مقالات

أزمة اليمين المحافظ في كندا على ضوء الإنتخابات العامة التشريعية في 21 أكتوبر 2019 (الجزء الأخير)

فهد السالم صقر

محلل سياسي وباحث في العلاقات الدولية
عرض مقالات الكاتب

ذكرت سابقا أن نتيجة إنتخابات 1993 التشريعية العامة كان لها  تداعيات كارثية بعيدة الأثر على خارطة التحالفات السياسية في كندا، و على معسكر  اليمين السياسي بالذات.   فخسارة حزب المحافظين التقدميين ( The Progressive Conservatives Party) لكل مقاعده بإستثناء مقعدين، و بالتالي خسارته وضعيته كحزب رسمي على المستوى الفيدرالي، شكل ضربة مؤلمة لليمين المحافظ المعتدل، لم يتعافى منها حتى الآن.  ليس لأنها  أدت إلى فقدانه التمويل والدعم الحكومي الضروري من الأموال العامة فحسب.  بل أهم من ذلك، أنها أدت إلى  إختفائه عن شاشات الرادار والأخبار ومن مركز صنع القرار كليا لمدة أربع سنوات، وتحول الحزب خلال هذة الفترة إلى شيئ غير ذي صلة. و أصبح الجناح الإجتماعي المحافظ  -المغمور سابقا- القادم من الغرب، بخطابه الإقليمي الشعبوي المتعصب وأجندته الإجتماعية المحافظة، هو  الذي يمثل  اليمين على الساحة السياسية.  

 وفي نفس الإنتخابات، فاز الإنفصاليون الفرنسيون بالمركز الثاني، وهذا أعطاهم الحق بتشكيل المعارضة الرسمية وحكومة الظل ضد حكومة الأحرار تحت زعامة رئيس الوزراء جان كريتشيان. وأصبح زعيمهم المسيُو لوسيان بوشار، رئيسا للمعارضة ، وبالتالي يحصل على سكن حكومي رسمي مع طباخ وسائق وسيارة ومخصصات من المال العام ولقب “رئيس المعارضة المخلصة لجلالة الملكة” (Leader of her majesty’s loyal opposition بما يحويه ذلك من تناقض صارخ.  وهكذا، أصبحت أموال  دافعي الضرائب في كندا تمول الحزب الإنفصالي الذي يطالب بتقسيم البلد، في مشهد كوميدي سريالي.

معسكر اليمين الكندي عشر سنوات من التيه والنزاع الداخلي 1993-2003

المعضلة التي واجهت معسكر اليمين السياسي بعد عام 1993 هي أن معظم الكنديين في وسط وشرق البلاد، وهي المناطق ذات الكثافة السكانية، كانوا ينظرون إلى حزب الإصلاح (Reform Party) ممثل اليمين في البرلمان، كحركة إحتجاجية شعبوية، ممثلة للغرب فقط، ولا تمثلهم.  رغم محاولات الإصلاحيين الجادة والمستميتة خلال  ثلاث إنتخابات متتالية ( 1993، 1997، و 2000)  كسب ود ناخبي اليمين المحافظ المعتدل في أونتاريو وشرق كندا، إلا أن كل محاولاتهم باءت بالفشل. فلم يحقق حزب الإصلاح قبول لدى السواد الأعظم من الناخبين المحافظين في مقاطعات الأطلسي في الشرق، أو في أونتاريو  وبقي الصوت اليميني في تلك المقاطعات منقسم بين حزب اليمين التقليدي “المحافظين التقدميين” والحزب

اليميني  الجديد على الساحة ” حزب الإصلاح” . أما في مقاطعة كوبيك الفرنسية، فلم يكن لكلا الحزبين الأنجلوساكسونيين أي حضور يذكر أصلا.

بعد إنتخابات عام 2000، وهي الثالثة بوجود حزب الإصلاح على الساحة،  أيقن معسكر اليمين السياسي أن الإستمرار بالعمل من خلال حزبين منفصلين ( الإصلاح والمحافظين)  ستبقيهم في كراسي المعارضة إلى الأبد.  فلا مفر إذن من توحيد الصوت اليميني وإنهاء الإنقسام، وإلا فإن حزب الأحرار (The Liberal Party) المنافس السياسي القوي، سيبقى في السلطة  إلى ما شاء الله. والسبب  في ذلك بسيط جدا، أن هناك تقليديا كتلة صلبة مؤيدة  للحزب الليبرالي تقدر ب 30% من الناخبين، و كتلة صلبة أخرى يمينية محافظة تقدر ب 30% أيضا، متعادلتين تقريبا.  وكتلة ثالثة أخرى يسارية-إشتراكية تقدر ب 20% أكثر أو أقل بقليل،  وما تبقى من نسبة الناخبين ال20% الأخيرة هي الكتلة المتأرجحة، أو ما يسمى بالإنجليزية ب Swing vote

ونظرا لطبيعة  النظام الأنتخابي FPP)) first past the post الذي يعتمد “الأكثرية” وليس “الأغلبية” ( Plurality vs. Majority) فإن تفتت الصوت اليميني بين حزبين سيعني بقاء الليبراليين في الحكم إلى الأبد.   فقد فاز رئيس الوزراء الليبرالي الأسبق جان كريتشيان بحكومته الثانية عام 1997 بحصوله على 38.5% فقط من إجمالي الصوت الشعبي. لأن  النظام الإنتخابي لا يعمل وفقا للتمثيل النسبي، بل إن الفائز بأكبر عدد من الأصوات في الدائرة يحصل على المقعد، فعندما يتنافس في الدائرة الواحدة خمسة أو ستة مرشحين، فإن الفائز بالمقعد قد ينجح بنسبة أصوات لا تتجاوز 25% – 28%. وهذا هو النظام المعمول به في بريطانيا أيضا.

بالنسبة ل “للمحافظين التقدميين” خاصة في مركز الثقل مقاطعة أونتاريو و مقاطعات شرق كندا ، كانت الوحدة مع حزب الإصلاح  حبة دواء من الصعب إبتلاعها ، خاصة وأنها ستجعل منهم الشريك “الأصغر” في أي تحالف محتمل.  ولكن بعد عشر سنوات متتالية من التيه في جبهة يمينية منقسمة، وتشتت أصوات اليمين ، أصبحت الوحدة بالنسبة لليمين مسألة “نكون أو لا نكون”.  لا يوجد مفر من إبتلاع الحبة، كونها أهون الشرين. وفي ديسمبر 2003 صوت أعضاء الحزبين  بنسبة 96% لإندماج حزب الإصلاح مع ” حزب المحافظين التقدميين” لتشكيل حزب واحد جديد سمي ب ” حزب المحافظين” بعد شطب كلمة ” التقدميين” من مسمى الحزب في إشارة لا تخلو من دلالات رمزية هامة. بعد ثلاثة أشهر تم إنتخاب السيد ستيفن هاربر (Stephen Harper) من الجناح  الإصلاحي رئيسا للحزب الجديد.  

إنتخابات 2004 و 2006 و 2008 ثلاث حكومات أقلية على التوالي

في ديسمبر من العام 2003  تم إختيار وزير الماليه الليبرالي السيد بول مارتن خلفا لرئيس الوزراء المستقيل السيد جان كريتشيان،  الذي دعا بدوره إلى إنتخابات جديدة في 28 يونيو 2004 وفاز فيها بحكومة أقلية. خسر المحافظين أول إنتخابات لهم كحزب موحد لأن غالبية من الناخبين الكنديين كانوا لا يزالون يتوجسون خيفة من المحافظين (حزب الإصلاح سابقا) ولا يثقون بتوجهاتهم أو توجهات رئيسهم السيد هاربر اليمينية.    كان هناك تخوفا مشروعا لدى الكنديين، من أن  هاربر لديه أجندة يمينية مخفية ( Hidden Political Agenda) . هذه المخاوف كانت ناتجة عن مقالات وتصريحات سابقه  له و لأعضاء  في حزبه،  تجاه العديد من القضايا الحساسة،  كقانون التأمين الصحي المجاني للجميع، -الذي يعتبره الكنديون بقرة مقدسة- بالإضافة إلى تخوف الناخبين من أن حزب المحافظين (النسخة المعدلة)، يرغب في إعادة فتح بعض القضايا الجدلية التي حسمت في السابق، كحرية الإختيار بالنسبة للمرأة بما يتعلق بالإحتفاظ بالحمل أو الإجهاض، والعلاقات المثلية والحريات الفردية بشكل عام ، وقانون الهجرة ، بالإضافة لمواقف الحزب غير المنسجمة تماما مع المزاج الكندي العام، من قضية كوبيك والوحدة االوطنية، وثنائية اللغة والتعددية العرقية والهجرة.

لسوء حظ رئيس الوزراء السيد بول مارتن تفجرت في ذلك الوقت بعض الفضائح المالية التي طالت الحزب الليبرالي مثل فضيحة “الرعاية والدعم” أنظر Sponsorship scandal  وكانت تتعلق بمبالغ ضخمة أنفقتها حكومة الأحرار في إستفتاء كوبيك عام 1995  على الدعاية والإعلان ، لدعم الجانب الفيدرالي، و ذهبت في معظمها لشركات ومؤسسات معروفة بإرتباطها بالحزب الليبرالي.  أثرت  هذة الفضيحة بشكل سلبي على سمعة الحكومة، وأعطت المعارضة الذخيرة، والحجة للمطالبة بإسقاط الحكومة على شبهات فساد.  في نوفمبر 2005 صوتت المعارضة ( المحافظين واليساريين والإنفصاليين)  لسحب الثقة من الحكومة، مما أضطر بول مارتن للدعوة لإنتخابات جديدة في يناير من العام 2006 ليخسرها ويفوز فيها حزب المحافظين .

القيادي اليميني من حزب الإصلاح ستيفن هاربر رئيسا للوزراء 2006-2015

قلت سابقا أن إحدى تداعيات إنتخابات 1993 الكارثية أنها جاءت بعدد لا بأس به من الشخصيات اليمينية العنصرية إلى البرلمان،   وزجت بهم في الواجهة الوطنية. ما كان لهذة الشخصيات الهامشية –سابقا- أن تحتل هذة المكانة على الساحة السياسية  الوطنية ، لولا هذه الإنتخابات المؤسفة… لقد إرتكبت رئيسة الوزراء السابقة السيدة كيم كامبل وفريقها المنظم خطأ لا يغتفر في إنتخابات 1993 أدى إلى خروج حزبها من الساحة بالكامل، وصعود التيار اليميني العنصري المتطرف .  لا أقول ذلك كباحث أكاديمي، بل كشاهد عيان وكمراقب عاصر تلك الفترة عن قرب.  لقد أخرجت إنتخابات  1993 إلى السطح أسوأ عناصر العنصرية والكراهية في المجتمع الكندي،  ودفعت بهم إلى الواجهة في غفلة من التاريخ ومن الجغرافيا. ستيفن هاربر ( Stephen Harper)   جايسون كيني ( (Jason Kenney، جون بيردJohn Baird ) )، ميشيل ريمبل ) Michel Rempel) ، ماكسيم بيرنير( Maxime Bernier) ، بيير بوليفر( Pierre Poilievre). أندرو تشير ( Andrew Scheer) ، وغيرهم،  كل هؤلاء يجمعهم عناصر مشتركة مع أبناء عمومتهم في اليمين المسيحي الأمريكي،  عنصريتهم عن جهل، كراهيتهم لليبراليين ولليسار، تزمتهم الديني المسيحي، الإسلاموفوبيا، عدم ثقتهم بالعلم والعلماء، نكرانهم للتغير المناخي والإنحباس الحراري ، وعبادة الرأسمالية المنفلتة من أي عقال.  

بعضهم كانوا هواة في السياسة وأشباه أُميين ( ما لهم بهذة السوالف)،  لا يحملون أي تأهيل أكاديمي،  كجايسون كيني (Jason Kenney) الذي أصبح وزيرا للهجرة و الآن حاكما لمقاطعة ألبرتا ، لا يحمل أي شهادة جامعية أو تحصيل أكاديمي.  وميشيل ريمبل (Michelle Rempel) وزيرة الدولة السابقة ( شهادة ثانوية)، وهي الآن ضيف دائم على قناة فوكس نيوز الأمريكية.  فقد سئلت مرة بعد إحدى المقابلات الصحفية، ما هي النصيحة التي تحبي أن توجيهنها لأقرانك من عضوات البرلمان من من النساءـ فأجابت أنصحهن بالتأكد دائما بأن شعورهن مصففة بشكل جيد. ( To make sure their hair looks good) …!

عداء اليمين المسيحي للإسلام والمسلمين

ذكرت آنفا بأن أحد العوامل المشتركة التي تميز اليمين الكندي المحافظ مع أبناء عمومتهم إلى الجنوب، اليمين المسيحي الأمريكي، هو كراهيتهم للإسلام وتعصبهم ضد العرب و المسلمين.  فبعد سقوط الشيوعية وتفكك الإتحاد السوفييتي ، أصبح عدوهم الرئيسي الآن هو الإسلام.  خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سيبتمبر 2001 المؤسفة.  فبالنسبة لهؤلاء لا يوجد مسلم جيد ومسلم سيئ، فالكل سواء. فهم عن جهل أو -عن تجاهل متعمد- لا يفرقون بين طالبان، القاعدة، وداعش وبين الأغلبية الساحقة من المسلمين العاديين حول العالم، فكلهم في نظرهم مسلمين. وعندما يتحدثون عن الإسلام عادة ما تلمس سذاجة مثيرة للشفقة وسطحية تفكير لديهم بحقيقة الدين الإسلامي.  حتى أن  بعضهم لا يفرقون بين المسلمين والسيخ ، وهناك حادثة شهيرة حدثت في أمريكا في أعقاب أحداث 11/9 عندما قتل رجل سيخ إنتقاما على أيدي عنصريين ظنا منهم أنه مسلم.  وأكثرهم يعتقدون أن المسلمين يعبدون محمد، صلى الله عليه وسلم.

مكث رئيس الوزراء السابق السيد ستيفن هاربر في الحكم  ما يقارب العشر سنوات، لم يزُر مسجدا للمسلمين قط، والزيارة الوحيدة التي قام بها كانت لإفتتاح مسجد للبهائيين في كالغاري (Calgary) عام 2008 فقط.   حاول ستيفن هاربر جاهدا منذ توليه الحكم إشاعة الخوف والشكوك ضد المسلمين في كل مناسبة، ظنا منه بأنه إذا خلق عدوا خارجيا ( وهميا)  سيلتف الناس حول حكومته المتشددة (التي تقاتل “الإرهاب الإسلامي” بلا هوادة).  ففي العام 2013 ، على سبيل المثال، ألقت الشرطة الكندية القبض على الإرهابيين  شهاب الزغير ورائد جاسر بتهمة محاولة تنفيذ عملية إرهابية لتفجير قطارات بين تورنتو ونيويورك.  أُجهضت هذة العملية بفضل تعاون الجالية الإسلامية في تورونتو مع الشرطة.  وأثناء جلب المتهمين للمثول أمام االمحكمة، قامت حكومة هاربر بأرسال المئات من جنود القوات الخاصة المدججين بالسلاح، والمدرعات والسيارات المصفحة لتطويق المنطقة، ونشرت القناصة على أسطح البنايات، وأغلقت كل الشوارع المؤدية إلى المحكمة قبيل إحضار المتهمين تحت حراسة مشددة للمثول أمام القاضي، في مشهد مثير للرعب والخوف.  ولم تنسى أحضار الصحافة ووكالات الأنباء لضمان تغطية مكثفة للحدث في مسرحية إستعراضية رخيصة .

 كان الهدف من هذا الإستعراض المسرحي السخيف، هو بث الرعب في قلوب الناس وإشعارهم أن هناك خطرا خارجيا يهددهم ، وأن حكومة هاربر هي  التي تحميهم من هذا “الإرهاب الإسلامي”. علما بأنه لم يكن هناك أي مبرر على الإطلاق  لهذا الإستعراض البهلوني المبالغ فيه، فالمتهمين كانا يتصرفان بشكل فردي، وكان بالإمكان بكل سهولة ودون أي ضجة إحضارهما مخفورين ومكبلين بالكلبشات إلى قاعة المحكمة برفقة شرطية وشرطي وسائق.

في العام 2009 أعلن السيد جيسون كيني ( Jason Kenney) وزير الهجرة آنذاك، أنه سوف يقوم بمراجعة وإعادة دراسة التمويل الحكومي الذي كان يدفع منذ العام 1967 للإتحاد العربي الكندي (The Canadian Arab Federation) وهو منظمة كندية  علمانية، تضم مهاجرين عرب من المسلمين والمسيحيين، تُعنى بتقديم خدمات لمساعدة وإعادة تأهيل المهاجرين الجدد، وتعليمهم مهارات البحث عن عمل واللغة التي يحتاجونها للتأقلم في المجتمع الكندي، مثل أي جالية أخرى. وتم فعلا قطع هذا التمويل. لجأ الإتحاد العربي الكندي إلى القضاء، ولكن المحكمة أيدت القرار لدوافع  سياسية واضحة إرضاءا للمؤتمر اليهودي الكندي ذو النفوذ القوي. أنظر The Canadian Arab Federation (CAF).

 ما قام به الوزير كيني هو عملا عنصريا بإمتياز.  نموذج من إساءة إستخدام السلطة من مسؤول حكومي للتعبير عن أحقاد شخصية وتعصب أعمى ضد العرب والمسلمين. السيد جايسون كيني برر قراره هذا بالإشارة إلى تصريحات سابقة لرئيس إتحاد العرب الكنديين آنذاك، السيد خالد معمر متعاطفة مع الفلسطينيين واللبنانيين ضد الهجمات الإسرائيلية المتكررة، وتدين إسرائيل كدولة فصل عنصري.  من المضحك أن السيد كيني صرح :  ” أن المجموعات التي يقوم رؤساؤها بالتلفظ بأقوال تدل على عدم “التسامح” و”الكراهية” والتي لا تنسجم مع قيم ومبادئ كندا في التسامح والإحترام المتبادل يجب أن نمنع عنها التمويل من أموال دافعي الضرائب”  إنتهى الإقتباس. أنظروا من الذي يتكلم ، إنسان جاهل غير متعلم ينضح بالعنصرية من رأسه حتى أخمص قدميه، يحاضر في التسامح.

يشار في هذا الصدد،  أن حكومة ستيفن هاربر رفضت طلبات متكررة منذ مجيئها إلى السلطة عام 2006 بالإجتماع مع ممثلين عن الإتحاد العربي الكندي، أو مع المؤتمر الإسلامي الكندي، وهما منظمتان رئيسيتان تمثلان العرب والمسلمين في كندا.  

أسلوب اليمين المسيحي في إغتيال الشخصية وشيطنة الخصوم

من عام 2006-2011 خاض اليمين الكندي (النسخة المعدلة بعد الدمج) ثلاث إنتخابات. خسر الأولى أمام رئيس الوزراء الليبرالي السابق بول مارتن،  وفاز بإثنتين كلاهما حكومتي أقلية، ( واحدة ضد بول مارتن، والثانية ضد ستيفان ديون) ،  وبناءا على دراسة سريعة وتحليل نتائج للإنتخابات الثلاث، ونسب الفوز الهامشية الضئيلة جدا، كان واضحا أن الناخبين الكنديين  لم يكونوا مستعدين لمنح السيد هاربر وحزب المحافظين حكومة أغلبية،  وبالتالي شيك على بياض لتنفيذ أجندتهم اليمينية.  فلم يكن سرا، أن أكثرية من الناخبين في كندا كانوا يشككون في نوايا هاربر وحزب المحافظين ( الإصلاح).  لكن خلال هذة الفترة من الحكومات الأقلية اليمينية المتعاقبة 2006-2011 (تَمسكَن هاربر ليتمكًن). 

في العام 2011 خاض ستيفن هاربر الإنتخابات ضد الرئيس الجديد للحزب الليبرالي. الأكاديمي البارز، المؤلف والمؤرخ المتميز السيد مايكل إجناتشيف (Michael Ignatief) ، ومايكل هو إبن جورج إجناتشيف، ديبلوماسي كندي سابق، عمل مساعدا لرئيس الوزراء الأسبق ليستر بيرسون ( Lester B. Pearson. وقد عمل السيد مايكل إجناتشيف كبروفيسورا في جامعات أكسفورد وكامبريدج وهارفارد لسنوات طويلة وعاد سنة 2005 ليقود الحزب الليبرالي بناءا على إلحاح ودعوة من قياديين ليبراليين كبار، قاموا بإرسال وفد إلى بوسطن خصيصا لإستقطابه وإقناعه بالعودة لقيادة الحزب ( أنظر Michael Ignatieff).

لجأ ستيفن هاربر للأساليب السياسية القذرة لمواجهة خصمه. أسلوب إغتيال الشخصية ، التشكيك بوطنية الخصم وإنتماءه للبلد، ، نشر الأكاذيب وأنصاف الحقائق، بالتلميح  والرسائل الضمنية،   التشكيك  وإشاعة الخوف حوله وتحطيم صورته. هذا الأسلوب في إغتيال الشخصية أشتهر به اليمين المسيحي الأمريكي،  وهو  أسلوب دخيل على المجتمع الكندي. أستعاره اليمينيون (الإصلاحيون)  بزعامة هاربر من أقرانهم الأمريكان.  لقد خاض السيد بريان مولروني ( Brian Mulroney) ، رجل الدولة المعروف، ورئيس وزراء كندا عن حزب المحافظين من 1984-1993  حملتين إنتخابيتين ناجحتين ضد رئيس الوزراء  الليبرالي الأسبق السيد جون تيرنر( John Turner)، لم يتطرق أبدا خلال 9 سنوات لشخصيتة أو وطنيته، أو يشكك في إنتمائه إلى كندا، بل كان التنافس بينهما دائما مبني على البرامج والأفكار والسياسات. أما النسخة المعدلة من المحافظين بقيادة هاربر، فقد إنحدرت إلى مستويات منخفضة جدا في العمل السياسي ، ضاربة عرض الحائط  بكل القيم النبيلة والممارسات المتحضرة التي تميزت بها كندا طوال تاريخها، أصبحت ( الغاية تبرر الوسيلة) في سبيل البقاء إلى السلطة.

إنتخابات 2011 هاربر يفوز بحكومة أغلبية بالَأوَنطة

تركزت إستراتيجية هاربر في إنتخابات 2011 إغتيال شخصية الخصم، ووضعه في قالب سلبي معين  وتحطيم صورته أمام الناخبين.   قام المحافظون ببث فيديوات  دعائية تلفزيونية، تقول بأن مايكل إجناتشيف “مجرد زائر لكندا”… وأنه لم يحضر من أجل الشعب، وإنما من أجل نفسه. (“He’s just visiting” ) وقاموا ببث هذة الفيديو الدعائي بطريقة  القصف العشوائي ( Carpet bombing)  طوال الحملة الإنتخابية،  في كل محطات التلفزيون 24 ساعة 7 أيام في الأسبوع. وكانت الرسائل “الضمنية غير المباشرة”  لهذا الفيديو  أن مايكل إجناتشيف “ليس كنديا بما فيه الكفاية”، و”أنه لا يحب وطنه كندا” وإلا لما عاش هذة الفترة الطويلة خارجها ( في بوسطن ولندن) ،  وأنه مجرد إنسان وصولي يحب نفسه، و أنه فقط يريد أن يصبح رئيسا للوزراء من أجل إشباع الأنا عنده.  

الدعاية السلبية المستمرة منذ أشهر أتت أكلها للأسف، وهزت صورة السيد مايكل إجناتشيف أمام الناخبين، خاصة وأن السيد إجناتشيف، الأكاديمي المتحضر، رفض الرد عليها بدعاية مضادة، لدحضها وتفنيدها بفيديو مضاد للإثبات خطأها وعقمها، إعتقادا منه بأن الشعب الكندي لن يشتري هذة الدعاية. علما بأنه كان من السهل جدا على الحزب الليبرالي أن يرد ويفند، بل ويقلب الطاولة على المحافظين ويجعل هذا المنطق الخاطئ يعمل ضدهم، وليس معهم، ولكنهم لم يردوا. فدفع حزب الأحرار الثمن غاليا وتعرضوا لأسوأ هزيمة في تاريخهم، وتقهقر الحزب إلى المركز الثالث، خلف الحزب اليساري “الديمقراطيين الجدد”. وخسر السيد إجناتشيف مقعده في تورنتو، وهكذا ربح ستيفن هاربر أغلبيته الأولى والأخيرة بالأونطة والأساليب القذرة.   

ماذا يريد اليمين السياسي الكندي الآن، تحت زعامة السيد أندرو تشير Andrew Scheer)) والمنشق ماكسيم بيرنير ( Maxime Bernier)

بعد هزيمتة في 2015 على يد جاستن ترودو، إستقال السيد هاربر،  وخلفه في قيادة الحزب السيد أندرو تشير ( Andrew Scheer) في مؤتمر للحزب عقد سنة 2017 ، وقد كان التنافس قوي بين أندرو تشير وبين السيد ماكسيم بيرنير ( Maxime Bernier) الذي حل بالمركز الثاني بفارق أقل من 1%. بعد سلسلة من التصريحات المثيرة للجدل للسيد ماكسيم بيرنير بخصوص المهاجرين والتنوع العرقي الذي عبر فيها بصراحة عن طريقة تفكير الكثيرين في حزبه وخلافات أخرى مع رئيسه، قرر السيد ماكسيم بيرنير الإستقالة من الحزب وأعلن نيته تأسيس حزب جديد، قائلا أن الحزب المحافظين أصبح مفلسا أخلاقيا وغير قابل للإصلاح.

حزب الشعب، يمين يمين اليمين

في 14 سيبتمبر 2018 تم الإعلان عن حزب يميني جديد إسمه حزب الشعب بزعامة مؤسسه السيد ماكسيم بيرنير (People’s Party)، وأعلن عن نيته خوض الإنتخابات القادمة في أكتوبر 2019 كممثلا عن اليمين. وهكذا يعود اليمين الكندي إلى المربع الأول من جديد،  إنقسام ونزاع داخلي وضياع بوصلة.  و يصبح في كندا ثلاثة أجنحة لليمين، الجناح المعتدل ويمثله ” المحافظين التقدميين” أمثال رؤساء الوزراء السابقين بريان مولروني، جو كلارك، كيم كامبل. جناح “يمين اليمين” ويمثله السيد ستيفن هاربر رئيس الوزراء السابق وتلميذه النجيب أندرو تشير، رئيس حزب المحافظين المعارض،  وجناح “يمين يمين اليمين” ويمثله السيد ماكسيم بيرنير وحزب الشعب.

 ماذا يريد اليمين الكندي ؟ لغاية الآن ليس واضحا ماذا يريدون. كما شاهدنا في السابق خلال ما يقارب عقدا من الزمان من حكم اليمين بزعامة السيد هاربر أن ما يُصًرح به في العلن شئ، وما تحمله أجندة المحافظين الخفية شيئا آخر تماما. فهناك عمليا ثلاث وجوه لحزب المحافظين، وجه في المعارضة، ووجه في حكومة أقلية، ووجه ثالث في حكومة أغلبية.

  والأهم من ذلك ، ما زال السيد أندرو تشير لم يجيب بشكل مقنع، لماذا يريد أن يكون رئيسا للوزراء بدلا من الزعيم الكاريزماتي السيد جاستن ترودو، وماذا سيفعل لكندا أحسن منه.  فالسؤال الجوهري الذي سيطرح نفسه على الناخبين في  21 أكتوبر 2019 والذي على المحافظين أن يجيبوا عليه بشكل مقنع هو :

إذا كانت ليست مكسورة فلماذا نصلحها؟ ( If it isn’t broke why fix it)

الخيار في هذة الإنتخابات ليس بين يمين ويسار ، وليس خيار بين أندرو تشير وجاستن ترودو بل هو الخيار بين رؤيتين مختلفتين ، التقدم إلى الأمام بنظرة إيجابية وتفاؤليه للمستقبل نحو مجتمع يحتضن الجميع ويحتفي بالتنوع الثقافي والعرقي كمصدر قوة، ويعتبر كندا بلدا للجميع.  أو النكوص إلى الخلف في مجتمع متفرق خائف غير متسامح وعنصري ويتعامل مع الناس كصنفين خيار وفقوس، كما كان الوضع في عهد ستيفن هاربر وجايسون كيني. لا أعادها الله

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى