مقالات

العقد الفريد لجارنا أبو سعيد

طارق منصور

ناشط إعلامي
عرض مقالات الكاتب

يرى مراقبون أن ما آلت إليه الأمور في سوريا من حالة تفتت وتمزق في المجتمع السوري هي خراج الحرب القائمة، منذ ثماني سنوات، وأن الحروب منذ الأزل تسبب في تفكك المجتمعات.

في سوريا تفاقم الأمر حتى بلغ منتهاه  إلى أن وصل للأسرة والفرد ، والفرد هو  المكون الأساسي للمجتمع. في سوريا الأسد، “الفرد قرد” هكذا أًريد له أن يكون بعد الحركة التصحيحية المجيدة. فقد كان هذا من أهم منجزاتها.

أبو سعيد أب لخمسة أبناء كانوا العقد الفريد الذي يضعه برقبته ويتباهى به أمام الناس، عِقدٌ ظل يعملُ على صناعته ثلاثين عام.

اضطر أبو سعيد مُكرهاً أن يخلع العقد عندما اعتقله الأمن السوري بالقرب من ساحة، كانت تعج بالمتظاهرين، وبدون أي تهمة وجد نفسه تحت سياط الجلادين، الذين لم يدخروا أي وسيلة لتعذيبه، كانوا سبعة يتناوبون على تعذيبه وثامنهم كلبُ يكتفي بإعطاء الأوامر، ليس الكلام فقط قد حُرِم في سوريا الأسد حتى النظر والسمع ولهذا ظل أبو سعيد لياليٍ طوال على الكرسي الألماني كان يُشبح لليالٍ متواصلة دون طعام وشراب، ليالَ طويلة قضاها كرئيس مستبد لا ينجلي، كان يذوق وبال ما رأت عيناه وما سمعت أذناه.

لم يخشى النظام السوري المتظاهرين الهاتفين بأعلى أصواتهم “حرية” في ذلك الوقت فقط، بل إنه كان يخشى وقعها في آذان المارين في الطرقات، يخشى هتاف “سوريا لنا وماهي لبيت الأسد” أن يخاطب الأرواح والعقول فيتحول القرد الذي في عينيه إلى إنسان وينسلخ عمَ اُكرِه عليه وتزول اللعنة التي حلت على هذا الشعب مُنذ انقلاب أعتى القرود في السبعينيات.

خرج أبو سعيد من المعتقل بعد أربع سنوات في عفو أصدره الرئيس المفدى “بشار الأسد” وكله شوق إلى ارتداء العقد في عنقه التي كانت تضيقُ بالعقد وباتت أدق من ساق النعامة، وهذا ما يجعل للقائمين على السجون السورية سمعة تفوق سمعة  القائمين على سجون أخرى “كبرج رومي” في عهد زين العابدين بن علي في تونس، أو سجن “العقرب” في مصر.  فإن المعتقل السوري يدخل الزنزانة بمأكمةٍ يضِيقُ الباب عنها، ويخرُجُ إن كُتِبَ له الخروج كعود الخيزران، لن يستطيع أبو سعيد بعد اليوم أن يرتدي العقد،  لا لأن العنق نحيلة بل لأن العقد انقطع واللآلئ انتثرت في كل حدب وصوب. تمنى لو أنه توفي في المعتقل على “الكرسي الألماني” عندما علم أن ابنه الصغير المتعطش للحرية فارق الحياة على ذات الكرسي بعدما  وشى به أخاه الكبير إلى صديق له في المخابرات بأنه مندس و “بحاجة لفركة أذن” كي يستيقظ من أحلامه ومن تأثير المخدرات التي كان الإرهابيون يدسونها في مياه الشرب وسندويش الفلافل.

فعلها ووشى بأخيه عن قناعة تامة بأنه يخدم الوطن الحبيب سوريا، لكن أي وطن!، سوريا في نظر مؤيدي النظام ليست الجمهورية العربية السورية، بل هي سوريا الأسد وهذا ما ظهر في تسجيل فيديو نشر منذ مدة لقائد قوات النمر في الجيش السوري “سهيل الحسن” عند هتاف أحد إعلاميين النظام “بروح بالدم نفديك سوريا” فغضب النمر واشتعلَ غيظاً وأهانهُ على كفره البواح هذا على الملأ قائلاً: سوريا هي بشار الأسد ولاك، سوريا غابة والأسد ملكُها وما نفع الغابة دون أسد! ومن ثم كيف لنا نحن كقرود ملعونة منذ عقود أن نحيا دون ملك! هكذا هم يرون سوريا، على كل حال لا يحتاج السوريون الغير قرود إلى هذا الفيديو ليعلموا أن سوريا ليست لهم هم يعلمون أن سوريا لم تكن يوماً لهم.

ولأن المستبد لا حول له ولا قوة إلا بزبانيته أعداء الحق والحرية أورث الحاكم بأمره حافظ الأسد ابنه الجيش العقائدي الجيش الأسدي، الجيش الذي أسسه هو بنفسه وراح يُلقمهُ بأطراف البنان حتى طر شاربه وتعلم الرماية وركوب الطائرات والدبابات ودهس الأبرياء والتعساء، الجيش الغير سوري الذي كان ولا زال نواة القوة واليد التي تصفع كل من يعارض العائلة الحاكمة. في فيلم وثائقي بث على قناة الجزيرة  تسجيل فيديو نادر لجندي من الجيش السوري في سبعينيات القرن المنصرم يسأله أحد أصدقائه ماذا لو أن أهلك عارضوا الدولة ولديك أوامر أن تأتي بالدبابة إلى بيوت المعارضين ماذا تفعل؟ أجابه اذهب إليهم واخبرهم بأن ينزلوا إلى حكم الدولة ويطيعوها. قال له: ماذا لو رفضوا؟ قال: أنا لا استطيع أن أرفض الأمر العسكري وسوف اهدم المنزل وليموتوا جميعاً.

بهذا الجيش العقائدي وبجنوده العامرة قلوبهم بالعقيدة الوطنية الأسدية استطاع الأسد أن يحكم سوريا بيد من حديد عبر عقود.

لم يصدق ابو سعيد أن ابنه الأوسط محمود عازف العود ومطرب القدود، انخرط ضمن كتائب الثورة المسلحة وتنقل ما بينها إلى أن وقع في شِراك ماكينة داعش الدعوية العاملة على استقطاب الشباب وشحنهم بأفكار التطرف بعد تهيئة عقولهم وغسلها لمدة لا تقل عن الثلاثين يوماً، في جلسات يطلقون عليها اسم “الدورة الشرعية” تُنتج في كل شهر عدد لا يُستهان به من شُبان منفعلين للقتال والقتل طامحين بجنة يزعمون أنها الجنة التي وعد الله بها عباده الصالحين. ألا خاب الرجاء وخاب القاتلين. قُتِلَ محمود في غارة نفذها طيران التحالف، وأورث أباه العود وأشرطة فيديو سُجلت بصوته عندما كان يشجو بالغناء.

إن سوريا بلادٌ تحمل طابعاً إسلامياً علمانياً كما قالت الرفيقة الداعية الدكتورة “خلود خادم السروجي”، فإن صح ما قالت وقد صح فهذا يتيح للنظام التصرف والنظر في القضايا وفقا لمصلحة النظام نفسه. فإن كان (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) في البلاد القائمة على النظام الإسلامي، ففي سوريا الإسلامية كذلك أيضاً. إلا أن هذا يحتاج إلى أن تكون الأنثى مطيعة ولا تعصي للنظام أمرا، وإن كان العكس فيصبح النظام علمانياً يساوي بين الجنسين لا يفرق بين أنثى وذكر

فيكون للأنثى في سوريا العلمانية الديمقراطية مِثلُ حظّ الذّكر، لا بالميراث بل بالعذاب والقهر والتشريد والتهجير ، ولهذا هاجرت إحدى لآلئ العقد الثمين من سوريا الإسلامية العلمانية إلى أوروبا العلمانية الكافرة

لتنعم بالأمن والأمان والعدل، والعدل أمر به القرآن على لسان الصادق الأمين، وعطله في سوريا  الكاذب الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي.

لم تنعم آخر لؤلؤة في العقد بحياة كريمة آمنة بعد أن تزوجت  مقاتل في صفوف الثوار لقد عاشت تحت البراميل المتفجرة والصواريخ الارتجاجية وقُطِعت عن العائلة فالأخ الكبير يراها زوجة خائن للوطن والآخر كان يراها زوجة مرتد عن دين الإسلام.

كان لتنظيم داعش دور فعال بتمزيق المجتمع السوري وتحويله إلى قبائل وشعوب متحاربة، واذكر هنا قصة حصلت مع كاتب السطور في “مخيم اليرموك” عندما التقيت بشاب كان يقطن ذات الحي الذي اقطنه وسؤالي عن والدته التي كانت سيدة طيبة تعين المسكين وتقري الضيف وتعين على نوائب الدهر اجابني بلغة عربية فصحى رديئة وقد صار اسمه “أبو الزبير” أمي كافرة وأبي كذلك وأنا لا أحدثهم وهم يقيمون في مناطق خاضعة لسيطرة النظام الكافر، وكم أتمنى لو أنني أظفر بأخي المتقاعس عن الجهاد بحجة إعانته لوالديه كي أتقرب إلى الله به. ومضى دون أن يلقي تحية الإسلام.

ما بين تطرف داعش وغيرها وسطوة النظام الجاثم على صدور السوريين منذ عقود، يزداد الشرخ اتساعاً، ويكثر الموت والقتل يوماً بعد يوم، موت بتهمة الردة وآخر بتهمة الخيانة، ولكن يبقى أشهى وألذ موت ذاقهُ الشعب السوري في ازدحام الموت وتنوعه هو الموت في تهمة الحرّية، حُرّيةٌ حمراء مضرجة بدّماءٍ لُونها لون دم وريحها ريح مسك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى