يُقال: المؤمن لا يُلدغُ من جحرٍ مرتين، وإنَّما المؤمن الحصيف والنبيه مَن ينطبق عليه هذا القول، لكن مفهوم المخالفة لهذا القول أنًّ غير المؤمن سيلدغ مرات ومرات من عينِ الجحر وهو حال قسد من الذين نصبوا أنفسهم قياديين على الأكراد.
تمضي الأحداث متسارعةً في شرق الفرات، على عكس ما كنا نشهده من بطءٍ في مسيرتها خلال الأشهر الماضية، وبخاصة فيما يتعلق بالمفاوضات الماراثونية التي جرت على جولات متعددة بين المسؤولين العسكريين في تركيا وأمريكا، لتقرير إنشاء المنطقة الآمنة في الشمال السوري، وكان آخر هذه الاجتماعات في الشهر الماضي عندما اجتمع مسؤولون كبارٌ من الجانبين، في أنقرة، واتفقوا على خطوات عديدة وأنشأوا مركزًا لعمليات مشتركةٍ فيما بينهما في ولاية شانلي أورفا التركية.
لقد اتسمت جميع اللقاءات السابقة بالبطء كما قلنا، وربما مرد ذلك يعود لجملة عقبات كانت تعترض هذه الاجتماعات، عقبات كأْداء كثيرةٌ، أولُّها عمق المنطقة الآمنة التي كانت عامل شدٍّ وجذبٍ بين المسؤولين الأتراك والأمريكيين، بين كثيرٍ تريده تركيا، وقليل من العمق تريده أمريكا، والعقبة الثانية تمثلت بموضوع من سيكون صمام الأمان والحاجز بين الحد الفاصل بين قسد وبين القوات التركية، والحديث كان يدور دائماً عن طبيعة وتكوين هذه القوة التي ستتولى المهمة.
تركيا لم تكن جادة ومصرة يومًا، كجديتها وإصرارها اليوم في جعل المنطقة الآمنة واقعًا ملموسًا على الأرض، منطقة خاليةً ومطهرة من جيوب الإرهاب الذي يؤرق أمنها القومي متمثلًا بوجود الأحزاب الانفصالية على حدودها الجنوبية من ال ب ك ك و ال ب ي د و”قسد” التي تعتبر الذراع العسكري لحزب العمال الكردستاني..
“قسد”أو قوات سوريا الديمقراطية كما يحلو لأمريكا أن تسميها، والحليف “التكتيكي” للولايات المتحدة الأمريكية في حربها على داعش، لم تكن لتستطيع أن تتقدم شبرًا واحدًا في كل المناطق التي تقدمت إليها، لولا مساندة الطيران الأمريكي لها، الذي كان يعمل وعلى مدار الساعة في جميع معاركها التي خاضتها، من الرقة إلى أرياف حلب الشمالي، إلى ريف دير الزور الشرقي في شرقي الفرات “والجزيرة.”
كلنا يذكر ما فعله الطيران الأمريكي في “الباغوز”الذي وُصِف بأنه كان آخر معقل لتنظيم الدولة في سوريا، والذي لم يكن سوى جيب صغير، وعلى صغر مساحة هذا الجيب لم تستطع قسد أن تتقدم إليه إلا بعد مجازر، وقصف جوي أمريكي لأيام، حُصدت أرواح المئات فيه حتى استطاعت قسد السيطرة عليه أخيرًا..
اليوم استفاق الجميع على جملة من القرارات الأمريكية، حول المنطقة الآمنة في سوريا، والتي كما قلنا أنها جاءت متسارعة، من إعلان أمريكا انسحابها على لسان رئيسها ترامب من المناطق الحدودية مع تركيا، وترك الحليف التكتيكي لواشنطن، يلاقي مصيره الذي سيلاقيه بمواجهة جيش يعتبر خامس أقوى الجيوش في العالم، وتصريح أمريكا كذلك بأن تركيا ستجتاح شرق الفرات، وإبداء أمريكا قلقها على مصير حلفائها الأكراد، وغيرها من القرارات التي اتخذتها أمريكا في هذا المجال، لكن التصريح الأمريكي اللافت الذي قرأناه، تمثل بالصفة التي أشارت إليها أمريكا إلى حليفتها قسد عندما قال ترامب:” إن الأكراد حاربوا إلى جانبنا لكننا دفعنا مبالغ ضخمة لهم للقيام بذلك”، كلام ترامب هذا أسبغ صفة الارتزاق على حليفته قسد، وربما لم يجانب الحقيقة في وصفه هذا، فهم لا يَعْدون عن كونهم مرتزقة، شأنهم شأن مرتزقة “فاغنر” الروسية الذين يقاتلون إلى جانب القوات الخاصة الروسية في سوريا.
الميليشيات الكردية الانفصالية ربما ظنّت أن لها من القوة ما يجعلها متصدِّرة، ويحسب لها ألف حساب، وأن أمريكا لم ولن تفكر يومًا بأن تتخلى عنها، أوتستغني عن خدماتها؛ لكن حدث ما لم يكن متوقعاً، وهذا ما انعكس في تصريح لأحد قيادات ميليشيات قسد اليوم عندما قال بأنه “تفاجأ” من قرار أمريكا بانسحابها من شرقي الفرات، وأن ذلك وبحسب وصف هذا القيادي شكّل قرار انسحاب أمريكا من شرقي الفرات طعنة لنا في الظهر””.
مشكلة الأكراد المزمنة والمستعصية أنهم لا يستفيدون من دروس الماضي، البعيد منه، و القريب، ويقعون في كل مرة بأخطاءٍ، وقع بها الذين سبقوهم من قيادات، فقد قيل فيهم :أن تكون كرديًا فهذه ليست مشكلة، أما أن تكون كرديًا و فوقها غبياً، فهذه أمُّ المشاكل، فالقضية الكردية ومسألة إنشاء وطن للأكراد، حلم راود كثيرين من الأكراد، وقياداتهم الذين لطالما عزفوا على هذا الوتر، لحشد عموم الأكراد من حولهم، هذه القيادات التي صادرت قرار الشعب الكردي بمغامراتها، ومقامراتها، والتي فرضت نفسها على الشعب الكردي، فهؤلاءوأعني القيادات استخدموا كأداةٍ وذراع على مدار عشرات السنين، في كل مرة تظهر مشكلة في الإقليم، فقد.استُخدموا دائماً، وفي كل مرة يُستَخدمون فيها، وبعد انتفاء الحاجة إليهم يُرمون من الدول التي استخدمتهم كأداة لتحقيق مآربها في مناطق كثيرة،هذه الدول عرفت اللحن الذي يُطرب هؤلاء، وعرفت على أي وتر تعزف، وتر إنشاء وطن لهم، مدغدغة مشاعرهم في حلم الدولة التي يأملون، ما حصل في إقليم كردستان العراق الذي يتمتع ومنذ مطلع السبعينات بحكم ذاتي، ومع هذا لم يشفع لهم هذا الحكم الذاتي بأن يقرروا الاستقلال عن العراق، فعندما دعا رئيس إقليم كردستان مسعود البرازاني سكان الإقليم للإستفتاء على الاستقلال عن العراق في خريف 2017 ، جُوبِه برفض دولي كبير، مما جعل برزاني يعيد حساباته مرة أخرى، ويتقرب من بغداد، ليخطب ودها، ولتصفح عنه، بعد اتخاذه هذه الخطوة، خطوة الاستفتاء على الاستقلال.
الميليشيات الكردية وقياداتهم لم يتعلموا الدرس، ولم يدركوا هذا فهم عنه ساهون، وذاكرتهم على مابدا ويبدو مثقوبة عن أحداث ليست عنهم ببعيد، السياسة وماتبنى عليها مصالح “الدول”هم أبعد من بعيد عنها، فهم لم يفرقوا بين حليف تكتيكي مرحلي يُنشأُ لغاية محددة ولزمن محدود، كما هي علاقتهم مع أمريكا، وببن حليف استراتيجي مهم لأمريكا، لا يمكن الاستغناء عنه تحت أي عنوان، دولة ذات وزن اقليمي ودولي كتركيا،وفوق هذا وذاك هي عضو مهم في حلف الناتو، واليوم صرح ترامب ” أن الكثيرين ينسون أن تركيا شريك تجاري مهم لأمريكا وتصنِّع أجزاء من طائرة إف 35″ فهل من المعقول أن تكسب أمريكا قسد، وهي على ما هي عليه من الارتزاق كما وصفها ترامب، وتخسر تركيا حليفتها الاستراتيجية لعشرات سنين خلت..!!؟
ماجرى اليوم من انقلاب أمريكي على حليفه التكتيكي “قسد”، لم يفاجئنا، فما قامت به أمريكا وصرحت به من أنها لن تقاتل الى جانب قسد، وانها ستنسحب من المناطق الحدودية، وعشرات من التصربحات الأخرى التي تناقلتها وكالات الأنباء، والمهتمين بالشأن السوري وعلى مدار ساعات، تصب في اتجاه أن الدول لاتنظر إلا للدول التي مثلها، والتي لها علاقات ومصالح طويلة الأمد، وليس علاقة مع جماعات إرهابية، يزول تحالفها معها في الوقت الذي تزول فيه مصلحتها معها
لا أحد ينكر أن للطيور الصغيرة أحلاماً، ولكن النكران يصبح واجباً، إذا كنت صغيرًا في كل شيئ، من جسم ومن عقلٍ، ومع كل هذا الصِغر تكون أحلامك كبيرة، فأنَّى لعصفور أن يحلم كما يحلم الصقر؟ وقسد أرادت ان تحلم حلم الجوارح من الطيور، ولكن ما إن بدأت بالحلم حتى استفاقت على وقع طبول تدعوها لليقظة، فما تطلبه قسد من زخرفٍ” دولتها” هو أساس ألمها، وما تحاول أن تفعله لأجل هذا الحلم سيجعلها نديمةٌ للندم..!!