مقالات

شعبنا اليوم شعب العجائب المربكة

الدكتور عزت السيد أحمد

كاتب ومفكر سوري
عرض مقالات الكاتب

قبل أن أن أدخل في صلب الموضوع أريد أن أبدأ من بداية مريبة:

كيف أستطيع أن أفهم بل كيف أستطيع أن أنكر أو أدحض قول بشار الأسد قبيل اندلاع الثورة السورية: «شعوبنا ليست مؤهلة للديمقراطية الآن، إنها تحتاج إلى خمسين سنة»؟. وهذا القول قاله وكرره قبله وبعده كثير من القواد العرب مثل حسني مبارك وعلي عبد الله صالح والسيسي وابن سلمان…

لا تحدثني عن مؤامرة خارجية ولا مؤامرة كونية ولا عن تكالب الأمم علينا وعلى ثوراتنا… حدثني عن مدى استحقاق شعوبنا الديمقراطية ومدى أهليتهم لممارستها.

عندما أقول شعبنا فشعبنا من المحيط إلى الخليج بل من طنجة إلى جاكرتا، شاء من شاء وأبى من أبى، ومن لم يعجبه ذلك فليس ثمة أكثر من الجدران ليطرق رأسه بأي منها شاء.

لماذا هذه المقدمة؟

لأني أريد التحدث على الشعب  التونسي بوصفه شعبي، وهو كذلك، والزباب الإلكتروني والفصامي يسيئه أن يتكلم (غريب) عمَّا يدور في بلده، وهذا الزباب بالمناسبة هو أكثر من يرفض الخير لبلده بالضرورة، فكلما تحدثنا عن مأساة مصر خرج علينا الذباب المصري ورفض كلامنا بذريعة أننا لسنا مصريين، وكذلك التونسيون، والخليجيون… وهلم جرًّا.

أبدأ من آخر الأحداث سخونة هو حدث اليوم؛ فوز نبيل القروي رئيس حزب قلب تونس بالانتقال إلى الجولة الثانية جولة الإعادة في انتخابات الرئاسة التونسية مناصفة مع الأستاذ الجامعي المستقل قيس سعيد.

مر هذا الخبر عاديًّا تماماً في مختلف وسائل الإعلام التونسية والعربية والعالمية، بل إن أكثرهم استملح الروح الديمقراطية والحرية في هذه النتيجة… وأشاد الكثيرون بالشعب التونسي على وعيه ونضجه الديمقراطي… وذهب أكثر إلى أنَّ هذه النتائج علامة فارقة في تاريخ الديمقراطية وخاصة الديمقراطية التونسية.

مرَّ الخبر بمرونة وانسيابية وسلاسة وعذوبة ومن دون إلقاء أي ضوء جديٍّ على هذه المصيبة الكبرى على الرغم من وضوحها الفاقع، وعلى الرغم من أنَّ وسائل الإعلام كلها قالت صراحة إن المرشح نبيل القروي موجود في السجن بتهم فساد متعددة. بل بدل تسليط الضوء اللازم على هذه القضية المصيبة سلطوا أضواء عكسية فجعلوا من الفاجعة مأثرة للديمقراطية التونسية وتفاخر بها الشعب التونسي وهي نجاج سجين متهم بالفساد في الانتحابات الرئاسية، وقد رفضت السلطة القضائية الإفراج عنه قبل الانتخابات ليقوم بحقوقه الدستوية بحملة انتخابية يضمنها لها الدستور، وهذا أمر عجيب، ليس عدم السماح لها بالخروج من السجن للقيام بحملته الانتخابية وإنما قبول ترشحه للرئاسة وهو في السجن قيد المحاكمة بتهم فساد أي بانعدام النزاهة!

صورة المشهد الآن:

الشعب التونسي يفضل ويرجح ويختار أن يكون رئيس جولته المتهم بالفساد على رغم وجوده في السجن للمحاكمة، وعلى الرغم من رفض  القضاء الإفراج عنه ولو مؤقتاً لعدم وجود ما يكفي من الأدلة التي ترجح براءته. الشعب التوسي فضله ورجح على أكثر من عشرة مرشحين لرئاسة الجمهورية.

ماذا يعني ذلك؟

وكيف يمكن أن نفهم ذلك؟

منذ وقت غير قريب كتبت مقالاً أثبت فيه عدم التناقض بين حكمتين جميلتين شهيرتين تبدوان متناقضتين، الأولى: «الرعية على دين ملوكها»، أو بلفظ آخر «الناس على دين ملوكها»، والثانية: «كما تكونوا يولى عليكم»، ولا أعيد مناقشة التلازم بين هاتين الحكمتين وإنما أبدأ من عدم تناقضهما لأقول: إنهما كلاهما تنطبق على حال الشعب التونسي من دون مجادلة، كما انطبقت من قبل على الشعب المصري الذي أسقط ثورته بيده وانقلب عليها بتأييد الحكم العسكري… ومثل ذلك حدث في سوريا والثورة محتدمة… ولم يختلف الأمر كثيراً في السودان ولا نعرف إلى الآن إلى أين تسير عربة الثورة الجزائرية…

لماذا من دون مجادلة؟

لأنه لا يوجد عذرٌ بحال من الأحوال، ولا يوجد تسويغ… من بين أكثر من عشرة مرشحين لم يقع انتخاب الشعب التونسي إلا على سجين متهم بتهم فساد وغسيل أموال، وليس معتقلاً سياسيًّا، ولا معتقل رأي… إنه مسجون بتهم فساد وغسيل أموال، والقضاء التونسي لا غيره رفض الإفراج عنه لعدم وجود ما يكفي من الأدلة أو الحجج أو الذرائع لترجيح براءته.

حسناً، أيحتمل أن يكون بريئاً والشعب يعرف أنه بريء أو يتوقع أن يكون بريئاً؟

هذه ذريعة باطلة بالمجل والتفصيل، فالقضاء مهما كان رأيك فيه قد رفض الإفراج عنه بحال من الأحوال لعدم وجود ما يكفي من الأدلة لترجيح الإفراج عنه ولو مؤقتاً.

مع ذلك، دعك من ذلك، ما المنطق الذي يحدو بشعب لانتخاب شخص مشبوه لرئاسة الجمهورية؟ شخص متهم بالفساد وموجود ومسجون قيد المحاكمة بهذه التهمة حتى ولو كانت التهمة غير مؤكدة؟

منطق علم النفس يقول إنَّ الناس تميل إلى تصديق الشبهات والشائعات وخاصة المؤيدة بوقائع وقرائن داعمة، فتميل إلى تصديق مثل هذه التهم من دون محاكمة منطقية، وإذا ثبتت البراءة فإنها لا تذكرها ولا تنشغل بها مثل انشغالها بإثبات التهمة وتصديقها. ومثل هذا ما نجده بوضوح وكثرة اليوم مع كثير من الأبرياء الذين تم اتهامهم زوراً فمشت الناس مع الاتهام الزور وكانت خير مروج له، بينما هذه الناس ذاتها عاملت المتهمين على الرغم من ثبوت إداناتهم بالأدلة القرائن على أنهم أبطال وشرفاء… لم يصدقوا براءاتهم على رغم وضوحها… فكيف اتفق للشعب التونسي أن يشذ عن هذه القاعدة البشرية؟

قد يعترض معترض بأن هذه ليست إلا مصادفة، والأمر مرتبط باللعبة الانتخابية وما قد تؤدي إليه من مفاجآت غير متوقعة أو غير مقبولة أحياناً.

هذا الاعتراض وهذا التفسير غير مقبول لمن يعرف بالألعاب الانتخابية. لم يسبق أن حدث مثل هذه المصادفة مهما كانت الألعاب الانتخابية حتى ألعاب الأطفال الانتخابية. ولكن نحن نقول مصادفة! نعم مثل هذه المصادفة اسمها المصادفة المستحيلة. تخيل أن اللعبة الانتخابية التي مارست الأحزاب المتمكنة تؤدي إلى فوز سجين بتهم فساد متعددة ومعه من لا سند له بين الأحزاب جميعاً… يعني حتى في الكوميديا السينمائية يخجلون من تطبيق مثل هذه المصادفة.

ولذلك لن أتساءل إن كان فوزه مصادفة فعلاً أو مزاحاً.

من الحماقة بمكان قبول أنها مصادفة في وقتها على الأقل ولا أتحدث عما قبل ولا عما بعد. فما قبلها كان دليلاً على أنها لم تكن مصادفة وليست مصادفة ولن تكون مصادفة.

ما قبل هذه الانتخابات الرئاسية كانت الانتخابات الرئاسية السابقة. الذي حدث في الانتخابات الرئاسية السابقة أعجب من العجب. لقد أسقطوا الرئيس الذي عندما غادر كرسي الرئاسة ترك في المكتب كل الهدايا التي أهديت له وهو رئيس قائلاً: «إنها ليست من حقي، لقد أهديت لي بوصفي رئيساً ولم أعد رئيساً، فتبقى لرئيس الجمهورية».

ولصالح من أسقط هذا الرئيس؟

لقد قامت الثورة في تونس ضد نظام زين العابدين بن علي ورجالاته الذين لا يقلون عنه تشرباً لعقلية السلطة وفلسفتها، وتم تشكيل حكومة انتقالية لمدة سنتين، وفي أول انتخابات ديمقراطية انتخب التونسيون رجال زين العابدين بن علي لرئاسة الدولة ثم البرلمان…!!!

كانت تلك النتتائج مثار سخرية لا حدود لها في حينها، وظلت هذه السخرية مستمرة حتى جاءت الانتخابات الجديدة، وقيل فيها على مدار أربع سنوات ما قيل حتى جاءت الانتخابات الجديدة بجديد سيؤدي إلى تجاوز تلك السخرية بسخرية أشد. فهل كانت تلك الانتخابات السابقة مصادفة؟ كانت السلطة بيد الثورة عمليًّا، فلو كان ثمة تزوير لكان لصالح السلطة الحاكمة أي السلطة الانتقالية ورجالها. لقد كانت انتخابات ديمقراطية، والديمقراطية عكست المزاج العجيب لشعب ثار على نظام وقلعه من جذوره وهو في الأصل نظام انقلابي غير شرعي، ليقوم هذا الشعب ذاته بإعادة النظام المقتلع ذاته ولكن بشرعية وديمقراطية.

ومع ذلك، لندع الانتخابات السابقة، ولنسأل:

هل وعى الشعب أو أدرك أو تاب أو عاد إلى جادة الصواب؟

كيف يمكن تفسير هذه النتيحة في الانتخابات الأخيرة؟ اختيار متهم بالفساد والتهمة فيما يبدو من سياق الوقائع وتصريحات القضاء، ولا دليل عندي، أنها مؤكدة وإدانة محكمة، حتى إن القضاء كما أشرنا رفض محض إعكاء فرصة للمتهم بالتعبير عن نفسه في حملة انتخابية الأمر الذي يكفله الدستور بشدة!!! رفض وصوله بأي طريقة إلى جمهور الناخبين ليستاوى مع المرشحين الآخرين في فرص العرض والاستعراض والإغراء لكسب أصوات الناخبين.

حسناً، دعم من ذلك مرة أخرى، لنبق في احتمال المصادفة المستحيلة وهي أن نجاحه كان مصادفة. واللعبة الانتخابية هي التي أدت إل هذه المصادفة المستحيلة.

ماذا حدث بعد ذلك؟

قبل أمس كانت الانتخابات البرلمانية التونسية. ومنذ انتهاء الجولة الانتخابية وفي هذا اليوم أيضاً تؤكد الحقائق حسب استطلاعات الرأي وبعض التلميحات شبه الرسمية  أن مرشحي حزب المرشح الرئاسي المسجون بتهم الفساد قد حصلوا على الكتلة الأكبر في البرلمان وإن لم تكن الكتلة الأكبر فالكتلة الثاني في البرلمان… يعني لو قليل من الحظ والتصادف لاحتل حزب قلب تونس أي حزب نبيل القروي المرتبة الأولى من دون منازع وانفرد بتشكيل الحكومة ورسم وتنفيذ سياسة الدولة!!!

هل بات من القبول أو المعقول الكلام على مصادفة؟

أصلاً لم يكن من اللائق بالمنطق والعقل القبول بأنه كانت مصادفة. والآن انقطع الشك باليقين ولم يعد من الممكن أبداً القبول بأن هذا ليس هو خيار الشعب، وإرادة الشعب… وأن هذا هو الشعب وهذا ما يريده الشعب: رئيس أو حاكم متهم بالفساد، وحكومة حزب صاحبه متهم بالفساد، وبرلماناً أغلبه من حزب صاحبه متهم بالفساد…

ويبقى السؤال الخطير مشرعاً ومشروعاً، والذي سيكون جوابه بعد بضعة أيام، وهو:

هل يمكن أن يفوز نبيل القروي في الانتخابات ويصير رئيساً للجمهورية؟

وماذا يمكن أن يكون فيما لو كسب الانتخابات وصار رئيساً للجمهورية؟

وماذا سيكون أمامنا من دلالات جديدة؟

بل وأضيف: ماذا لو فاز ورفض القضاء الإفراج عنه؟

مهما كانت النتائج فإن ما حدث إلى الآن وحده ليس أقل سوءاً مما حدث في الانتخابات السابقة بشقيها الرئاسي والبرلماني… ولم يعترف التونسيون بأنهم أخطأوا من قبل، ولن يعترفوا بأنهم أخطأوا اليوم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى