دين ودنيا

تعامل السلفية مع الكتب

بشير بن حسن

مفكر إسلامي
عرض مقالات الكاتب

لا تزال المقالات تتوالى في هذا الشأن، بقصد الإيضاح والتنبيه، والتصحيح والنصح و الإرشاد، بعد تجربة مع هذه المدرسة التي عرفتها منذ ما يزيد عن عشرين عامًا، ومن بين الملاحظات والمؤاخذات، تعامل السلفية (بألوانها الثلاثة) مع الكتب العلمية أعني علوم الشريعة ، فهي وإن كانت مدرسة إصلاحية تهتم بالموروث الإسلامي، و يعمل نُظّارها ومنظّروها على الاعتناء بالمصنّفات القديمة خاصة ، تحقيقا و تعليقا ، وشرحا و تهذيبا وتنقيحا، وطباعة وتوزيعا ونشرا، ولكن الاشكال في وقوع الكثير منهم في تقديس هذا التراث، (أعني بالتراث الشروح والتفاسير وكتب الفتاوى و التصنيفات المختلفة ) الذي هو جهد بشري ،صدر في ملاباسات معينة ، وظروف زمانية ومكانية تختلف تماما عن عصرنا اليوم، والحق أن الناس مع هذا الموروث ثلاثة أصناف :

  • صنف وقف منه موقف المُقدّس المبالغ في تعظيمه الى حدّ اعتباره وحيا منزلا من عند الله تعالى ( وهذا ما وقع ويقع فيه أكثر أبناء المنهج السلفي المعاصر ).
  • وصنف نظر اليه بنظرة الازراء والاحتقار بل اعتبره من أسباب تخلفنا الحضاري والفكري وهؤلاء هم أدعياء الحداثة والتنوير كما يروق لهم وصف أنفسهم بذلك .
  • وصنف توسط : يتعامل مع هذا التراث بلا تقديس ولا تبخيس، يأخذ منه الصحيح ويرد منه الضعيف، يستفيد مما هو متلائم مع عصره، ويردّ بأدب واحترام ما ليس كذلك .

و الإشكال أولا عند السلفية في التعامل مع الكتب هو خلل المنهجية العلمية من عدة وجوه :

1– كثير منهم حصر المراجع في كتب الحنابلة ، سواء كانت في العقيدة أو في الفقه ، وهذا نوع من البخس للمدارس العلمية الأخرى التي لا تقلّ شأنا عن مدرسة الحنابلة، و الأدهى من ذلك أنهم يروّجون بشتى الطرق آراء فقهاء وعلماء هذا المذهب ،دون التنبه للتشويش الذي يحدثونه في ديار المسلمين، الذين قد لا يكون مذهب الحنابلة معروفا فيها ، و كم يتسببون في بلبلة العقول و إثارة المعارك الفقهية ، حول جزئيات وفرعيات لم ولن تزال محلّ خلاف بين العلماء ، كتحية المسجد في أوقات النهي ، أو عند صعود الإمام على المنبر يوم الجمعة، وزكاة الفطر في كل عام ، ومسألة النقاب، و الإسبال، و اللّحى ، و غيرها …
ولذا كان علماء السلف رحمهم الله يتحاشون مثل هذا السلوك، فإن أبا جعفر المنصور لما طلب من الامام مالك رحمه الله أن يجعل موطّأه الذي كتبه بطلب منه في الكعبة المشرفة، وأراد أن يُلزم جميع المسلمين به ،أبى الإمام مالك وقال قولته المشهورة ( لا يا أمير المؤمنين، إن الناس قد سبقت إليهم مذاهب وأقوال ، ولا ينبغي أن يُلزَموا برأي مالك ) !! هذا هو الأدب والعلم ، وقال بن القيم رحمه الله في ( إعلام الموقّعين عن رب العالمين ) : (من أفتى أهل بلد دون أن يعرف أحوالهم ولا المذهب الفقهي السائد فيهم فقد أساء إلى الشريعة غاية الأساءة) !! فاعتبر هذه الطريقة ليست إساءة الى أهل ذلك البلد فحسب بل الى الشريعة !!
ولكن أتباع هذه المدرسة و مشايخها يعتبرون ذلك نوعا من أنواع نصرة السنة و المنهج الصحيح !!!
وكأن المدارس الفقهية الاخرى ليست على السنة أو أن أئمتها لا يحبّون السنة أو أنهم ليسوا على الصراط المستقيم ولا المنهج القويم !!
على أن ترويج مذهب الحنابلة الذي ينتحله أهل الجزيرة العربية، قد يكون مقصودا من بعض الساسة هناك ،لأنه نوع من أنواع السلطة الروحية التي يجنون ثمارها المادية والمعنوية ، و يشترون بذلك ودّ جماهير الشباب المتدين وولائهم، وبالتالي يسهل استخدامهم فيما أرادوا ، كما وقع استقطابهم ولا يزال، لخدمة العديد من الأجندات السياسية ، كما استقطبوهم في حرب الأفغان ضد الروس، وما كان ذلك الا لتصفية حسابات بين أمريكا وروسيا ، واستُخدم شباب المسلمين وقودا في هذه الحرب ، و غيرها من أتون الفتن والعنف !!
كما أنهم يستخدمونهم بطرق أخرى في التصدي لأي مشروع إصلاحي في عالمنا العربي والإسلامي، وذلك بحثهم على اعتزال العمل السياسي تارة ، و تارة أخرى بتكوين حزب سياسي ( بعد أن أكثروا من النهي عن التحزب !! ) لكن مادام ذلك في سبيل ضرب التيارات الإسلامية ، ولو بالوقوف في خندق الطغاة و مولاة الظالمين والركون إليهم فلا حرج ولا بأس ،ستتكيف حينئذ الفتاوى ، وتصدر تحت الطلب على المقاس المناسب، وبطبيعة الحال تحت تبرير الالتزام بالكتاب والسنة بمفهوم سلف الأمة!! كما هو الحال في مصر مع ما يسمى بحزب النور !! أو في ليبيا بمساندة السفاح خليفة حفتر الذي يصفنوه بانه ولي أمرهم بل والله سمعت بعضهم يقول عنه ( سماحة الوالد حفظه الله ) !!

2– كذلك من المؤاخذات عليهم بعد حصرهم الكتب في المدرسة الحنبلية، أنهم يوجهون الشباب الى قراءة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه بن القيم رحمها الله، في الغالب ، دون التفريق بين مصنّفات ذينك العلَمين الفذّين ، ومعلوم أن كتب شيخ الإسلام وتلميذه بن القيم أكثرها كتب طويلة ، و ليست سهلة في فهمها ، بل تحتاج الى مستوى رفيع في الفهم والعلم ، وأنا أشبهها بكتب السنوات المتأخرة في علم الطبّ !! فكيف يبدأ طالب هذا العلم بالمقرّرات المتأخرة وهو لم يدرس ما يجب دراسته قبلها ؟؟ هذا من أضرّ الأشياء عليه ،ولذا كان يجب توجيه الشباب الى قراءة الكتب المختصرة أولا ، بل لا بدّ من البداءة بالكتب الفكرية التي تسهم في تنمية القدرات العقلية ، حتى يكون عند الشاب القدرة على الاستيعاب والفهم الصحيح ، والتفريق بين مواطن التقرير العلمي و مواطن الاستطراد ، إذ بينهما فرق كبير يعرفه أهل التخصّص، ولذا ، كم من هؤلاء السلفيين من يستدل علينا بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية وهو في الحقيقة من استطراداته وليس مما يقول به الشيخ أو يقرره كمعلومة علمية!!
وكم يسلكون مسلك البتر والاقتطاع في الاستدلال !! انتصارا للرأي و هزيمة للمخالف !! ( ولي مقال مستقل عن السلفية وشيخ الإسلام ابن تيمية سينزل بعد هذا المقال بحول الله تعالى ) .

3– ومن المؤاخذات أيضا ، أنهم في التصنيف للكتب والرسائل الجامعية ، والتي يملكون لها الإمكانيات الهائلة نشرا وطباعة و توزيعا، لا يهتمون كثيرا بالنوازل والمستجداّت ، بل أغلبها ولا اقول كلها ، من باب اجترار المُجْترّ ، وتكرار المكرور، وما أكثر رسائل الدكتوراه التي لا تعدو أن تكون تحقيقا لكتاب وتخريجا لأحاديثه !! وهذا العمل وان كان مطلوبا لكنه هل هو الأولى؟؟؟ لا قطعا، لحاجة المسلمين إلى ما هو أهم من ذلك ، فإننا تعيش عصر المتغيرات المتسارعة، و يحتاج الناس إلى العلم الذي يخدم زمانهم لا العلم الذي خدم زمانا قد ولّى ،وإلى علماء عصرهم لا الى علماء العصور الماضية!!
فكم من المناهج الفكرية الخطيرة التي تجتاح ديار الإسلام والتي تغزوا عقولهم و قلوبهم، وتتصادم مع ثوابتهم لا يوجد لها من الكتب والمصنفات الا القليل الذي لا يفي بالحاجة ، بسبب الانشغال بما هو أقل أهمية !!
وكم من المعاملات الجديدة التي تظهر بصفة مستمرة تحتاج الى بحوث علمية و آراء فقهية توضّح حكمها ، و إن كان يوجد بحمد الله بعض المجالس الافتائية و مراكز الأبحاث لكنها قليلة أيضا ، والتصنيف في هذا المجال أولى من شيء آخر.
خذوا على سبيل المثال:ما يكتبه السلفيون عن الجهمية والمعتزلة و القدرية و غيرها من الفرق الغابرة !! في الوقت الذي لا نجد فيهم من يكتب عن المناهج والفرق المعاصرة الخطيرة بافكارها على أمة الإسلام، والعمل على كشف شبهاتهم !! كالليبيرالية والعلمانية والقومية والاشتراكية وغيرها الا نادرا وقليلا لا يكفي !! اذن هناك نوع من أنواع التصور الخاطئ في نصرة الحق و التصدي للباطل ، وعامل التزامن كثيرا ما هو غائب تماما عن عقولهم !!

4– من المؤاخذات كذلك : ولع الكثير منهم بجمع الكتب تزيينا للرفوف ، واستكثارا منها ، دون الاستفادة فعلا من هذه الكتب بمنهجية علمية صحيحة ، وذلك أولا بسلوك مسلك التدرّج في المطالعة، والصبر على القراءة ، و عدم الاكتفاء بغلاف الكتاب أو قراءة فهرسته، أو اختطاف واقتطاع فقرات منه دون الاتيان على أوله وآخره !! فليست العبرة بامتلاك الكتب وإنما بكيفية الاستفادة منها ، والا كان حال صاحبها كما قال الشاعر:
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ * والماء من فوق ظهورها محمول .

5— ومن المؤاخذات عليهم أيضا في هذا الباب ، أنهم لا يقرؤون لمن يخالفونه في الفكر والمنهج ، بل يقتصرون على الإصرار على نعته بالضلال والانحراف ،ويرددون ببغائية عجيبة ما يقوله مشايخهم في تغييب للعقل مطلقا،
والانسان لا يستطيع أن يحكم على الشيء وهو يجهله ، كما قال علماء المنطق : الحكم على الشيء فرع عن تصوره !! أي لا تستطيع أن تحكم على الشيء وانت لا تعرفه اصلا ، وكما قال تعالى قولا صادقا ( بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ۚ  ) !!
فكم حذرونا من القراءة لكتب الشيخ القرضاوي والغزالي و السيد قطب و الحسن البنا و الندوي و غيرهم ، لأنهم مصنفون عندهم أنهم من أهل البدع !! و أن كلامهم خطير على العقيدة والمنهج !!
وأنا لا أقول أن هؤلاء معصومون ولا تجري عليهم الأخطاء كغيرهم ، لكن أن يقال ذلك الكلام فيهم بهذا الشكل فهو ظلم و سوء أدب بل هو جبن وخوف من جهتهم ، لأنهم ان كانوا فعلا على منهج شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فليسلكوا طريقته في القراءة لخصومه والرد عليهم بانصاف دون تحامل أو تحميل للكلام ما لم يحتمل !!
أما أن تحكم على الكتاب وعلى الشخص وأنت لا تعرف شيئا عنه ، فقط لأن شيوخك حذروك منه،!! فهذا لعمر الله شبيه بما وقعت فيه الاثنا عشرية مع أئمتهم ، و المريدون مع شيوخهم ، الذين يعتقدون فيهم العصمة ، والذين طالما حذرالسلفيون من مناهجهم ولكنهم واقعون في نفس الخطأ ، دون أن يشعروا .
وعلى هذا فينبغي على طالب العلم أن يقرأ للمخالف، ويكون منصفا، و يتسع عقله وصدره لذلك ، فلعله ممن كان مغيبا عن خير كثير وهو لا يدري!! والحكمة ضالة المؤمن أيما وجدها فهو أحق بها .

6- ومن ذلك إعتناء أكثرهم بكتب الفتاوي وتجميعهم لها، وكثرة النظر فيها ظانين انها العلم كله ،وأن تلك الفتاوى التي أفتي بها في ظروف زمانية ومكانية أخرى يمكنهم تنزيلها في عصرهم وبيئتهم و بلادهم وهذا من البلاء! لأن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال وغيرها ( تقرأ موجبات تغيير الفتوى في عصرنا ) .

هذه ست مؤاخذات، على السلفية في تعاملها مع الكتب،
وللحديث بقية ان شاء الله، عن علاقتهم بشيخ الاسلام ابن تيمية هل هي حقيقية أم مجرد استعمال وترويج واستهلاك ؟؟
في المقال المقبل بحول الله تعالى.

والله من وراء القصد.

ملحوظة: الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع، وحق الرد مكفول.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى