واستُعدي الناس عليه. ويؤيِّد الكاتب هذا الرأي موضحًا “لا شكَّ أنَّ تمنُّع الإمام عليّ من المسارعة إلى بيعة أبي بكر كان بسبب أنَّه يرى نفسه أولى وأحقَّ بالخلافة” (ص21). وقد جاء في كتاب الشَّافي للشريف المرتضى، العالم الإمامي وأحد أعلام فقهاء الشِّيعة، أنَّ عليًّا قال عن بيعتي أبي بكر وعمر “والله لقد بايع الناس أبا بكر وأنا أولى بهم مني بقميصي هذا (يقصد الخلافة)، فكتمت غيظي وانتظرت أمر ربي وألصقت كلكلي بالأرض… واستخلف عمر، وقد علم والله أني أولى الناس بهم منِّي بقميصي هذا، فكظمت غيظي وانتظرت أمر ربي“.

ويستند الشِّيعة في تأكيدهم على عهود النبي بالإمامة إلى عليٍّ من بعده إلى حديث الغدير، المنسوب إلى النبي (ﷺ) لمَّا خطب في المؤمنين بغدير يُدعى خمٌّ بين مكَّة والمدينة المنوَّرة بعد حجَّة الوداع؛ وجاء في الحديث “من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيثما دار، اللهم هل بلغت“. يعترف شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصحَّة أنَّ النبيَّ (ﷺ) قد خطب في المسلمين في غدير خمٍّ، استنادًا إلى صحيح الإمام مُسلم، وصدَّق ابن حجر على ذلك. غير أنَّ الشريف المرتضى ذاته اعتبر أنَّ حديث الغدير لا يثبت أنَّ النبي(ﷺ) قد عهد إلى عليٍّ بالخلافة من بعده، أو أسرَّ له علمًا باطنيًّا يُستخدم في التواصل مع الأنبياء والأولياء من أجل الحصول على المعرفة الخفيَّة لأسرار الكون، وقد جاء في كتاب الشَّافي، في جزئه الثاني “إنَّا لا ندَّعي علم الضرورة في النَّص، لا لأنفسنا ولا لمخالفينا، وما نعرف أحدًا من أصحابنا صرَّح بادعاء ذلك” (ص128).

يعتقد الكاتب أنَّ الإمام عليًّا كان مؤمنًا بنظام الشُّورى، وكأنَّ “نظام الشُّورى دستورًا كان يلتزم به”؛ ومن ثمَّ، فقد شارك في مبايعة الخليفة الثالث، عثمَّان بن عفَّان (رضي الله عنه وعن سائر صحابة رسول الله ﷺ)، فلو كان يؤمن بأنَّ معنى حديث الغدير أنَّه الأولى بالخلافة بعد النبي (ﷺ)، لصرَّح بذلك وطَالَب بحقِّه (ص23). ويستشهد الكاتب بموقف الإمام عليٍّ لمَّا أراد الثوَّار توليته خليفةً على المسلمين بعد مقتل عثمان-ذي النورين وصهر النبي الكريم-رافضًا البيعة، ومُسندًا حقَّ توليته إلى المهاجرين والأنصار. ويستشهد الكاتب على إيمان الإمام عليٍّ بالشورى، برأي يقول “الواجب في حكم الله وحكم الاسلام على المسلمين بعد ما يموت إمامهم أو يقتل، ضالًا كان أو مهديًّا أن لا يعملوا عملًا ولا يقدموا يدًا ولا رجلًا قبل أن يختاروا لأنفسهم إمامًا عفيفًا عالمًا ورعًا عارفًا بالقضاء والسُّنَّة، يجبي فيئهم ويقيم حجهم وجمعتهم، ويجبي صدقاتهم الخبر“، وقد ورد هذا الرأي في كتاب سليم بن قيس الهلالي (ص182)، وبحار الأنوار للمجلسي (ج8، ص555). ويشير الكاتب كذلك إلى خطاب عليٍّ إلى معاوية بن أبي سفيان بعد موقعة الجمل “سلام عليك؛ أمّا بعد، فإنّ بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام؛ لأنَّه بايعني [القوم] الذين بايعوا أبا بكر، وعمر، وعثمان، على ما بويعوا عليه؛ فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يردّ، وإنَّما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإذا اجتمعوا على رجل وسمّوه إمامًا كان ذلك لله رضا، وإن خرج عن أمرهم خارج ردُّوه إلى ما خرج عنه، فإن أبى قاتلوه على اتّباعه غير سبيل المؤمنين، وولَّاه الله ما تولَّى، وأصلاه جهنَّم وساءت مصيرًا”، نقلًا عن كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي، جزء 5، ص80.

الأهم من ذلك، أنَّ الإمام عليًّا ذاته قد أنكر عصمته، كما يشير هذا النصُّ “لا تخالطوني بالمصانعة ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي ولا التماس إعظام النفس، فإنه من استثقل الحق أن يقال له، أو العدل أن يعرض عليه، كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفوا عن مقالة بحق، أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ ولا آمن ذلك من فعلي”، والأكثر إثارة للدهشة أنَّ هذا القول جاء في أكثر من كتاب لفقهاء الشِّيعة، منها نهج البلاغة للشريف الرضي (ص335) والكافي للكليني (جزء 8، ص293). ويوضح رفض الإمام عليٍّ ذاته استخلاف ابنه الحسن، بعد أن طعنه عبد الرَّحمن بن مُلجم، قائلًا “لا، إنَّا دخلنا على رسول الله فقلنا: استخلف، فقال: لا، أخاف أن تفرَّقوا عنه كما تفرَّقت بنو إسرائيل عن هارون، ولكن إن يعلم الله في قلوبكم خيرًا يختر لكم”، كما جاء في كتاب الشَّافي للشريف المرتضى (جزء 3، ص295). ويأتي ابن أبي الدُّنيا في كتابه مقتل الإمام برواية مؤكِّدة لذلك، تقول، عن عبد الرَّحمن بن جندب عن أبيه قال “قلتُ يا أمير المؤمنين، إن فقدناك، ولا نفقدك، نبايع الحسن؟ … فقال (عليٌّ): ما آمركم ولا أنهاكم. فعدتُ فقلتُ مثلها، فردَّ عليَّ مثلها” (ص43).

غير أنَّ أئمة الشِّيعة يدحضون هذا الزَّعم بحديث ينسبونه إلى عليٍّ يقول “ما أوصى رسول الله فأوصي، ولكن إن أراد الله بالناس خيرًا فسيجمعهم على خيرهم كما جمعهم بعد نبيِّهم على خيرهم”، كما جاء في الشَّافي (جزء 3، ص91). ويستشهد الشيعة بقول النبي (ﷺ) عن عليٍّ “إنَّ الله عز وجل اطلع على أهل الأرض اطلاعة؛ فاختار منها رجلين، جعل أحدهما أباك، والآخر بعلك”، وكذلك “عليٌّ سيد العرب”، و “خير أمَّتي”، و “خير مَن أخلف بعدي”، وكلها أحاديث من الصحاح، وإن لم يأتِ بها نصٌّ صريح على إمامة آل النبي، أو وجوب البيعة لعليٍّ وذريَّته فور وفاة النبيِّ. يعني هذا أنَّ هذه الأحاديث الصحيحة لا تستوجب البيعة لعليٍّ بعد النبيِّ، لكنَّها تشهد بأفضليَّته عن غيره في الخلافة، وهذا ما كان لاحقًا لمَّا تولَّى الخلافة بعد وفاة الخلفاء الثلاثة السابقين.

يصرُّ الكاتب على نفي أن تكون الإمامة بنصٍّ من الله، أو تعيين من النبي(ﷺ)، مشيرًا إلى موقف الإمام الحسن بن عليٍّ، لمَّا تنازل عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان في حياته، ولم يحتج بنصٍ أو وصيَّة. وينطبق الأمر ذاته على شقيقه، الحسين، الذي ظلَّ ملتزمًا ببيعته لمعاوية طوال حياته، رافضًا، كما يشير الكاتب، دعوة شيعة الكوفة، للثورة على معاوية لعدم جواز نقض عهده مع الأخير. لم يسعَ الإمام الحسين، كما يروي الكاتب، إلى الخلافة إلَّا بعد أن نقض معاوية نفسه ذاك العهد، بأن عهِد إلى ابنه، يزيد، بالخلافة؛ ومن هنا بدأت رحلته إلى كربلاء، المنتهية بقتله عام 61 للهجرة، وفق ما جاء في كتاب الإرشاد للشيخ المفيد (ص199). ويورد المفيد في كتابه ذاته نص رسالة الحسين إلى مناصريه “بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن عليٍّ إلى الملأ من المسلمين والمؤمنين. أما بعد: فإن هانئا وسعيدا قدما علي بكتبكم، وكانا آخر من قدم عليَّ من رسلكم، وقد فهمت كل الذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جلكم: أنه ليس علينا إمام فأقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى والحق. وإني باعث إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي، فإن كتب إليَّ أنه قد اجتمع رأي ملئكم وذوي الحجا والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم وقرأتُ في كتبكم، أقدم عليكم وشيكًا إن شاء الله. فلعمري ما الإمام إلا الحكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحق، الحابس نفسه على ذات الله، والسلام” (ص204).

يشير الكاتب كذلك إلى عدم تطرُّق عليٍّ زين العابدين بن الحسين في خطبته في الشَّام إلى مسألة الوصيَّة بالإمامة، وقد جاء في تلك الخطبة “أيُّها الناس، أُعطينا ستّاً وفُضِّلْنا بسبع، أُعطينا: العلمَ والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبّة في قلوب المؤمنين. وفُضِّلْنا: بأنّ منّا النبيَّ المختار محمَّدًا، ومنَّا الصدِّيق، ومنَّا الطيَّار، ومنَّا أسد الله وأسد رسوله، ومنَّا سبطا هذه الأمّة (الحسن والحسين). مَن عرفني فقد عرفني، ومَن لم يعرفني أنبأتُه بحسبي ونسبي. أيًّها الناس، أنا ابنُ مكّةَ ومِنى، أنا ابنُ زمزمَ والصَّفا، أنا ابنُ مَن حَملَ الركن بأطراف الرِّدا، أنا ابن خير مَن ائتزر وارتدى، أنا ابن خير مَن انتعل واحتفى…أنا ابنُ مَن صلّى بملائكة السماء، أنا ابن مَن أوحى إليه الجليلُ ما أوحى، أنا ابن محمَّدٍ المصطفى. أنا ابنُ عليٍّ المرتضى، أنا ابن مَن ضرَبَ خَراطيمَ الخَلْق حتّى قالوا: لا إله إلاّ الله، أنا ابن مَن ضرب بين يدَي رسول اللهِ بسيفَين…أنا ابن المؤيَّد بجبرئيل، المنصور بميكائيل، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين، وقاتلِ المارقين والناكثين والقاسطين، والمجاهدِ أعداءه الناصبين…ثمّ قال: أنا ابن فاطمةَ الزهراء، أنا ابن سيّدة النساء”.

يستنتج الكاتب، بعد استعراضه تاريخ نشأة نظريَّة الإمامة لدى الشِّيعة، أنَّ “نظريَّة النص وتوارُث السُّلطة في أهل البيت فقط، لم يكن لها رصيد لدى الجيل الأوَّل من الشِّيعة، ومن هُنا فقد كانت نظرتهم إلى الشيخين أبي بكر وعمر نظرة إيجابيَّة؛ إذ لم يكونوا يعتبرونهما ‘‘غاصبين’’ للخلافة التي تركها رسول الله (ﷺ) شورى بين المسلمين، ولم ينص على أحد بالنصوص” (ص31).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى