غير مصنفمقالات

الدول العربية محطات من الفوضى الخلاقة.. بين العوامل والأسباب

المحامي محمد نادر العاني

باحث في مجال حقوق الإنسان
عرض مقالات الكاتب

منذ عهود وعقود لم تعد المنطقة العربية منطقة ذات تطور واستقرار سياسي فالأحداث والمتغيرات والصراعات تتسارع بشكل كبير وتجانبها عدة تجاذبات مختلفة على الجوانب الاخرى منها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.  فانحلال عقد الدولة العثمانية وظهور الدول الحديثة بحدودها الجديدة جعل من المنطقة على محط  فوضى سياسية عارمة بظهور افكار جديدة بعضها دخيلة والاخرى تأسست داخل البلدان العربية فانبثاق الأحزاب القومية والامتداد الشيوعي واضافة الى بقايا الترسانة الفكرية الاسلامية  الكلاسيكية وغيرها جعل من هذه القوى تتشابك فكريا وسياسيا وحتى بعض الأحيان عسكريا بين تجزئات الدول العربية وتدخل في صراعات حزبوية وعرقية داخل الدولة الواحدة وعلاوة على ذلك الانقسامات داخل المنظومة الواحدة كل ذلك من اجل التوجه نحو النفوذ والتمسك بالسلطة خصوصا ان الدول العربية حديثة  العهد بالفكر السياسي المعاصر الذي يتواءم مع التقدم التي تشهدها الدول الغربية وحتى الشرقية لذى الفوضى الخلاقة هي سياسة تعيشها واقع دولنا العربية قبل ان تكون هي مخطط مرسوم خارجيا للوصول الى النفوذ داخل الدول العربية .

فالتربة السياسية والفكرية الرخوة والمرنة في الدول العربية هي التي تساعد على الصراعات والانقلابات والثورات وحتى الاستبداد وكل هذه العوامل تبقي الدول على حد من التخبط والتشرذم اذ ان الواقع المجتمعي والطبقي هي أيضا تساعد نحو دعم بقاء هذه الفوضى فالمجتمعات العربية مازالت ذات نمط تقليدي في التفكير والتوجه.  فالولاء المجتمعي دائما ما يكون منقسم على عدة ولاءات فهناك ولاء للقبلية و هناك ولاء للحزبية وهناك ولاء للمظاهر الدينية وتكون هذه الولاءات في هذه الحلقات الضيقة اكبر من الولاء الوطني او القومي واو الديني الاوسع فعلى سبيل المثال الصراعات الفكرية للمجتمع داخل الدول العربية في حقب القرن الماضي كانت موزعة بين القومية والشيوعية والإسلامية وإضافة الى تجزئات أخرى  فكانت الصراعات في المجتمع بين هذه الجزيئات نتيجة الولاءات اليها بغض النظر عن ما تؤول اليه هذه الصراعات من وقائع على البلدان وحتى احدثت شرخا كبيرا داخل الفكر الواحد والحزب الواحد فنجد على سبيل المثال الصراع السياسي على اشده داخل التيار الاسلامي الواحد كما هو الصراع السابق الحاضر بين التيار السلفي والتيار الإخواني والتيار الصوفي وداخل هذه التيارات تنقسم الولاءات ايضا على سبيل المثال الصراع بين التيار  السلفي الجهادي والتيار السلفي الجامي  والمدخلي وهذا ينطبق نفسه على الاحزاب القومية والشيوعية والوطنية . فكل هذا جعل من طبيعة المجتمع طبيعة داعمة لبقاء الفوضى السياسية والفكرية والسلطوية الى يومنا هذا.

فالعوامل السابقة هي من هيأت بشكل اساسي لمصطلح سياسة (الفوضى الخلاقة) فهنا عندما تكون يد الدول الكبرى والمنظمات السرية لتمكين هذه الفوضى داخل الدول العربية تكون امام أرضية سهلة ورخوة ومهيئة لذلك. فلا حاجة للدخول الى نظرية المؤامرة واستنباط فكرة الفوضى الخلاقة.

ان الفوضى الخلاقة تعد حالا على الدول  من اخطر الاساليب السياسية التي تتبعها  الدول الكبرى فهي تساعدها بشكل كبير لتحقيق مئارب واهداف سياسة واقتصادية واجتماعية ما كادت لتصل اليها لو كانت هذه الدول متطورة فكريا ومستقرة سياسيا ونضوج هذه الفكرة او النظرية لم يعد يقتصر على الدول الكبرى بل حتى الدول الاقليمية المتنفذة فليس من صالح ايران ان يكون العراق مستقرا سياسيا واقتصاديا لذا كانت داعمة بشكل وبأخر دوما للفوضى والتسليح الجماعات الطائفية ونفس الحال السعودية والامارات فتعاملهم السياسي مع اليمن وليبيا مصر والاحداث الجسيمة التي ارتكبت نتيجة ما خلفته سياستهم في هذه الدول تجعل بنا ان نقول هنالك تعمد في التوجه السياسي لإحداث هذا الضعف وهذه  الفوضى في هذه البلدان فحال الدولة المصرية بعد انقلاب السيسي المدعوم سعوديا وخليجيا  وما تشهده مصر من تردي اوضاع سياسية واقتصادية وحقوقية بشكل كبير وتخبط وحدوث فوارق اجتماعية وظهور جماعات راديكالية كل ذلك هي فوضى متعمدة ما كادت لتصل إليها السعودية وأخواتها من مصر لو بقت السلطة الشرعية ولو استمرت بنمو اقتصادها  وقدراتها التنموية بعد ثورة 25 يناير فهذه الفوضى ليست للتعمير وانما للنفوذ والسيطرة على المقدرات الدول العربية الرخوة.

ان الدول الكبرى تعترف بسياسة الفوضى الخلاقة وتعدها اعلاميا هي مرحلة مهمة لأعادت الدول من جديد الى افق الانظمة السياسية السليمة.  فبتاريخ السابع والعشرين من يونيو/حزيران 2005، وخلال المحاضرة التي ألقتها كونداليزا رايس في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، قالت من كانت تشغل حينها منصب وزير الخارجية: “إننا يجب أن نتطلع جميعاً إلى مستقبل تحترم فيه كل الحكومات إرادة ورغبات مواطنيها، لأن المثل الديمقراطية هي مثل عالمية. لقد سعت الولايات المتحدة لمدة 60 عاماً من أجل تحقيق الاستقرار على حساب الديمقراطية في الشرق الأوسط، لكننا لم نحقق أياً منهما، والآن نحن ننتهج أسلوباً آخر، فنحن ندعم التطلعات الديمقراطية لكل الشعوب.

إن هدفنا هو مساعدة الآخرين في العثور على الأسلوب المناسب للتعبير عن آرائهم والحصول على حريتهم واختيار طريقهم. عندما نتحدث عن الديمقراطية فإننا نقصد التحرر أو التخلص من دقات الشرطة السرية على الأبواب في منتصف الليل”.

أحد الحاضرين علق على كلام كونداليزا قائلاً ما معناه، إن الديمقراطية قد تأتي بأعدائها إلى الحكم، ما جعل رايس ترد متفوهة بالعبارة التي اشتهر جزؤها الأخير: “لقد ولد الإرهاب الذي ضرب الولايات المتحدة في عقر دارها، في ظل أنظمة شمولية لا ديمقراطية، لهذا فإن التغيير مرغوب حتى وإن قاد إلى فوضى، فوضى خلاقة”.

ان من ينظر الى تصريح كونداليزا رايس يجد  أنه الفوضى الخلاقة  ليست من بنات أفكار رايس، أو تأليفها، ولا هو مصطلح تم ابتكاره من قبل الإدارة الأمريكية، بقدر ما أنه تعبير معروف في عالم الاقتصاد والسياسة منذ بداية القرن العشرين  اذ استخدمه النمساوي جوزيف شومبيتر صاحب كتاب “الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية”  وايضا  نجد الاشارات الصريحة في عدة مناهج وكتب سياسية عن معناها  الفكري  ففي كتاب مايكل لدين “أسياد الحرب على الإرهاب” المنشور عام 2002 التي تقول إن “التدمير الخلاق هو عنواننا، سواء أكان في مجتمعنا أم خارجه. نحن نقوم يومياً بتقويض النظام القديم، بدءاً بالأعمال ووصولاً إلى العلم والأدب والفن والهندسة والسينما والقانون. عليهم أن يهاجمونا في سبيل البقاء، تماماً كما علينا أن ندمرهم كي نمضي في مهمتنا التاريخية”.

لذا نجد ان سياسة امريكا بعد احداث 11سبتمبر كانت تتجه نحو تطبيق هذه النظرية السياسية بشكل فعلي و مطلق ففي أعقاب وسياق هذه الأحداث، أعلنت الإدارة الأميركية جهارا نهارا عزمها إقامة شرق أوسط “جديد” ثم “كبير” . فنجد ان الولايات المتحدة عندما دخلت الى افغانستان والعراق كانت تمضي بفكرة حل مفاصل الدولة بأكملها بحجة اعادة البناء من جديد وفق اساس ديمقراطي متطور فكان أثر تلك الفوضى في العراق التي اختلقتها انها جرت البلد الى مزيد من الفوضويات والتقلبات السياسية الغير ناجحة وقادت الى مزيد من الانقسام المجتمعي والاحتقان الطائفي والتهميش المكوناتي في ظل غطاء الدمقراطية الفاشلة التي بنت أسستها الولايات المتحدة.

لذا نرى ان الفوضى الخلاقة بعد تأسيس النظام السياسي الجديد في العراق  استمر الى هذا اليوم ولم ينتهي ولم يعد ببناء جديد وانما قام على الهدم فقط  وهي سياسة متعمدة بعيدا عن نظرية المؤامرة فالفوضى الخلاقة اتاحت لعدة دول مصالح تجارية واجندة سياسية وايادي متحكمة فحال العراق او سوريا او اليمن او الخليج برمته لو كان في وضع طبيعي ومستقر ولدى هذه الدول انظمة دمقراطية حقيقة ولدى هذه الدول استراتيجيات بناءة لاستغنت بعض هذه الدول العربية عن الولايات المتحدة وبعضها الاخر عن روسيا وعن السعودية وايران فهذه الفوضى الخلاقة  هي ملامح الرسم التي تستطيع الدول العظمى والقوية والمتنفذة أن تستحكم الدول العربية التي هي بطبيعتها حاضنة لهذه الفوضى لأسباب سياسية ومجتمعية وفكرية  دون الحاجة الى جهود جبارة لسياسيات الدول والمنظمات النافذة . 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى