دين ودنيا

الهرطقة السلفية للقضايا السياسية

بشير بن حسن

مفكر إسلامي
عرض مقالات الكاتب

بالرغم أنني أنزلت مقالا في الأيام الماضية عن معنى( الحكم بما أنزل الله ) وبينت فيه بالأدلة تفصيل هذه العبارة المُجملة، التي صارت مع الأسف فزّاعة يرفعها الكثيرون في وجه كل شخص يسعى إلى العمل السياسي، ولو بنية طيبة حسنة من أجل الإصلاح ،الا أنه لا يزال الإصرار والعناد ظاهرا في مواقف هؤلاء القوم ، فيعتمدون على” مُجمل ” هذه العبارة (الحكم بما أنزل الله ) لاعتزال المشاركة السياسية بأنواعها ،و من ذلك الانتخابات ، وأنك لو طالبتهم بصورة واقعية لمفهوم الدولة أو للمعنى التطبيقي لما أنزل الله لن تجد منهم جوابا الا الرجوع إلى الأسلوب ” الإجمالي ” أو ” الأسلوب العام السطحي ” الذي يحسنه كل شخص ، أو إلى التنظير في ” الداخل ” اي في الذهن بعبارة الفلاسفة ،دون القدرة على التطبيق في” الخارج “أي على أرض الواقع !!
لن أعيد ههنا معنى ( الحكم بما أنزل الله ) بل أكتفي بما سبق تنزيله ، ولكن هنا سأتنزّل في مقام المناظرة الى قولهم ، على أن الدستور التونسي دستور كفر ، وأن الدولة تحكم بغير ما أنزل الله، وأن البرلمان ومجلس الشعب يشرعون مع الله ، و يخالفون الشريعة الإسلامية في كل شيء ، لنفرض جدلا أن هذا هو الواقع ( وهو غير صحيح مطلقا ) !!
اذا ابتلانا الله عز وجل بذلك ، ووجدنا أنفسنا أمام مجموعة من المترشحين ، الذين لا علاقة لهم بالدين كما يتصور البعض ،لا من قريب ولا من بعيد ، و لكنهم متفاوتون في الكفر أو الفسق أو الظلم ، بهذه النعوت الثلاثة التي نعت الله بها من لم يحكم بما أنزل، فهل من الشرع والفقه والحكمة والأصول أن نترك لهم الحبل على الغارب ، ونعتزل كل هذا المشهد ، لنفسح المجال للذين سينتخبون( الأكفر والأظلم والافسق ) أم أن نشارك وندلي بأصواتنا لمن هو أخف كفرا و ظلما وفسقا ؟؟
أليس الكفر متفاوتا ؟ ألم يقل الله تعالى ( لتجدنّ أشد الناس عداوة الذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدنّ أقربهم مودة الذين آمنوا الذين قالوا انا نصارى …) فهذه الملل الثلاثة ملل كفر ولكنها متفاوتة في نوعه، و في علاقتها بالمسلمين !!
ألم يقل الله تعالى في ملة أهل الكتاب ( ليسوا سواء….)
ألم يقل الله عز وجل في الكفرة الغير المحاربين ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم ان الله يحب المقسطين **إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين و أخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ) !!
أليس الله قد أمر بالعدل في الحكم على الناس وعلى المخالف فقال ( ولا يجرمنّكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ) ؟؟
ثم ، أليس العلماء قد قرروا أنه إذا اضطرّ الانسان الى ارتكاب المحرم فإنه يجوز له ذلك بقدر الضرورة ، واستدلوا بقول الله تعالى ( وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم الا ما اضطررتم إليه ) ؟؟!
أليس قد تقرر في علم الأصول وفي فقه الموازنات بالتحديد، أنه عند تعارض مفسدتين ترتكب المفسدة الدنيا لدفع المفسدة الكبرى ، ؟؟ فانتخاب هذا ( الكافر أو الظالم أو الفاسق كما تصفونهم، الاقل شرا ) خير من الاعتزال و ترك الانتخاب ليتولى من هو شرّ منهم ليسومكم سوء العذاب وينتف (لِحاكم ) نتفا !!
وأنتم تعلمون أن البقاء في تونس هو قدركم ، ولا يستطيع الواحد منكم ( الهجرة ) للفرار بدينه الى ( أرض الاسلام والإيمان والتوحيد كما تتصورون ) ومن ثَمّ الى جنة عرضها السموات والأرض !!
اذن لماذا المكابرة والعناد ؟؟ لماذا هذا الإصرار على الهرطقة التي لا طائل وراءها الا المماحلة ، لا خيار لكم، ولا طاقة لكم ، ولا حيلة لكم ، الا أن تنصاعوا لهذا الواقع المفروض عليكم ، وأن تستحضروا نية صالحة في شانكم لقوله صلى الله عليه وسلم( إنما الاعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ) .
ومن الهرطقة السلفية في هذا الباب ، أنّنا لما قررنا بالأدلة ان الشورى حق جميع المسلمين بلا استثناء واستدللنا عليهم باستشارة عبد الرحمان بن عوف رضي الله عنه لجميع الناس في شأن عثمان بن عفان رضي الله عنه قالوا: يا سبحان الله كيف تقيس عثمان بهؤلاء العلمانيين ؟؟ وكانني قست ذي النورين بأحد من هؤلاء ؟ و الأنكى من ذلك استعمالهم لمصطلحات لا يعرفون معناها ولا يحررون دلالاتها حينما قالوا( هذا قياس مع الفارق ) !! ما شاء الله على العلم !!
أولا : الذي استدللت به ليس من باب قياس عثمان بأحد، لان الصحابة والخلفاء الراشدين لا يقاسون بأحد بعدهم رغم أنهم بشر ، ولن يتكرر وجودهم في هذه الدنيا بالمناسبة! وانما أردت فقط بيان حق الأمة في إبداء رأيها واستشارتها فيمن يحكمها ، وأن الذين حصروا الشورى في من يسمونهم بأهل الحل والعقد( اي أهل العلم كما يقولون ) لا دليل لهم الا التخرّص ، والتقليد الاعمى لمن سبقهم ، والوقوع في بدعة عبّاسية لا علاقة لها بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، (فما لكم كيف تحكمون) ؟؟
وسأتنزل مرة أخرى أن أهل الشورى هم أهل الحل والعقد، من العلماء و(المُعمّمين) فالسؤال لهؤلاء : هل لهم وجود في تونس أولا ؟؟
ثانيا اذا وجدوا هل لهم رأي يبدونه في الشأن السياسي؟
ثالثا : هل اذا أبدوا رأيهم سيسمع لهم ويؤخذ برأيهم ؟؟
أنا لا ادري في اي كوكب يعيش هؤلاء ؟؟
إن حالهم كحال مشايخهم الذين يقرؤون الكتب ولا يقرؤون كتاب الحياة الواقعية التي هم فيها !!
واعترضوا بهرطقة أخرى في اجتزاءٍ معتاد منهم في الاستدلال ، فقالوا: لقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سؤال الإمارة وهؤلاء لا يستحقونها لانهم سألوها فضلا عن أنهم ليسوا أهلا لها !!
و جوابهم :

1- أن الأصل جواز طلب الإمارة لدلالة القرآن الكريم على ذلك كما قال تعالى عن يوسف عليه السلام( قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ) ونحن نقتدي بالرسل لقوله تعالى(أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) .
والاستلال بالقرآن مقدم على الاستدلال بالسنة لأنه ثابت ثبوتا متواترا، أما السنة فمنها الثابت ومنها الضعيف كما هو معلوم .

2-الاستدلال بالأحاديث الناهية عن طلب الإمارة رغم صحتها كان عليهم أن ينظروا في سبب “ورودها ” أولا ، وليس لأنها خاصة ، لأننا نعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وإنما لأن معرفة السبب يورث معرفة المسبَّب وهذه هي تكملة تلك القاعدة الأولى!!

3- ثبت حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الجواز فإن عثمان ابن أبي العاص رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال ( يا رسول الله اجعلني إمام قومي قال أنت إمامهم واقتد بأضعفهم واتخذ مؤذنا لا يأخذ على اذانه أجرا ) رواه أبو داود وصححه الألباني.
فقال بعض أهل العلم هذا الحديث يدل على جواز سؤال الإمارة لأن الإمامة في الصلاة نوع من أنواعها فهي الامامة الصغرى، و لذا قاس عمر بن الخطاب رضي الله عنه على استحقاق أبي بكر الصديق رضي الله عنه للخلافة، على الصلاة بالمسلمين إماما في مرض النبي صلى الله عليه وسلم، وقال عمر كلمته المشهورة (أيرضاك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا ولا نرضاك لدنيانا ؟؟) .

4-والجمع بين الأدلة المانعة والأدلة المبيحة بالتفصيل هو الصواب ان شاء الله، وذلك أنه إذا نوى الشخص بطلب الإمارة أو السلطة الإصلاح و نفع الناس فلا حرج ، لما رواه الطبراني في معجمه الأوسط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الإمارة( أولها ملامة وثانيها ندامة وثالثها عذاب يوم القيامة الا من عدل ) قال الألباني حديث حسن .
كذلك ما رواه الطبراني في معجمه الكبير ووثقه ابن حِبان والهيثمي في مجمع الزوائد عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( نِعم الشيء الإمارة لمن أخذها بحقها وحِلّها وبئس الشيء الإمارة لمن أخذها بغير حقها حتى تكون عليه حسرة يوم القيامة ) .
ومن قال بجواز طلب الإمارة بنية الإصلاح: الامام بن القيم في زاد المعاد واستدل بحديث زياد بن الحارث لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم الإمارة في قومه لأنه كان مطاعا فيهم فأذن له في ذلك .(انظر زاد المعاد ).
وقال بذلك أيضا الحافظ ابن حجر في الفتح قال ( وقد يغتفر الحرص على الإمارة في حق من تعيّن عليه لكونه يصير واجبا عليه ) الجزء 13 الصفحة 126 .فانظر كيف يرى بن حجر بالوجوب اي وجوب طلبها إن كان لا يرى غيره اهلا لها !! وذلك حتى لا يضيع حق الأمة و تحصل المفسدة الأكبر!!
وقال بذلك أيضا الامام الغزالي صاحب الإحياء(الجزء الثالث صفحة 325 راجع كلامه جيدا ) .
فاذن هؤلاء الذين يبحثون عن كل مخرج من المسؤولية بدعوى الالتزام بالدين و غياب الحكم بما أنزل الله ( بمفهومهم طبعا ) ليس لهم الا الهرطقة و سوء فهم الأدلة وتأويلها ،فضلا عن سوء فهم واقعهم !!

والله من وراء القصد.

ملحوظة: الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع، وحق الرد مكفول.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى