بحوث ودراسات

“مولانا”: صراع الإسلام والحداثة بين النص الروائي والرؤية السينمائيَّة 3 من 5

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

المتنصِّرون يُفحمون حاتم بحجتهم القوية بأنَّهم قرأوا العديد من الكتب التي تبيِّن ضعف الإسلام وتناقضاته بعد أن اتهمهم بدخول دين جديد بدون قراءة مستفيضة، وهناك إشارة إلى أنَّهم من طبقات متفاوتة من المجتمع (ص205). يدافع حاتم عن هزيمة بعض المشايخ في المناظرات أمام القساوسة بطريقة ساخرة (الشيخ كان ضعيفًا أو كانت زوجته مزعلاه، مناظرة مفبركة)، مع إشارة حاتم إلى أنَّ المشكلة هي أنَّ المشايخ هم سبب العلة “لأنَّهم فهَّموهم الدين غلط”، ثم انتهاء الجدال وكأنَّه لصالح حاتم، وليس الشباب، رغم أنَّه أكد أنَّ ما يهمه كان عدم اطِّلاعهم على الدين الذي دخلوه وهم أكدوا أنهم فعلوا (ص205).

ينتقد الروائي سعادة المصريين المسلمين بدخول أي مسيحي الإسلام، وهؤلاء عادة من النساء، بينما لا يفعل المسيحيون ذلك عند تحوُّل مسلم إلى المسيحية (ص211)، مع الادعاء أنَّ المشايخ أكثرهم من الفقراء الذي يستخدمون دراسة الدين في التكسُّب من خلال الرقية على أبناء أثرياء النفط أو ترتيل القرآن في بيوت الفاسدين من أصحاب الأموال، ممن يستخدمون المشايخ ستارًا لإخفاء فسادهم (ص213). يسرد حاتم بعد ذلك واقعة دعوته إلى حفل أقامه أحد أثرياء الريف، كان ينوي الترشح في مجلس الشعب، للاحتفال بتحوُّل فتاة مسيحية إلى الإسلام، وبحمايتها، وبتكفله بتكاليف تزويجها من شاب مسلم، وبالطبع تهافت الشباب على تلك الزيجة (ص213).

صورة 15 – من فيلم مولانا

يسخر حاتم من صيدلي افتخر بأنَّه أول صيدلي مسلم في القرية بأن سأله حاتم لماذا لا يخترع هو وزملاؤه أدوية في نفس فعالية الأدوية المستوردة، مستخفًّا بالتداوي بالقرآن الكريم. يسعى حاتم إلى إثبات تفوُّق الغرب “المسيحي” في الطب، وعجز العرب المسلمين عن اللحاق بهم، متِّهما الصيدلي بالانشغال عمَّا هو مطلوب منه بما ليس مطلوبًا منه، يقصد الدعوة إلى الإسلام، ومدَّعيًا اعتياد المسلمين على نشر مادَّة إسلاميَّة تجتذب إليهم المسيحيين؛ فيقبل قليلو العلم منهم على الإسلام، دون وعي كافٍ لديهم، أو حتَّى لدى من يدعوهم إليه. في حين أنَّ في الحقيقة تعمل الجماعات التبشيريَّة بكافَّة السبل الممكنة في سبيل تنصير المسلمين، كما سبق الإيضاح تفصيلًا في الدراسة السابقة (ص215):

يدور بعد ذلك حوار طويل بين حاتم وزوج الفتاة التي دخلت الإسلام يثبت الكاتب من خلاله أنَّ الفتاة متوسطة التعليم ما كانت لتدرك معنى الإسلام من خلال كتب كبار الأئمة، مع منح الفتاة مبررًا لترك دينها، وهو صعوبة طلاق الزوجة التي تتعرض إلى سوء معاملة من زوجها، أي أنَّ عقدة الفتاة مما رأته أمها من أبيها كان وراء ترك دينها (ص218). نجد تلميحًا إلى أنَّ عمل زوج الفتاة التي تركت المسيحية في السعوديًّة 5 سنوات كان وراء اتجاهه إلى تحويلها إلى دينه، وإلى أنَّ الحب والإعجاب غررا بالفتاة، وليس اقتناعها بالإسلام، مع الإشارة إلى إقامة حفل كبير بهذه المناسبة لإغاظة المسيحيين “الأعادي”، وإلى مباركة رجال الأمن لما حدث وحضورهم الزفاف (ص219). ولمزيد من التأكيد على تناقض موقف السلطة الرسميَّة من تحوُّل المسيحيين إلى الإسلام وتحوُّل المسلمين إلى المسيحيَّة، يعود بنا الروائي إلى موضوع تنصُّر الشباب الثمانية، والإشارة انزعاج رجال السلطة من الأمر، ولومهم الشيخ على سلبيته تجاه ذلك (ص222).

في تطوُّر لم تتضمَّنه أحداث الفيلم لقصَّة اعتناق حسن المسيحيَّة ومحاولة حاتم إثنائه عن ذلك، بالطبع نزولًا على رغبة أسرة الشاب، يصطحب الشيخ الشاب المتنصِّر إلى إحدى الكنائس. حاتم يلمح إلى تعمُّد السلطة الحاكمة بناء مساجد أمام الكنائس القديمة، في محاولة للتضييق على نشاطاتها، بل ويراهن حسن على أنَّ المسجد هو الأحدث في البناء، ويرى أنَّ ضخامة المسجد تكون لاستعراض القوة أمام المسيحيين، “أمَّا الكنيسة فمتقشفة للغاية” (ص308)، ويسبق ذلك استعراض مطوَّل لكيفيَّة سحب البساط من تحت أقدام أي كاهن تذيع شهرته في أي منطقة التضييق على مرتاديها (ص306). بالنسبة إلى استعراض التباين بين ضخامة المسجد وفخامته، مقارنةً بتقشُّف الكنيسة، فالردُّ عليه متروك لكلِّ من يعيش في مصر أو زارها، ورأى المصلِّين يفرشون الحصائر أمام المساجد التي لا تتسع لهم، ورأى الكنائس وما حولها من حراسات أمنيَّة تحيط بأركانها المترامية. يصادف الشيخ والشاب المتنصِّر كاهنًا في الكنيسة العتيقة، يبدو عليه من السماحة والفطنة ما يذكِّرنا بالشيخ مختار الحسيني، المتصوِّف آنف الذكر، ليقدَّم مع الكاهن نموذجًا يُحتذى به، في مواجهة نفاق المشايخ من قبل. ويعترف الروائي ببذخ الكنيسة وفخامتها يعود إلى كرم المتدينين وجهدهم وتبرعاتهم؛ لأنَّ لها دورًا تؤديه، غير أنَّ القائمين على الكنيسة معذورون في اهتمامهم بتزيينها؛ لأنَّ ذلك “إمَّا مباهاة ومعاندة مع منافسة الجامع، وإمَّا لأنَّها تقوم بدور ومكلَّفة بمهمَّة“، واختصر الروائي بهذا التبرير لفخامة الكنيسة من الداخل أيَّ تحليل ممكن (ص308):

في حوار حميمي، يذكِّرنا بحوارات الشيخ مع شيخ الطريقة الصوفيَّة، يصف حاتم كاهن الكنيسة بأنَّه “قدوة التسامح والتعاون”، البعيد عن أيِّ “تعصُّب أو تفتُّت”، ويفاجئه بمعرفة أصله، قائلًا “هل أنتَ حفيد الشيخ ميخائيل منصور؟” (ص309). وللحدِّ من صدمة الكاهن وخوفه، يتبرأ حاتم من المشايخ الذين يتعاونون مع الأمن برضاهم، فهو يرى أنَّ الكهنة هم أيضًا مضطرون إلى التعاون معها وإلا ما بقوا في أماكنهم (ص310)، ويتلو ذلك إشارة إلى سيرة “الشيخ ميخائيل منصور”، وهو أزهري تنصَّر في مطلع القرن العشرين، وإلى تشابه الكاهن معه في الشكل والاسم، وكذلك إلى أنَّ غالبيَّة الكتب في مكتبته كانت تبشيريَّة، وليس لاهوتيَّة، والكاهن هو حفيد “كامل محمد منصور”، المتنصر الشهير وشقيق “محمَّد محمَّد منصور”، المعروف باسم “ميخائيل منصور” (ص311). يسرد الكاهن سيرة جدِّه، الذي أدخله أهله الكُتَّاب لحفظ القرآن الكريم، وهنا يقاطع حاتم الكاهن، موجِّهًا كلامه إلى حسن المتنصِّر باسم بطرس (ص312-313):

يواصل الكاهن سرد قصَّة تنصُّر جدِّه، مشيرًا إلى أنَّه تلقَّى تعليمه الديني على يد شيخ “صوفي” (ص313):

يعلِّق حاتم على إسهاب الكاهن في سرد تعليم جدِّه الديني، متسائلًا إذا ما كانت هناك مبالغة في وصف “نبوغ” الشيخ ميخائيل و”إلمامه بعلوم الدين الإسلامي” بكلمات تصوِّره “شيخًا فاضلًا عارفًا بالله”؛ فيبدو تنصُّره “فوزًا ساحقًا للمسيحيَّة” (ص313-314). وجاء ردُّ الكاهن (ص314):

أمَّا عن بداية قراءة ميخائيل عن المسيحيَّة، فكانت لمَّا أراد الدفاع عن الإسلام، من خلال الردِّ على الشبهات التي يرمي بها المسيحيُّون واليهود الإسلام، لكنَّ شيخه نهاه عن ذلك، مع إصرار ميخائيل على المضي في ذلك الطريق (ص314):

خشي مولى الشيخ ميخائيل عليه من أن يلتهي بالرد على غير المسلمين، أو أن يُصاب بـ “الخيلاء والكبرياء” لسهولة دحضه مزاعمهم، لكنَّ العكس هو ما حدث؛ فقد وجد ميخائيل من التعاليم الروحانيَّة ما تفوَّق على التعاليم المرتبطة بالصوفيَّة؛ ومن ثمَّ لم يعد هناك داعٍ لاستمرار اعتناقه ملَّة الصوفيَّة، المحسوبة على الإسلام. قطع محمَّد منصور رحلة طويلة في بحثه عن الحقيقة، فبدأ مع مسيحي بسيط لا يفقه الجدال في دينه، ثمَّ مع قسيس أرثوذكسي لم يقتنع بما قاله، ثمَّ مع قسيس إنجيلي، كان راعي الكنيسة الإنجيليَّة في الإسكندريَّة، وقد سمعه خلال رحلة تبشيريَّة له في صعيد مصر. نما لدى منصور شغفٌ بالمسيحيَّة، وقرر اعتناقها على المذهب البروتستانتي، لكنَّ الكنيسة الإنجيليَّة “توانت خوفًا”؛ فاضطر منصور إلى التنصُّر وفق المذهب الكاثوليكي باسم ميخائيل، اسم أوَّل مسيحي أراد مجادلته، وهو نفس اسم راعي الكنيسة الإنجيليَّة في الإسكندريَّة (ص317). ويعلِّق حاتم بأنَّ التحوُّل إلى المسيحيَّة “استغرق بحثًا لسنة واحدة فقط“، بينما قضى منصور سنوات عمره السابقة في دراسة الإسلام، قضى من بينها في المعهد الديني “عشر سنوات كاملات“. وعن تحوُّل ميخائيل إلى المذهب البروتستانتي، بعد زيارته للفاتيكان بزيِّه الأزهري بعد تنصُّره ومباركة البابا ليون الثالث عشر له، يقول الروائي (ص319):

يتطرّق الروائي بعد ذلك إلى المشاق التي تحمَّلها ميخائيل منصور بعد تنصُّره، ومن بينها عداء الأهل، وتهجُّم الأزهريين، واضطهاد المجتمع المسلم، لكنَّ ثبت بـ “فاديه المسيح”، الذي لم يكتفِ بتحقيق “سلام روحي” معه، بل “حوَّل هذه النقلة إلى معركة ضدَّ دينه القديم” (ص320). ويأتي ختام هذه القصَّة كما يلي:

آثر الكاهن، بعد معركة جدِّه، اعتناق المذهب الرسمي للدولة، الأرثوذكسي؛ ليتفادى الكثير من الصعوبات، التي تواجه أصحاب الفكر الحر من معتنقي المذهب البروتستانتي، والذين من أهم دعواتهم “فصل الدين عن الدولة”، ويُعتبر المجتمع الأمريكي خير نموذج لأتباع هذا المذهب. رفض الكاهن تنصير حسن، خوفًا من بطش السلطة؛ فآثر الشيخ أن يُبعده عن الضرر بإخفاء هويَّة الشاب، سليل الأسرة صاحبة السلطة في مصر.

الحل في فِكر المعتزلة والصوفيَّة والمرجئة: الترويج للمحدثات على الإسلام باعتبارها النهج القويم

منذ بداية الأحداث، تعمَّد الروائي الإشارة إلى خروج الشيخ حاتم الشنَّاوي عن النهج الذي رسمه له الأزهر، ووضعت له وزارة الأوقاف أسسًا تمنحه الشرعيَّة؛ فالشيخ ساخط على تردِّي الخطاب الديني، ويعتبره السبب في الآفات التي يعاني منها أبناء الشعب المصري، ولا يجد حلًّا إلَّا في تحرير العقل من القوالب الدينيَّة الموضوعة لخدمة أصحاب المصالح، ولا يجد ملاذًا فكريًّا ولا روحانيًّا إلَّا في اتِّباع نهج المتصوِّفين، وتطبيق منهج المعتزلة في تسيير الأمور الحياتيَّة، فذلكم الحل في رأيه، أو لتقل في رأي الروائي. كما سبقت الإشارة في بداية هذا القسم، يؤيِّد الشيخ حاتم فِكر المعتزلة، وإن لم يعترف بذلك شخصيًّا، فقد جاء اعترافه ضمنيًّا على لسان فتاة تُدعى نشوى، من المفترض أنَّها حُرِّضت لإحراجه بطرحها سؤالًا عن رأي الشيخ في فِكر المعتزلة. بدأ النقاش خلال مشاركة نشوى في إحدى حلقات الشيخ المذاعة على الهواء، فواجهت الفتاة الشيخ باعتقادها دعوتها إلى إنكار السُّنَّة، بما يتَّفق مع “كلام المعتزلة” (ص274):

 أثار سؤال الفتاة غضب الإنتاج، بطريقة تجعل القارئ يعتقد أنَّ الحديث عن فرقة المعتزلة من المحظورات، باعتبارها فرقة “يكفِّرها كثير من علماء السلف”. وجاء ردُّ الشيخ بأنَّ ليس كل ما أمر به الرسول يمكن اتباعه كما هو، فهناك أمور لا تناسب روح العصر (ص277):

تتبلور لاحقًا حساسية الشيخ تجاه التحدث عن فرقة المعتزلة. وتذكيرًا بها، فهي إحدى الفرق المحسوبة على أهل السنَّة والجماعة استبعدت العمل بالأحاديث النبوية التي تتنافى مع العقل، وكأنَّ التحدث عن هؤلاء يفتح المجال أمام موضوع لا تريد السلطة التطرق إليه، فيبدو أنَّ المؤسسة الدينية التي يحركها النظام الحاكم لا تريد الاعتماد على العقل، بل تريد استمرار الاحتكام إلى الأساليب التشريعية التقليدية. والمثير أنَّ المنتج الذي اعترف الشيخ بفساده على كافة المستويات على دراية بالمعتزلة وبمنع السلطة الحاكمة التحدث عنها (ص285). ونلاحظ في المشهد الذي تناول هذه الواقعة في الفيلم تعمُّد إظهار الشيخ حاتم أمام صورة للشيخ محمَّد عبده، الشيخ الأزهري غربي التعليم والتوجُّه، والساعي إلى إعادة تدريس فِكر المعتزلة والفلسفة في الأزهر، الذي أُحبطت مساعيه بسبب ما وُصف بتعنُّت السلطة الدينيَّة، كما ذكر فضل الرحمن في كتابه الإسلام والحداثة: تحوُّل التقليد الفكري (1982).

صورة 16 – من فيلم مولانا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى