مقالات

ملك ليبيا محمد إدريس السنوسي وعلاقته بالثورة الجزائرية (5)

د. علي محمّد الصلابيّ

عرض مقالات الكاتب
  • اهتمام الملك إدريس بالثورة الجزائرية:

كان السنوسيون منذ زمن المؤسس الأول للحركة الإمام محمد بن علي السنوسي مهتمين بأمر الجهاد في الجزائر، وواصل الملك إدريس جهوده المادية والمعنوية لدعم ثورة الجزائر التي اندلعت (في 1/11/1954 م)، وقد أثبتت الوثائق التاريخية جهوده العظيمة، وأعماله الجسيمة في هذا الباب، فقد ذكر السيد مصطفى أحمد بن حليم في كتابه (صفحات مطوية من تاريخ ليبيا السياسي) في الباب التاسع، تحت عنوان: ثورة الجزائر ودور ليبيا الخطير في مساندتها مايقيم الحجة والبرهان على صدق الملك إدريس لدعمه للثورة الجزائرية، فقد ذكر السيد مصطفى بن حليم عندما كان بالقاهرة أن الرئيس جمال عبد الناصر اتصل به ودعاه لاجتماع منفرد معه، وفاجأه قائلاً: إنه يود أن يتحدث معه عن الثورة الجزائرية التي اندلعت، وشرح جمال عبد الناصر لمصطفى بن حليم أنه اتفق مع الملك سعود والأمير فيصل على أن تقوم المملكة العربية السعودية بتقديم كافة الأموال اللازمة لشراء السلاح والعتاد والإمدادات اللازمة للثورة الجزائرية، وأن يقوم رجال الجيش المصري والمخابرات بشراء ذلك السلاح والعتاد وإيصاله إلى الحدود الليبية، وهو يأمل أن يشرف رئيس الحكومة (السيد مصطفى بن حليم) بنفسه بنقل ذلك السلاح والعتاد عبر ليبيا إلى الحدود الجزائرية، حيث يستلمه منه ممثلو الثورة الجزائرية، ثم قال جمال عبد الناصر لمصطفى بن حليم: أو لعلك ستخشى الفرنسيين وتخاف بطشهم؟.

فرد عليه مصطفى بن حليم رئيس وزراء ليبيا سابقاً، وقال له: ((يا ريِّس لعلك لا تعرف أن جد الملك إدريس جاء إلى ليبيا من الجزائر هارباً من الطغيان الفرنسي، وأمضى حياته في نشر الدعوة الإسلامية، وإيقاظ الأمة الإسلامية لتقاوم موجة الطغيان والتنصير الفرنسي، ووالد الملك إدريس ظل يقاوم تغلغل المد الفرنسي في تشاد والسودان والنيجر، حتى لقي وجه ربه، والسيد أحمد الشريف والملك إدريس أفنيا عمرهما في الجهاد ضد الطليان…)).

ورد جمال عبد الناصر على هذه الإجابة المقنعة بقوله: ((ألا تستوعب الدعابة؟! إنني أعرف كل هذا، وأعرف أن الليبيين أبطال جهاد، ولكنني أرغب أن أرى رد فعلك… وتبين لي أنك مغربي حاد المزاج لا تتقبل الدعابة بروح مرحة)).

كانت القوات البريطانية المتواجدة في ليبيا والمنتشرة على طول البلاد من طبرق إلى غرب طرابلس، والجواسيس الإنكليز يسيطرون على مراكز حساسة، وموظفون من الإنكليز أيضاً في شرطة ولاية طرابلس، وفرنسا لا تزال تحتل جنوب ليبيا (فزان)، ولسفاراتها في طرابلس وبنغازي جهاز مخابرات من الطراز الأول ؛ وله أعوان وعيون منتشرة في طول البلاد وعرضها، وقد بيَّن السيد ابن حليم تلك الملابسات لجمال عبد الناصر الذي أجاب: ((إنني على علم تام بأن ما أطلبه منك عمل ينطوي على خطورة كبيرة، ومغامرة خطيرة…))، ثم أضاف: ((لولا أنني مطمئن لوطنية الملك إدريس ووطنيتك وحرصكما الشديد على تحرير الشمال الإفريقي من نير الاستعمار الفرنسي البغيض لما طلبت منكم ما طلبت، وعلى أية حال فأنا رهن إشارتكم لأي عون أو نصح أو مساعدة في سبيل هدفنا النبيل لتخليص الجزائر من ربقة الاستعمار)) بعد ذلك قام جمال عبد الناصر بتعريف مصطفى بن حليم بالسيد أحمد بن بلاّ.

كان قائد قوة دفاع برقة الفريق محمود بوقويطين لا يثق في جمال عبد الناصر، ويراه حريصاً على تفجير القلاقل وزعزعة النظام داخل ليبيا، ولربما اتخذ من ستار مرور السلاح إلى الجزائر وسيلة لتوزيع السلاح داخل ليبيا ضد المملكة، وعُرِض الأمرُ على الملك رحمه الله فقال: ((من ناحية لا يمكننا أن نرفض مساعدة ثوار الجزائر في جهادهم، هذا واجب ديني محتم علينا تلبيته، ولا يمكننا أن نتردد في القيام به… ومن ناحية أخرى فإنني لا أريد أن أعرّض استقلال هذا الوطن الذي ضحينا في سبيله بكل عزيز وغال، واستشهد في سبيله مئات الالاف من الليبيين، ولا أود أن أقامر بهذا الاستقلال خصوصاً مع فرنسا التي خرجت عن طورها وترتكب كل يوم الكثير من الجرائم والحماقات في قمع كل حركة استقلالية في الشمال الإفريقي…

ومع توتر علاقتنا مع فرنسا بعد طلبنا إجلاء قواتها عن فزان ؛ فإنها ستلتمس أي عذر لترتكب معنا حماقة كبرى…)).

لقد وافق الملك إدريس على تمرير السلاح من مصر عبر الأراضي الليبية، وقام بتوجيه رئيس الوزراء والمسؤولين عن هذه الأمور باتخاذ الأسباب اللازمة للجمع بين الأمرين؛ مساعدة المجاهدين في الجزائر، وعدم تعريض استقلال البلاد لأي هزة من أي نوع كانت؛ وقام مدير عام قوة دفاع برقة الفريق محمود بوقويطين باتخاذ إجراءات الرقابة التي ستصاحب قوافل السلاح عبر برقة، واتخذ رئيس الوزراء مجموعة خيرة من ضباط مدينة طرابلس يشرف عليهم المجاهد العقيد عبد الحميد بيّ درنة للإشراف على هذه المهمة الخطيرة، وباشر الليبيون مع إخوانهم الجزائريين تنفيذ ما اتفقوا عليه، وتسرب السلاح من ليبيا إلى الجزائر تدريجيّاً، واستمر هذا الحال في سرّية وكفاءة تامتين لمدة سنة تقريباً، وكان الملك رحمه الله يبارك تلك الأعمال الجبارة.

ويحدثنا السيد مصطفى بن حليم عن قصة طريفة حدثت له مع السفير الفرنسي في ليبيا ؛ حيث قال: «أذكر هنا قصة طريفة حدثت في منتصف سنة (1955 م)، فقد كنا في أوائل الصيف، وأذكر كان يوم خميس وكنت على موعد مع الأخ أحمد بن بلاّ (من زعماء ثورة الجزائر) وبعض مساعديه، دعوتهم للغداء ثم التباحث بعد ذلك في أمور السلاح والعتاد والثورة… وأثناء النهار اتصلت به وزارة الخارجية الليبية تقول: إن السفير الفرنسي يلح في طلب مقابلتي حاملاً رسالة من إدجار فور رئيس الحكومة الفرنسية، وبدون تفكير قلت: ليحضر السفير الساعة الخامسة إلى المنزل (منزل رئيس الحكومة) ناسياً موعدي السابق مع ابن بلاّ وجماعته، ورجعت إلى مسكني عند الثالثة، وتناولت الغداء مع الأخ أحمد وجماعته، والعقيد بيّ درنة ومساعديه، ثم بدأنا مناقشة طويلة لاختيار أحسن المواقع التي تخزن فيها شحنات السلاح القادمة، وأثناء انهماكنا في هذه المناقشة الدقيقة دخل كبير المباشرين، (وبرغم أوامري بعدم دخول أحد علينا في ذلك الاجتماع)، واستأذن وأسرّ في أذني أن السفير الفرنسي وصل وأدخله في الصالون المجاور!! وارتبكت، ثم قلت للأخ أحمد بن بلاّ: أستأذنكم لبضع دقائق، فقد حان موعد كنت نسيته مع السفير الفرنسي! وأضفت: لعله لم يسمع مناقشتنا…! وذهبت لاستقبال (مسيو دي مارساي) الذي كان يحمل لي رسالة عاجلة من رئيس وزراء فرنسا يرجو المساعدة في القبض عن طريق العدالة الفرنسية على المدعو (ابن بلاّ)، وتمكنت بصعوبة كبيرة من السيطرة على عضلات وجهي وكتم ضحكة ساخرة… وقلت للسفير: أرجو أن تحضروا لنا صوراً للمجرم (ابن بلاّ) صوراً مواجهة، وصوراً جانبية، ووصفاً دقيقاً للرجل، وتقدموا هذه المعلومات للسيد يجادير جايلز بك في طرابلس، وللفريق بوقويطن في برقة، وسأصدر تعليماتي لهما بمساعدتكم بكافة الوسائل، وودعت السفير، ثم استأنفت الاجتماع، فسألني الأخ أحمد عن سبب زيارة السفير، قلت: أراد المساعدة في القبض عليك! قال: وماذا قلت له؟ قلت: وعدته بالمساعدة بعدما يقدم لي تفاصيل كافية تمكن رجال الشرطة من القبض عليك، وضحكنا كثيراً…)).

  • تدهور العلاقات الفرنسية الليبية نتيجة وقوف ليبيا مع ثوار الجزائر

لقد تدهورت العلاقات بين ليبيا وفرنسا بعدما تأكد للحكومة الفرنسية أن ليبيا تقف وراء حركة الجهاد في الجزائر مؤيدة لها قولاً وفعلاً، وتسربت الأخبار عن الدور السري الخطير الذي كانت تقوم به ليبيا بزعامة ملكها في مساندة الشعب الجزائري ومده بالسلاح والعتاد بالإضافة إلى التأييد السياسي والمعنوي إثر اعتراض الطيران الفرنسي للطائرة التي كانت تحمل أحمد بن بلاّ ورفاقه وهم في طريقهم من الرباط إلى تونس، وأرغمت الطائرة على الهبوط في مطار الجزائر، وتم اعتقالهم هناك.

لقد استشاط غضباً نواب اليمين في البرلمان الفرنسي، ووصلت حملتهم على دور ليبيا في نصرة حركة الجهاد في الجزائر حد الهستريا، الأمر الذي جعل الحكومة الفرنسية تحاول التملص من تعهداتها بالجلاء عن الجنوب الليبي في فترة أقصاها نوفمبر سنة (1956 م)، وقامت فرنسا بإرسال السفير (بالائي) إلى الحكومة الليبية وأبلغها بأن الحكومة الفرنسية لا تستطيع أن تنفذ جلاء قواتها عن فزان بعدما تبين لها مواقف الحكومة الليبية المعادية لفرنسا، وكان رد رئيس الوزراء الليبي بأن حكومته سوف ترفع القضية إلى مجلس الأمن، وطلبت من الرئيس أيزنهاور الأمريكي لكي يتدخل وينصح حلفاءه الفرنسيين باحترام ميثاقهم مع ليبيا.

لقد وقف الملك وحكومته وشعبه مع القضية الجزائرية، وكانت الحكومة الليبية شديدة الحرص على الادعاء بأنها تقف موقفاً محايداً تماماً، فبينما تعطف على امال الشعب الجزائري في الحرية والاستقلال، إلا أنها لا تساعد على أعمال العنف! ولذلك فهي تدعو فرنسا وثوار الجزائر إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات للوصول إلى حل سلمي! كان كل هذا ستاراً دبلوماسيّاً؛ لأن مساعدات ليبيا للجزائر زادت نوعاً ومقداراً، بل سمح للمؤسسات الشعبية في أنحاء ليبيا بتكوين جمعيات شعبية لنصرة الشعب الجزائري وجمع التبرعات، وإرسال برقيات التأييد للثورة الجزائرية، وبرقيات الشجب للحكومة الفرنسية، وكانت الحكومة الليبية برئاسة ابن حليم تدَّعي أن لا دخل لها بالأعمال الشعبية العفوية، وأن خير سبيل أمام فرنسا هو الاستجابة لنصائحها باتباع الطرق السلمية مع الثورة الجزائرية، وإيقاف أعمال القمع والقتل والتشريد التي تقوم بها القوات الفرنسية في الجزائر.

كان رئيس الحكومة الليبية مصطفى بن حليم متعاطفاً مع القضية الجزائرية، ووجد دعماً معنوياً من الملك نفسه، فمضى في طريقه بثقة واطمئنان، حتى إنه لما زار عدنان مندريس رئيس وزارة تركيا ليبيا في عام (1957 م) في شهر فبراير اختلى ابن حليم بعدنان مندريس، وبدأ بحديثه عن دور الأتراك العظيم في نشر الإسلام وزعامتهم للأمة الإسلامية عبر قرون عديدة من التاريخ الإسلامي المجيد، وشدد على روابط الدين التي تربط الأتراك ببقية الأمة الإسلامية، وعلى أن لتركية دورها الإسلامي العظيم بالرغم من دعاوى العلمانية، ثم عرّج بحديثه عن شمال أفريقيا وشرح لمندريس مدى الظلم والقتل والتشريد الذي يعاني منه شعب الجزائر المجاهد، ومحاولات فرنسا قمع ثورته الإسلامية وتنصيره وفرنسته، ثم دخل في صلب الموضوع، وقال لعدنان بك: ((إنني امل أملاً قويّاً أن تمد تركية الشقيقة المسلمة الكبرى يد المساعدة لشعب الجزائر المجاهد في محنته الراهنة)).

قال عدنان مندريس: إنه كمسلم يعطف بكل جوارحه على الشعوب الإسلامية جميعاً، وبنوع خاص على شعوب الشمال الإفريقي، وهو على إدراك تام بما يعانيه الشعب الجزائري في حربه الاستقلالية، ثم قال: ولقد بذلت تركية الكثير من المساعي السرية الحميدة لدى حكومة باريس موصية وناصحة بأن مشكلة الجزائر لا تحل بالقوة والقمع، بل بحلول سياسية وتفاوض مع ممثلي سكان الجزائر، وأضاف إنه على استعداد لمضاعفة هذه المساعي بل وتوسيعها بحيث تشمل ضغطاً وديّاً لدى دول حلف الأطلنطي الأخرى ؛ مثل: الولايات المتحدة وبريطانية وإيطالية، وقام السيد مصطفى بن حليم يشكر عدنان مندريس على مساعيه الدبلوماسية الطيبة، وحثه على المواصلة، وقال له: ((إن مساعدة شعب الجزائر تتطلب أكثر من المساعي الحميدة ؛ فهي تتطلب عوناً ماديّاً، مالاً وسلاحاً)) ونظر عدنان مندريس إلى مصطفى بن حليم وظهر على وجهه الاضطراب واختفت الابتسامة التي كانت تلازمه كثيراً، ثم قال للسيد مصطفى بن حليم: يا أخي العزيز! أنت تعرف أن تركية عضو هام في حلف الأطلسي ؛ فكيف ترى أن تقدم لثوار الجزائر سلاحاً من سلاح الحلف (الأطلسي) لكي يحاربوا به عضواً هامّاً اخر من ذات الحلف ـ أعني: فرنسا؟ فقال مصطفى بن حليم: أنا أعرف أن تركية من أقوى الدول الإسلامية، وهي التي كانت تتولى القيادة والريادة للأمة الإسلامية لقرون عديدة، فكيف ترى أنت يا أخي العزيز ألا تمد تركية العون المادي للجزائريين المسلمين الذين تقتلهم قوات فرنسا وتشردهم أو تعذبهم أنكل التعذيب؟ وما لهم من ذنب إلا أنهم يسعون لنيل حريتهم واستقلالهم!

كرر مندريس مخاوفه الشديدة من عواقب اكتشاف أي شبهة بأن تركية تمد الثورة الجزائرية بأي عون مادي… وكرر عدة مرات بأن هذا سيسبب طرد تركية من حلف الأطلسي، وهو الركيزة الرئيسة التي يرتكز عليها دفاع تركية في مواجهة الخطر الروسي العظيم، وكان ابن حليم يشعر بأن مخاوف عدنان مندريس حقيقية، فهدأ من روعه وقال له: إن الثورة الجزائرية في أشد الحاجة إلى أنواع كثيرة من الأسلحة الحديثة، وهذه الأسلحة متوفرة لديكم، فإذا أعطيتكم كشفاً مفصلاً بهذه الأسلحة وأهديتموه أنتم إلى شقيقتكم ليبيا ؛ فليس في هذا ما يثير أي شك أو ريب لدى فرنسا، وقال مصطفى لعدنان: إن الليبيين سوف يقومون بتسريب السلاح إلى الإخوان الجزائريين تدريجيّاً، ووعده بأن لا يعلم هذا السر إلا القيادة الجزائرية العليا، بل عدد قليل من أفراد تلك القيادة العليا، وواصل ابن حليم حديثه مع ضيفه رئيس وزراء تركية عدنان مندريس، واستعرض له ماضي تركية الإسلامي وتاريخها في الذود عن الإسلام، وإعلاء كلمته، ومزج السياسة بالعاطفة الدينية، إلى أن قال عدنان مندريس: سنقدم لكم هدية السلاح، وأرجو الله أن يوفقكم في إيصالها لأولئك الذين يحتاجونها في الدفاع عن دينهم، أما نحن في تركية فإننا نقدم الهدية لجيش ليبيا الشقيقة فقط، وشدد على المحافظة على السرية المطلقة، وبعد أسابيع قليلة وصلت هدية السلاح التركي، واستلمها الجيش الليبي في احتفال عسكري، ثم بدأ تسريبها تدريجيّاً إلى مجاهدي الجزائر.

كان الملك إدريس رحمه الله بعيد النظر، فبعد أن استقال السيد مصطفى بن حليم من الحكومة في اخر مايو عام (1957 م) ؛ عيَّنه مستشاراً خاصاً له بمرتب رئيس وزراء، وأصر على بقاء ابن حليم في خدمة الدولة، وشرح الملك لرئيس وزرائه السابق أنه سيحتاج إليه قريباً، ثم عرض عليه أن يرسله سفيراً لليبيا في باريس، لأن علاقته ممتازة مع رجال الثورة الجزائرية، ولأن الحكومة الفرنسية قد وصلت لقناعة بأن قضية الجزائر لا تُحل عسكريّاً وإنما بالمفاوضة مع سكان الجزائر، وعندما رد ابن حليم على الملك بقوله: إن الحكومة الفرنسية أصبحت على علم تامٍّ بالدور الذي قام به في مساعدة الثورة الجزائرية وتهريب السلاح والعتاد لها، وإن الثقة منعدمة بينهم وبينه، رد الملك بأن هذا هو خير مؤهل يجعل الحكومة الفرنسية تستعمل مساعيك كقناة للوساطة مع الثورة الجزائرية لتأكدها من أن زعماء الجزائر سيتقبلون نصحك قبولاً حسناً، ويثقون بما تنقل لهم من اقتراحات، وأضاف الملك: ((عليك أن تكمل رسالتك نحو الثورة الجزائرية))، لقد كانت مهمة سفير ليبيا في فرنسا البحث مع الحكومة الفرنسية عن سبل سلمية لإعطاء شعب الجزائر حق تقرير مصيره، وتشجيع الحكومة الفرنسية على انتهاج سياسة التفاهم والتفاوض مع جبهة تحرير الجزائر، والإقلاع عن سياسة القمع والعنف والتشريد ضد الشعب الجزائري.

وبدأ السفير مصطفى بن حليم بتنفيذ دوره الذي رسمه له الملك، وقام الملك إدريس بطلب رسمي من الجنرال ديجول الذي أصبح رئيساً للجمهورية بأن يطلق سراح أحمد بن بلاّ ورفاقه من السجن، أو على الأقل أن يخفف وطأة السجن إلى إقامة جبرية أو شيء من هذا القبيل، وأجاب الجنرال ديجول على طلب الملك إدريس بوساطة سفير ليبيا بفرنسا مصطفى بن حليم الذي حمله ديجول رسالة إلى الملك إدريس ؛ بأن مسعاه لن يذهب سدى، وبعد أيام نُقل أحمد بن بلاّ ورفاقه إلى فيلا في ضاحية (شانتييه) بجوار باريس.

وفي يناير عام (1961 م)، زار ليبيا الكونت دوباري، موفداً من طرف الجنرال ديجول رئيس الجمهورية انذاك، واستقبله محمد عثمان الصيد بصفته رئيساً للحكومة في طرابلس، وكان الكونت دوباري يحمل رسالة خطية من ديغول للملك إدريس السنوسي، وأبلغ المبعوث الفرنسي السيد محمد الصيد رئيس الوزراء أن الجنرال ديجول يريد إبلاغ الملك إدريس عبر هذه الرسالة: أن فرنسا ستعمل قريباً على إيجاد حل لقضية الجزائر يضمن مصلحة الجزائريين، ويلبي المطامح العربية، لكنه يرجو من القادة العرب ؛ خاصة أولئك الذين تعرف عليهم إبان الحرب العالمية الثانية، ومنهم الملك إدريس تفهم ظروف فرنسا الداخلية، ومساعدته حتى يمكن إخراج هذا الحل إلى حيز الوجود، وبالفعل لم تمضِ أربعة أشهر حتى بدأت مفاوضات الاستقلال بين فرنسا والجزائر في 20 مايو (1961 م) في إيفيان.

عقب إطلاق سراح أحمد بن بلاّ ورفاقه الأربعة، وكان يطلق عليهم (الزعماء الخمسة) من السجون الفرنسية، قام هؤلاء الزعماء بزيارة إلى ليبيا، واحتفى بهم الليبيون حكومة وشعباً احتفاءً كبيراً، واستقبلهم الملك إدريس السنوسي، وحثهم على التضامن ونكران الذات، وذكَّرهم بالحديث الشريف الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم : «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر»، وطلب منهم الاهتداء بهذا الحديث، ودعاهم إلى نبذ جميع أشكال الخلاف والشقاق والأنانية التي تضر إن وجدت بالجزائر واستقلالها.

كانت الحكومات الليبية المتعاقبة بعد حكومة ابن حليم تدعم ثورة الجزائر، وكان من وراء ذلك التأييد غير المنقطع الملك إدريس بتوجيهاته المستمرة، وكان يكن في أعماقه عطفاً خاصّاً على ثورة الجزائر الإسلامية.

إن المملكة الليبية بحكومتها وشعبها ساعدت ثوار الجزائر في معركتهم المقدسة ضد فرنسا، وقاموا بمد الثورة بالسلاح والذخائر والمساعدات، وقد حدثني السيد محمد القاضي عبد الكبير الذي كان معي في المعتقل السياسي بطرابلس عام (1983 م)، وكان حاكماً لمنطقة فزان زمن المملكة ؛ فقد أخبرني عن إشراف الحكومة على مخازن الأسلحة، وتوصيلها للمجاهدين في الجزائر، وقد توفي رحمه الله بعد خروجه من السجن، وقد قضى في سجون ليبيا من عام (1969 م إلى سنة 1988 م)، وكان رجلاً عجيباً في دينه وصفاء فطرته، حفظ القران الكريم بعد الخامسة والأربعين من عمره، وكان يتحدث الإنكليزية والفرنسية والإيطالية، وكان شعلة من النشاط والاجتهاد والتعليم، وقد جاوز الستين من عمره، وكان يحافظ على صيام السنن، والنوافل، والقيام، والرياضة البدنية، وكان يقول لي: إن أمله في الله أن يغفر له ذنوبه، وأن يكون سجنه تكفيراً للذنوب والخطايا، وأن السجن وقفة مع الذات وفرصة لمحاسبة النفس لا تعوض أبداً، وإن الذي أكرمني الله به في السجن لولا أن الله منّ علي به ما تحصلت عليه أبداً، وما وصلت إليه، لقد كان فريداً في سنه، وفريداً في نشاطه، فرحمة الله عليه.

إن جميع الساسة والقادة العسكريين زمن المملكة الليبية، والذين كانت لهم علاقة مباشرة بمد الثورة في الجزائر ؛ يشهدون أن الملك رحمه الله كان مسانداً لحركة الثورة، وحريصاً على نجاحها، ولم يقصر معها لا ماديّاً ولا معنويّاً.

مراجع المقال:

  1. علي محمد الصلابي، الثمار الزكية للحركة السنوسية، دار الروضة، إستانبول، 2017.
  2. مصطفى أحمد حليم، صفحات مطوية من تاريخ ليبيا السياسي، ص. ص 351 – 374.
  3. محمد طيب الأشهب، إدريس السنوسي، دار العهد الجديد للطباعة، القاهرة، ص 240 – 243.
  4. محمد فؤاد شكري، السنوسية دين ودولة، دار الفكر، بيروت، ط1 1948.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى