مقالات

سوريا.. والمشاريع المتناقضة

ياسر الحسيني

كاتب وإعلامي سوري
عرض مقالات الكاتب

” وحدة الأراضي السورية ” ،  لطالما أكّدت عليه جميع الأطراف الدولية المتدخلة في سوريا ، وأكدّته مجموعة العمل من أجل سوريا في إجتماعها في مدينة جنيف بسويسرا 30 يونيو/حزيران 2012، كما نصّ كذلك القرار الدولي  2254. ومع ذلك فان المشهد السوري اليوم وبعد مضي أكثر من ثماني سنوات لا يشير إلى أنّ وحدة الأراضي السورية هو ما يقلق المجتمع الدولي ، وأنّ الأطراف الفاعلة  تصرّح بعكس ما تفعله عمليّاً على الأرض .

ورغم تأكيدات كل من واشنطن وموسكو وطهران وأنقرة على سلامة ووحدة الأراضي السورية ، إلّا أنّ تقاسم الجغرافيا السورية فيما بينهم ودخول مصطلحات جديدة تكشف ملامح خارطة يتمّ رسمها عبر تفاهمات بينية ( ثنائية وثلاثية ) قد تجعل من وحدة الأراضي هدفاً مستحيلاً … ” شرق الفرات،غرب الفرات، سورية المفيدة ” جميعها مصطلحات ساهم في تسويقها الأمريكان والروس وحتى النظام ، من أجل تثبيت الخطوط الرئيسية لخارطة سورية الجديدة ” المفتّتة ” ، ليضاف إليها مصطلح ” المنطقة الآمنة ” المزمع تنفيذها في شمال سورية والمتفق عليها بين تركيا وأمريكا .

عملياً نحن أمام أربع مناطق نفوذ تتقاسمها كل من أمريكا وتركيا وروسيا وإيران والنظام ، ماعدا منطقة إدلب وماحولها التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام ( جبهة النصرة سابقاً ) وبعض الفصائل المسلحة الأخرى . ولإدلب قصة أخرى قد يتم إلحاقها بإحدى المناطق الأربع لاحقاً، أو تصبح هي منطقة ذات وضع خاص والإبقاء عليها كبؤرة ” توتّر ” تشدّ عصب المناطق الأخرى وتحافظ على الجرح السوري مفتوحاً لزمن قد يطول .

ما يهمنا هو المناطق الأربع التي يبدو أن الإتفاق عليها قد أنجز تقريباً ، ولم يبق سوى إعادة تموضع القوات لتثبيت خطوط الخارطة ، وبمجرد انسحاب عناصر الميليشيات الكردية من الشريط الحدودي شمال محافظتي الحسكة والرقة ، والتراجع عن نقاط المراقبة التركية من قبل قوات النظام والميليشيات الإيرانية في شمال حماه، تكون الخطوة الأولى من خارطة “النفوذ” قد تم تحقيقها ، تمهيداً لتقسيمٍ قد لا يكون معلناً ولكنّه قائمٌ فعلياً على أرض الواقع .

تقاسم الكعكة السورية :

من الواضح تماماً في عملية التقاسم أن الرابح الأول هو أمريكا ، فالمنطقة التي تسيطر عليها ” شرقي الفرات” من خلال الوحدات الكردية و” قسد” ، هي المنطقة التي يتواجد فيها أكبرحقول النفط والغاز( حقل كونيكوللغاز،حقل جفرة للنفط )في ريف دير الزور ، وحقلي الجبسة ورميلان في الحسكة . كما أن المنطقة هي الأكثر إنتاجاً للزراعات الاستراتيجية ( القمح والقطن ) ، على طول نهري الفرات والخابور ،ووجود عدة سدود تخزينية تضمن استقرار الوضع المائي للمنطقة التي تبلغ مساحتها 45ألف كم مربع تقريباً،  يضاف اليها الثروة الحيوانية التي تنامت في فترة الحرب الطويلة كونها كانت الملجأ الآمن لمربي الأغنام الذين هربوا بقطعانهم من المناطق الساخنة .

تأتي روسيا في المرتبة الثانية من حيث حصتها من الكعكة ، بعد أن استطاعت أن تحول قاعدتها البحرية في طرطوس من قاعدة صغيرة للإمداد إلى قاعدة تستطيع إيواء القطع الحربية الكبرى ( الطرّادات ، حاملات الطائرات ) ، إضافة إلى توقيع إتفاقية تأجير ميناء طرطوس لمدة 49 عاماً . وبذلك تكون روسيا قد ضمنت تواجد أسطولها في البحر الأبيض المتوسط بشكل دائم ( حلم الوصول الى المياه الدافئة ) . بالإضافة إلى “قاعدة حميميم الجوية”التي أصبحت قاعدة روسية منذ أواخر آب من عام ٢٠١٥، حيث وقعت روسيا اتفاقية مع نظام الأسد، تمنح القوات الروسية الحق باستخدام قاعدة حميميم في كل وقت من دون مقابل ولأجل غير مسمى.وهذا غيض من فيض ، فمن مناجم الفوسفات في خنيفيس ، إلى مطار دمشق الدولي ، إلى عقود إعادة هيكلة الجيش السوري وتسليحه ، إلى عقود إعادة الإعمار ، كلّها ستكون من حصّة الشركات الروسية في حال استمر النظام في حكم ” سوريا المفيدة ” وهي المنطقة الممتدة من غرب نهر الفرات عبر البادية الى المنطقة الجنوبية من سوريا حتى الحدود الأردنية ، وغرباً باتجاه الساحل والحدود اللبنانية .

أما بالنسبة لإيران فهي تبدو راضية تماماً، خاصة وهي ترى تمدّد مشروعها الديني يسير بدون معوقات ، حتى وإن بدت إسرائيل تعارض وجوده على الأرض قريباً من حدودها ، ولكن لن يكون مقلقاً لها ، وهو يشبه تواجد حزب الله في جنوب لبنان ، الذي تحسن التعامل معه حتى في نسج المسرحيات ( مسرحية الطائرتين المسيرتين التي سقطت في الضاحية مؤخراً ) . ويكفيها إيران ما حققته على الأرض في سوريا من توغل لميليشياتها على طول الضفة الشرقية لنهر الفرات وحملات التشييع المنظّمة في تلك المنطقة ،بدءاً من مدينة البوكمال على الحدود العراقية ، وتشييد الحسينيات في المنطقة تماماً كالذي فعلته في بعض أحياء دمشق القديمة والبلدات المحيطة بها . أما من الناحية الإقتصادية فهي لا تقلّ حصتها عن حصّة روسيا من العقود المبرمة مع النظام ، في مجال الإعمار والإتصالات، وتوقيع 9 مذكرات تفاهم في مجالات السكك الحديدية، والسكن، والاستثمار، والتعليم.

أما الحصّة التركية ، فتبدو معنويّة أكثر منها ماديّة ، إلّا أنّ التفاهمات البينية مع كلّ من أمريكا وإيران وروسيا ، قد تضعها في أعلى قائمة المستفيدين من الكعكة السورية ، ففي حال تم تنفيذ المنطقة الآمنة بالشروط التركية ، سيصبح نفوذها لا يقلّ عن نفوذ الأطراف الأخرى في الجغرافيا السورية، ما يضمن لها لعب دور أكبر في مستقبل سوريا، خاصّة وهي تحتضن المعارضة السورية، والملايين من اللاجئين .

بعد استعراض مآلات مناطق النفوذ والدول الراعية لها من الناحية الإقتصادية، لا بدّ من العودة إلى البعد السياسي لكلّ من الأطراف اللاعبة وماهي مشاريعها السياسية في سورية على المدى المتوسط والبعيد .

إذ لا يمكن أن يلتقي المشروع الأمريكي في المنطقة مع المشروع الروسي أو الإيراني، حتى وإن كانت تلك المشاريع تخدم بالمحصلة ( إسرائيل )، ولكن هناك ركائز إيديولوجية متناقضة بالمطلق فيما بينهم، وهذا يحتّم التصادم مستقبلاً، حتى مع تركيا وربما مع إسرائيل أيضاً، فالمشروع الإيراني الساعي الى التمدّد في المنطقة العربية، يشبه المشروع الإسرائيلي الذي يسعى لذات الهدف، ولا يمكن لـ (الهلال الشيعي) أن يتجنّب الأحلام الإسرائيلية ( من الفرات إلى النيل )، لطالما أنّ المشروعين يستهدفان المنطقة نفسها .

كما أن المشروع الروسي يطمح لإستنساخ تجربته في الشيشان، وجعل النظام يدور في فلكه فقط، وهذاسيؤدي حتماً للتصادم مع إيران،التي تعتبر سوريا المحافظة 35 لها، وصلة الوصل لحزب الله في لبنان .

وقد يحصل ذات الأمر بين تركيا والولايات المتحدة في منطقة الجزيرة السورية، رغم العلاقات الوطيدة بينهما، ووجود تركيا في ( حلف الناتو). إلّا أنّ مشروعيهما في سوريا متناقضين، فأمريكا تدعم الأكراد وتركيا تحاربهم، واحتمال التصادم قائم.

كلّ ماسبق يقودنا إلى أنّ سوريا وبعد ثماني سنوات من الحرب الضروس ضدّ الشعب السوري ، ليست ذاهبة إلى الشفاء والإستقرار، بل هي ذاهبة إلى ماهو أسوأ بكثير، وأنّ ما مرّت به لم يكن سوى عملية ” تسخين ” لحروب أشدّ ضراوة، ولا يمكن وصفها بأقلّ من حرب عالمية، فهل ستكون سوريا هي فعلاً ” الثقب الأسود ” الذي سيبتلع جميع من تورّطوا بالتدخّل فيها، أم هي لعنة السوريين، الذين أرادوا أن تكون ثورتهم سلمية فتكالب عليها الشرق والغرب، للقضاء على حلم الشعب بنيل الحرية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى