دين ودنيا

حكم الانتخابات عند أغلب السلفيين والرد عليها

بشير بن حسن

مفكر إسلامي
عرض مقالات الكاتب

كما تعودنا في كل حملة انتخابية، سواء كانت رئاسية أم تشريعية أم بلدية، يخرج علينا أغلب السلفيين خصوصًا، الذين يقدمون أنفسهم على أنهم وصاة الاسلام وحرّاس العقيدة، وأصحاب المنهج الحق، فينطلقون في حملة شعواء، يحذرون الناس من الانتخاب، وذلك إمّا بنشر مقاطع فيديوات لبعض مشايخهم الذين افتوهم بالتحريم، أو بالفتاوى المكتوبة، ظانين أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويكيّفون المسألة على أنها تحاكم للطاغوت، وإعانة على الإثم والعدوان، بل هي إعانة على الكفر الصريح البواح!!
أو أن الانتخابات بدعة في الدين !! وأننا نحن المسلمون لا نولي علينا إلا من يحكمنا بشرع الله عز وجل، ويعلنها خلافة على منهاج النبوة، وأنّ الذي يرشح الخليفة هم أهل الحل والعقد، الذين هم بطبيعة الحال في أدبياتهم “العلماء الربّانيون ” أما سائر أفراد المجتمع فليس لهم ذلك، وليس من صلوحياتهم هذا الشأن، لانهم رعاع و عامة، ودهماء لا يعرفون مصالح البلاد والأمة ، بل يغلب عليهم الفسق و غياب وصف العدالة ، ويسود فيهم الجهل بالدين واحكامه ،ولذا لا عبرة برأيهم، ولا حق لهم في أن يُستشاروا أصلا ، وإنما واجبهم الاتباع ، والسمع والطاعة !!
وهنا تارة يطالبون الناس بعدم إقحام أنفسهم في هذا المجال ،بتعلة أنه تدخل فيما لا يعنيهم !! واستدلوا أو استانسوا بالأثر(من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) !!
أو خرجوا على الناس بخطاب كهنوتي لا يقلّ فرقا عن خطاب القساوسة والرهبان الذين استخدمهم ملوك الاقطاع في أوروبا ورفعوا شعار : دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر !!
واستعملوا بعد ذلك بعض المُسكّنات بل المنوّمات والمخدّرات ، للعقول والافهام من قبيل ( لا تنشغلوا بالسياسة و اشغلوا أنفسكم بطاعة الله ، وذكره ، و طلب العلم !! و الدعوة إلى الله! و اعلموا أنه كيفما تكونوا يولّ عليكم ) أصلحوا أنفسكم سيصلح حُكامكم !!
وكل هذا الذي يقولونه تدليس لدين الله سبحانه ، وليّ لأعناق الأدلة الشرعية ، وخطأ عن قصد أو غير قصد في التأويل والتنزيل .!!
وهذه أدلة جواز الانتخابات بل وجوبها :

1- الانتخابات وسيلة من وسائل ترشيح واختيار الأنسب للمهمات والقيادات ، وهي شبيهة بالشورى التي هي حق جميع المسلمين ، لقوله تعالى( والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون ) فقوله أمرهم: أي جميع أمورهم لأن الاسم المفرد المضاف في علم الأصول يفيد العموم في المعنى ، وكثيرا ما يستعمل لفظ الامر في نصوص الشرع على أنه الحكم والسلطة ، لقول الله تعالى( وأولي الأمر منكم ) و لقول النبى صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه يوصيهم في من انعقدت له الولاية بصفة شرعية ( وأن لا تنازعوا الأمر أهله ) اي الحكم ! و ما أدري مالذي جعل هؤلاء يخصُّون بحق الشورى بعض المسلمين دون البعض الآخر؟؟ والآية صريحة في عمومها ( وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون ) فالصلاة والصدقات لم يدخلوا التخصيص فيهما والشورى خصصوها ؟؟وهذا من التحكّم كما قال أهل العلم!! ومن شُبه هؤلاء أن الخلفاء الراشدين تشاور الصحابة في توليتهم كما حصل لأبي بكر رضي الله عنه في سقيفة بني ساعدة حينما تشاور المهاجرون والأنصار ثم بايعوه !! ولكنهم يكتمون بيعة الناس العامة في المسجد !! ويكتمون شأن سعد بن عبادة الذي لم يرض وذهب الى الشام !!
و يكتمون استشارة عبد الرحمان بن عوف لكل الناس في شأن عثمان بن عفان رضي الله عنه، حتى الصبيان والموالي، والرواية رواها بن كثير في البداية والنهاية باسناد صحيح .
وانما اقتصروا على ترداد ما لا يدرون ولا يعقلون، وهي عبارة (أهل الحل والعقد )التي لا أصل لها لا في كتاب الله عز وجل ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم لأنها أوّلا من وضع خلفاء بني العباس، ليتداولوا على السلطة ،وكانوا قد اختاروا بعض الفقهاء وقدموهم للناس على أنهم أهل الحل والعقد وهم في الحقيقة الامر لا يَحُلّون شيئا ولا يعقدون !!
فالشورى حق أفراد المسلمين جميعا بلا استثناء ، وهذا ما يفسر نزول سورة الشورى في مكة مع أن موضوعها سياسي بحت فلم تنزل في المدينة ،وما ذاك الا لابطال شورى أهل الجاهلية التي يدعوا إليها السلفيون اليوم ،وذلك بحصرها في بعض أفراد المجتمع لا في جماعة المسلمين كلهم !! ويا ليتهم يفقهون !!
وعلى هذا فجميع الناس لهم حق إبداء الرأي، وليس الناس اغناما لا إرادة ولا خيار لهم!! حاشى الاسلام أن يحتقر إرادة الأمة و أن لا يعطيها الحق في اختيار من يحكمها !! فهذا حق إسلامي مكفول بنصوص الكتاب والسنة، وتخصيص عمومها يحتاج إلى دليل صحيح ولا دليل عندهم الا التحكّم والتدليس!!
فإذا تقرر ذلك أي أن الشورى حق مكفول لكافة أفراد المسلمين فإن طريقتها ووسيلتها ليست توقيفية ولا تعبدية محضة ، والوسائل تختلف باختلاف الزمان والمكان، فلا مانع حينئذ من استعمال بطاقات الانتخاب و صناديق الاقتراع .

2– والانتخابات ، تأخذ حكم الشهادة للشخص المترشح أو المرشح بأنه كفؤ أم لا ، كما لو كنا نبحث عن حارس لمصنع أو مدرسة فاننا ستختار الانسب لهذه المهمة ، فإذا ما عرض لنا مجموعة من المترشحين، فيجب علينا شرعا ان لا نشهد الا بحق وان تكون شهادتنا لله ،كما قال تعالى( ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فانه آثم قلبه ) و قال أيضا ( وأقيموا الشهادة لله ) فهنا يؤخذ من هاتين الآيتين وجوب الشهادة وتحريم كتمانها لما يترتب على ذلك من المفاسد في العاجل والآجل ، و أن لا نشهد شهادة الزور التي قرنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشرك بالله كما في حديث أبي بكرة المشهور.
وعلى هذا فالانتخاب شهادة وأمانة أيضا والاعانة على حفظ الأمانات واجب شرعي ، فالبلاد بمكتسباتها أمانة في أعناقنا، ويجب إعانة كل من توفرت فيه شروط حفظ هذه الأمانات كما قال تعالى( ان خير من استاجرت القوي الامين ) لكن لا بد أن نعلم أن الكمال في البشر مستحيل التحقق، وأن التسديد والمقاربة مطلوبان من باب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم(سددوا وقاربوا وابشروا ) .
والله تعالى يقول ( فاتقوا الله ما استطعتم ) .
ومن القواعد الفقهية: ما لا يدرك كله لا يترك جُله !!

3– كما أن الانتخابات ليست تحاكما لغير شرع الله كما يتصوره السلفيون ويصورونه للناس ، حيث أنه حق مكفول في الاسلام وهو حق الشورى العامة لكل المسلمين ،أما الشخص المرشح فهذا بحسب موضعه ، ان كان رئيسا للجمهورية في نظام برلماني فصلوحياته محدودة، وليس له منصب المشرّع ، وبالتالي يختار الأصلح لهذا المنصب الذي ليس له عداوة للدين ولا للمتدينين ، أما إذا كانت الانتخابات بلدية فهذا لا اشكال فيه أيضا لأنه منصب إداري و أكثر النظم الإدارية لا تتعارض مع الاسلام ،لانها من باب المصالح المرسلة كما يكيفها الفقه ، أو الاستحسان أو الاستصحاب .
ويبقى الاشكال الاقوى عندهم في الانتخابات التشريعية ، لأن المشرّع هو الله ورسوله، والتشريع مع الله شرك وكفر ، ويستدلون بقوله تعالى (ام لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ) وهذا الاستدلال ليس بصحيح ، لماذا ؟ لأن التشريع من الله فيما هو نص قطعي لا يقبل التأويل، وفيما هو محل إجماع، أما ما نصه ظنيّ الثبوت والدلالة كما هو شأن الأحاديث التي دون المتواتر، أو ما هو ظني الدلالة في القرآن أن يحتمل أكثر من وجه ومعنى ، فهذا يبقى الجهد فيه بشريا !! وقل مثل ذلك في مصادر التشريع الإسلامي كالقياس وقول الصحابي والمصلحة المرسلة و الاستحسان وغيرها كلها جهود بشرية !! أقرها العلماء من قديم الزمان (راجع مقالي عن معنى الحكم بما أنزل الله ) .
و اختيار النواب الذين يمثلون الجهات في البلاد في ما يسمى بمجلس الشعب أو البرلمان لا حرج فيه ، وهو ما يسمى بالعِرافة كما قال عليه الصلاة والسلام( العرافة من الاسلام )رواه مسلم.
وما هي العرافة ؟ هي تمثيل الناس، في قبائلهم و جهاتهم، وذلك أن الناس لما اختلفوا في الغنائم مع النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال لهم ( لا ندري من رضي منكم ممن لم يرض ارفعوا الي عرفائكم ) رواه البخاري وراجع كلام بن حجر في شرح هذا الحديث إن شئت.
فالنواب عرفاء الناس في مختلف جهاتهم ، يمثلونهم ويوصلون اصواتهم، ويقضون حوائجهم. وأما التشريع فكما فصّلت انفا لهم الحق فيما هو ظني ،وهو الأكثر في الشرع ،بما لا يتصادم مع النصوص الصريحة الصحيحة القطعية.
على أن الداخل الى هذه البرلمانات اذا كان قصده جلب المصالح وتكميلها ،ودفع المفاسد أو تقليلها فهو مأجور على نيته وعمله ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في السياسة الشرعية، وقال ومثل هذا يجب أن يعان لأن ذلك من الإعانة على البر والتقوى، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) راجع السياسة الشرعية لابن تيمية.
ولذا شهد الله عز وجل بالإيمان لرجل كان بعمل في قصر الكفر قصر فرعون فقال( وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه اتقتلون رجلا ان يقول ربي الله ) وقد كان سببا في نجاة موسى عليه السلام من القتل !
كما أن يوسف عليه السلام طلب المنصب السياسي حينما قال لملك مصر الذي كان كافرا ( قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ) !!
فإذن يجب إعانة كل من يتوسم فيه الخير لأجل هذا الغرض . والأخذ بالأسباب الممكنة لإنقاذ ما تبقى .
أما عقلية الاعتزال والتثبيط فلن تجدي شيئا بل ستكون سببا في تولي من هو أفسد و أظلم ، اذا خذلوا من هو أولى وأصلح واعدل وحينئذ سيتباكون على ما فات ، و يندمون يوم لن ينفعهم الندم ولا شيوخهم الذين يفتونهم اليوم بالتحريم.

والله ولي التوفيق

ملحوظة: الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع، وحق الرد مكفول.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى