مقالات

الصراحة الترامبية والسياسة الغربية

الدكتور عزت السيد أحمد

كاتب ومفكر سوري
عرض مقالات الكاتب

عبارة يطيب لي أن أكررها. وهي: «إنَّ الشيطان مع الذين أفسدوا وقالوا إنا كافرون. لا شك في ذٰلكَ عندي أبداً أبداً ولو اجتمعت الإنس والجن لتقنعني بخلاف ذٰلكَ». وتلك عبارة تختصر الكثير، وتختزن الكثير، والكلام فيها كثير.أكثر المحللين الذي يصدهون آذاننا وعقولنا بتحليلاتهم للأخبار والأحداث يصبون جام فهمهم وتحليلهم وتقديرهم على كل ما يضلل الرأي العام ويلفت انتباهه عن الحقيقة ولا ينتبهون إلى التفاصيل الدقيقة العابرة في الكلام أو التصريح أو الحدث التي تعبر عن ا لحقيقة تعبيراً دقيقاً.

تكلمنا غير مرة على التصريحات الوقحة والفجة والمباشرة من الرئيس الأمريكي ترامب. وما أكثرها، وما أكثر ما مرت مروراً عابراً على الرغم من أنَّه لأول مرة في تاريخ الدبلوماسية والممارسة السياسية نصادف مثل هذه الوقاحة في الوضوح والصراحة. ومع ذلك كله لهث الجميع وراء ما وراء السطور وتركوا المخبور ليضللوا الفهم من جديد.

ماذا قال ترامب؟

قال الكثير مما تشيب له الرضع من الأطفال؛ قال لحكام الخليج لو أمريكا لسحقتكم شعوبكم في ساعات، لو الحماية الأمريكية لاجتحاتكم إيران في ساعات… قال: كل أموالكم حرام عليكم ويجب أن نأخذها غصباً عن لحاكم… وأخذها… ولا أطيل فيما لا يجهله أكثر  الناس اليوم؟

قال ذلك كله في العلن لا في السر، في خطابات على الهواء مباشرة لا في جلسات مغلفة، في التويتر الذي يشاهده عشرات الملايين وربما مئات الملايين في دقيقة واحدة… ولم يخجل. لم يخجل وهو يقول عن السياسي أين ديكتاوتري المفضل، وبعد يومين يلتقيه ويشيد بحكمته وديمقراطيته وأهميته ونجاحه في إدارة البلاد والمنطقة!!

أي إدارة وهو قبل قليل ديكتاتورك المفضل؟

قبل عشرين سنة وأكثر قال ترامب: سأصير رئيساً وسآخذ كل أموال دول  الخليج، هي أموالنا ولا يستحقونها، إنهم غير أهل لامتلاك هذه الأموال. وبعد عشرين سنة قال ذلك علناً وعلى مختلف المنابر، فقام ملك السعودية بجمع حكام المسلمين كلهم ليقدموا الجزية لأمريكا عن يد جميعاً وهم صاغرون. ولم يستح حكام الخليج  العربي من التباهي بدفع أموالهم لأمريكا. وأقول هنا على لسان مسؤولين أمريكيين: إن ما دفعته دول الخليج لأمريكا، منذ ثورة النفط إلى عام 1990م، تحت بنود مختلفة، يكفي لإنشاء عشر إمبراطوريات من طراز الولايات المتحدة الأمريكية. ذاك المبلغ حتى عام 1990م فتخيل ماذا كان بعد ذلك غلاء النفط!

لم يشاهد العرب والمسلمون كل هذا الوضوح وظلوا يرقبون الدعم الأمريكي بغباء منقطع النظير. غباء واستغباء فوق حدود الخيال.

كل يوم يقول ترامب: لن ندافع عن السعودية ودول الخليج، ويظل السعوديون والخليجيون يتوسلون لأمريكا أن تحميهم وتدافع عنه! حتى اضطرت أمريكا قبل يومين لإرسال مئتي جندي للدفاع عن  السعودية. مئتا جندي أمريكي سيحمون السعودية ويدافعون عنها، والثمن ربما أكثر من مئتي مليار دولار! ومع ذلك وبعد إرسالهم يعود ترامب للتصريح علنا: على السعودية أن تدافع عن نفسها، لسنا مسؤولين عن حمايتها.

ما هذه الوقاحة الترامبية؟

ترامب ليس وقحاً، ترامب صريح واضح. فقط وفقط هي الحقيقة. لم يأت ترامب بجديد أبداً في إطار السياسة الأمريكية والغربية، على مدار ما مضى منذ الحرب العالمية الثانية والحكام العرب بهذه البلاهة إن جاز أن تكون بلاهة لأن وراء الأكمة ما وراءها. أما الغرب فهذه عقليته وتفكيره وتدبيره منذ مئات السنين غير  القليلة بحال من الأحوال.

الفرق أن ترامب يفكر بصوت عال ويفعل بوضوح فيما الغربيون الآخرون يفكرون بصمت ويفعلون بدهاء، الكريق واحد والهدف واحد والنتيجة واحدة.

الدليل على بلاهة المحللين العرب والمسلمين أنهم يبحثون دائما عما يضلل الرأي العام ويفتنه بعيداً عن الحقيقة تحت ذريعة الموضوعية والأخلاقية والمنهجية وهم من ذلك كله خلو، هو أنهم مع ترامب الذي كسر ا لزجاج وأرانا الحقيقة بوضوح راحوا يبحثون فيما وراء السطور… باحثين عما يعزز استمرار الاتحداع، وفي حين أن عليهم أن يبحثوا فيما وراء السطور وما كبا تحتها من مستور يفعلون العكس فيلقمون القشور ويجترون التفسير فيما لا يحتاج إلى تفسير. أتحدث هنا عن المخلصين لا عن الخونة سيئي النية عديمي الضمير، هؤلاء خارج الحكم فهم في طبيعتهم لفافون دوارون دجالون أفاقون يبعدون الشيطان ويوهموننا أنهم بينهم وبين الشيطان حرب.

أمس 26 أيلول 2019م قال وزير الخارجية الألماني: «على السلطات المصرية الإفراج عن المعتقلين الذين لم توجه لهم تهم»!!

ماذا يعني ذلك؟

يعني لا بأس من عدم الإفراج عن أحد لأنَّ الأمن المصري اتهم الجميع، حتى إن خياطا جاهلاً لا يعرف القراءة ولا الكتابة تم اعتقاله وبعد التعذيب والتهديد أجبروه أن يبصم على اعترافه بأنه كان يسيء استخدام الفيس بوك. وبعد التوقيع سأل الضابط: ما هو الفيس بوك يا باشا؟

وفي التصريح ذاته تابع وزير الخارجية الألمانية التألق في التغريد، على هامش استعداد المصريين للتظاهر يوم غد الجمعة لإسقاط السيسي، والحشود الأمنية في أماكن التظاهر المتوقعة، وحملة الاعتقالات الهائلة التي تشنها السلطات السيسية منذ بضعة أيام فقال:

«إنَّ المبالغة في الاعتقالات أمر يبعث على القلق لأنه سيزيد الاضطراب».

جميل، ماذا نفهم من ذلك؟

وزير الخارجية الأماني والغرب ليسوا ضد الاعتقالات، ولكن المبالغة في الاعتقالات تشكل خطراً على النظام في هذه الظروف التي يتفاعل فيها المصريون مع ترحيل السيسي، ولذلك يجب التروي والهدوء في الاعتقالات.

الدليل على ذلك أن السيسي لم يتوقف عن الاعتقالات منذ استلم السلطة؛ اعتقل كبار رجال الدولة والسياسة والفكر والأدب وكلهم من الأبرياء، ثم قتل منهم ما قتل، ولم يخرج هذا الوزير ولا غيره من وزراء الخارجية الغربيين لتكشيل أي ضغط على السيسي، ولن يخرجوا…

وزير الخارجية الأمريكية بومبيو كان أكثر وضوحاً على عادة الأمريكان والسياسة الترامبية على نحو الخصوص. فقال بتصريحه الذي لفت الانتباه بعد إنكار الأمريكا وجود احتجاجات في مصر ضد السيسي، وترحيبهم بالسيسي ومن قبل الرئيس ترامب شخصيًّا الذي احتفى به وأشاد به في ظل الاحتجاجات، فقال بومبيو: «نحن نؤيد التظاهرات السلمية». وبعد دقائق فقط علق على قناة الجزيرة الدكتور توفيق حميد أحد مشاهير أتباع السيسي في أمريكا قائلاً: «هو يقول التظاهرات السلمية، ويقصد إذ لم تكن سلمية فمن حق النظام أن يستخدم العنف ويقتل»…

تعليق توفيق حميد يفي بالغرض، هذا لسان أتباع الشيطان بالتمام، يعرفون تمام المعرفة كيف يقرأون راسئل  الغرب، ويعرفون أن من يسمونهم الطرف الثالث هم مخابرات النظام الذين يقتلون شرطيَّا أو أكثر ومتظاهرين كثيرين ويطلقون النار ليتخذ النظام ذلك ذريعة للقتل، كما حدث في سوريا والسودان ومن قبل في مصر… للقول بوجود أعمال تخريب، وصار التخريب موضة قديمة، وصار كل من لا يقبل ما يريده  الشيطان يسمى إرهابيًّا.

كشف ترامب وقبل ترامب الأحداث الأخيرة في العقد الأخير وخاصة إثر الثورة السورية التي كانت المسلة التي نفست الجميع وأكرهتهم على الظهور على حقائقهم.

من الصعوبة بمكان فهم حقيقة عقلية ترامب أهو هكذا بطبعة مهما كانت الظروف والمعطيات أم أنَّ الظروف والمستجدات الأخيرة هي أخرجت الرئيس الأمريكي من دهاء السياسة أو فجور القول والفعل؟!

لد شاهدنا كيف خرجت السياسات كلها من جخورها إثر السورية السورية ومفرزاتها، ومن ثم لم يكن تؤامب وحده من خرج من دهاء الممارسة السياسية إلى التصريحات النارية الصادمة وخاصة فيما يتعلق بالقضايا العربية والإسلامية.

لا شك لدينا بأن أمريكا لا تحب تركيا ولا تقبلها إلا على مضض عبر ما مضى من تاريخ العلاقات بينهما منذ تأسيس حلف الناتو الذي كانت تركيا أحد مؤسسية وهي ثاني أكبر قوة عسكرية في هذا الحلف العسكري أصلاً بطبيعته. ولكن عبر ما مضى لم يكن إلا مارسات في الخفاء وبدهاء لإبقاء تركيا مشلولة وعاجزة وغارقة في الأزمات، حتى أوباما الذي جاء في زمن جنون الغرب في التعامل المعادي مع تركيا لم نجدخ ا لسياسة الأمريكية ضد تركيا تخرج من كواليس الدهاء إلى التصريح والعلن، ولكن ترامب فعل ذلك على الفور وأدى إلى انهيار الليرة التركية وأعلن صراحة أنه المسؤول عن ذلك.

لا شك في أن ترامب فج منذ ما قبل وصوله إلى الرئاسة بزمن، وقد رأينا وسمعنا له الكثير من الصريحات التي تؤكد هذه الحقيقة تأكيداً قاطعاً، ولكن عندما يكون رئيس دولة بحجم أمريكا فالواجب الالتزام والتقيد، ولكنه لم يتقيد. لم يتقيد لأن المعطيات على الساحة العربية والعربية أدت إلى انكسار القيود وخروج الشياطين من قماقمها والتصرف العلني الواضح.

هذه الصراحة الترامبية لم تبق وحيدة بال من الأحوال فقد خرحت أكثر الدول الغربية عن تفكيرها الصامت وبدت أفعالها واضحة صريحة وإن بقيت الأقوال على درجات متباينة من التحفظ والتأني والدهاء إن صح التعبير، ولكن ذلك كله لم يجد في ظل وضوح الأفعال.

ليس من الضروري أن يكون ترامب بهذه الصراحة والوضوح كي نفهم العقلية الغربية في تعاملها مع الشرق عامة والمسلمين خاصة والعرب على أخص الخصوص. فلا تنخدعوا بالتصريحات التي صنع بها الغرب أوهامنا وما زلنا مع الأسف متعلقين بأهداب تصريحات خداعة مع ضوح المنطق على الأقل. ومن ثم فإن ترامب ليس علامة فارقة في تاريخ السياسة الغربية من ناحية الممارسة والفجور في الممارسة وإنما هو علامة فارقة في أنه يفكر بصوت عالٍ لا أكثر. لا يختلف ترامب في المبدأ ولا في الشكل ولا في الكليات ولا في التفاصيل أبداً، يختلف في شيء واحد هو أنه يفكر بصوت عال ولا يضع لجاماً على لسانة.

المسألة المهمة والخيرة التي نستجليها من هذا العقلية الترامبية وهي المتركزة في السؤال الكاشف: لماذا لم يلتزم تراكب بآداب الرائاسة وأدبياتها؟ الأمر الذي أشرنا إليه قبل قليل. فهو مهما كان فاجراً فإنه عندما يكون رئيساً فإنه يجب عليه ما يجب من الأدبيات.

التفسير الوحيد في نظري هو أنه وجد في هوان العرب فرصة تاريخية للثأر منهم وتقزيمهم وتحقيرهم وتصفيرهم وتسفيههم. فلو وجد حدًّا أدنى للرد أو الكرامة أو العزة لما تجرأ على شيء مما فعل بحال من الأحوال. انظر إلى علاقته مع إيران  التي تهدد أمريكا وتشتم ترامب وتحقره بل وتستفزه… هل قال عنها كلمة واحدة فيها قلة أدب؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى